في مفارقة غريبة اغلب الدول المتحضرة اليوم والمنسجمة شعباً، والموحدة وطناً ، مرت بفترة حرب داخلية ذهب فيها المئات من الأبرياء ،وعندما وجدت الأطراف المتخاصمة ان لا جدوى من هذه الحرب التي احرقت الميت قبل الحي ، سوى الجلوس الى الحوار واعلان المصالحة في البلاد ، فهذه الدول العظمى كالولايات المتحدة والتي جات على اثر صراع بين الدويلات المتصارعة وغيرها من دول كانت تعيش حرباً داخلية ، وتحول حالها الى دول متقدمة ومتطورة ويعيش فيها المواطن بمحبة ووئام ، ونسيان صراع الماضي الذي ربما ترك أثراً ولكن مع حالة الانسجام بدا يتلاشى الكره والعنصرية بين الشعوب ، وهنا لا بد من تساؤل هل نتصالح ام نجلس ليعرف كل طوف حقه واستحقاقه ؟!.
تعرض العراق بعد عام ٢٠٠٣ الى حملة ومخطط كبير تقوده قوى غربية وبايدي إقليمية كانت الغاية منه ان يعيش حرب الاخ لاخيه ، وحرب الجار لجاره ، وكان فعلاً صراعاً خطيراً ذهبت في دوامته الالاف من الأبرياء بين الذبح والقتل والتهجير لأسباب طائفية ، وعرفت مناطق محددة سواء في جنوب بغداد او في شماله بأنها مثلث الموت ،كما كان يسمى طريق اللطيفية والذي كان ماكنة الموت التي يقتل فيها الأبرياء من زوار ابي عبدالله الحسين (ع) او القادمين من بغداد الى وسطه .
لا يخفى على المتابع لما يجري في العراق من تصفيات وتسويات سياسية أقليمية ودولية انعكست بالسلب على الوضع الداخلي للعراق ، فنرى بهذا الاتجاه لترسم وضعاً جديداً في خارطته اسمها التخندق الطائفي ،ناهيك عن الوضع المقلق الذي ترغب به القوى الدولية في بقاءه وإدامته في العراق خصوصاً والمنطقة عموماً بشكل يسمح للعديد من الاتجاهات السياسية المختلفة العمل بهذا الاتجاه .
المراقب والمشاهد للفضائيات المحلية يجد انها التزمت هي الاخرى بهذا التخندق ، ورسمت لعملها مخطط جديد هي حرق الخصم وانهاء دوره ، وهذه السياسة بالتأكيد غير اخلاقية ولا تعبر عن اي مفهوم من المفاهيم الاخلاقية للسياسة ، بل هذه المنابر الإعلامية عكست مدى الخلاف والاختلاف في الرؤى والمفاهيم لدى اغلب الكتل السياسية التي مارست العمل الدميقراطي بعد سقوط النظام .
مفاهيم جديدة ظهرت في هذه الفضائيات هي الشتم والتخوين والتوهين ، حتى وصل الحال الى ضرب الخصوم بشخصهم وهذا لايعبر عن المعايير الحقيقية للسياسي الناجح ، او يعكس صورة حقيقية عن هولاء الساسة ، بل يعكس حالة الجهل التي وصل لها السياسي العراقي ، فأصبح يقاد من جهات خارجية ويعمل بيديه على تمزيق بلده وفق تلك الاجندات .
امام كل تلك المتغيرات تظهر لدينا مفاهيم جديدة هي المصالحة والتسوية والتي يراد منها ازالة اثار الصراعات المتراكمة في بلادنا ، مع عدم وضوح النوايا من تلك المصالحة ، هل هي مصالحة ام انها حالة تسوية بين الأطراف ليعرف كل طرفاً حقوقه ووجباته، فالمصالحة مبدأ جيد ولكن مع من يتصالح الجميع ، مع الجميع ام فيما بينهم ، فان كانت المصالحة مع الجميع فيجب ان تكون مع الارهابي والبعثي ، ويجب ان نتصالح مع اصحاب فنادق الخمسة نجوم في الاْردن والإمارات وتركيا ولبنان ، ويجب ان نتصالح مع رجال البعث وقادته ورموز الارهاب في البلاد .
اما عن التسوية فهي تحكم العلاقة بين ثلاثة أطراف لا غيرها ( الشيعة والسنة والأكراد ) والجميع في سدة الحكم ، سواء في السلطة التشريعية او التنفيذية او القضائية ، إذن التسوية تتم بين هولاء لياخذ كل ذي حقاً حقه ، ويبقى الطرف المعارض معارضاً سواء في الداخل او الخارج ، وهكذا نرسم خارطة الحركة السياسية المستقبلية في البلاد ، مع ايجاد اليات واضحة ومحددة على اصحاب التسوية ، لتكوين شراكة تقود البلاد ، ويخسر من يخرج من هذه الشراكة .
اعتقد ان مفهوم التسوية أفضل من مفهوم المصالحة ، لانها لم تنجح يوما ، فكثيرة هي الموتمرات التي عقدت وتعقد ، ولم تخرج باي نتيجة ، ولم تقرب وجهات النظر ، بل لم تحقن دماء الأبرياء يوماً ، لهذا فالتسوية هي الحل الناجع والتي ستفضي الى وضع حدود وقواعد العلاقات السياسية بين القوى الرئيسية في الحكم ، ويكونون هم حراس النظام السياسي من اي خطر قادم .