من أين تسللت كل هذه الهمجية، وكل كمية هذا التوحش إلى شخصية المواطن العراقي؟. فحين نتصفح جرائد العهود (البائدة) المتعاقبة، (السعيدية)، والجمهورية (العبد الرحمانية)، وجمهورية المقاومة الشعبية 1959، والحرس القومي 1963، وجمهورية عدي وحسين كامل المجيد، لا نقرأ خبرا عن مواطن قطع رأس أخيه المواطن ووضعه بجانب طبق الفول، وهو يتناول فطور صباحه الشهي. ولا نجد صورة لعشرين إنسانا أو أربعين أو مئة يقف وراءهم أطفال في عمر الورود ثم يطلقون على رؤوسهم من الخلف رصاصا وهم يُكبرون. ولا نقرأ قانونا يجيز تطهير الدولة ممن يحمل فكرا أو يرى رأيا يخالف الحزب الحاكم. ولا نصادف فتوى إلهية تُشرعنُ الذبح بالسكاكين، وتنادي بأخذ ثأر أربعة عشر قرنا ممن لا يمت بأي صلة قرابة حقيقية ثابتة ليزيد، ولم يثبت أن أحدا من أجدادهم قد اغتال عليا أو قتل الحسين. ولم يصبح نصف العراقيين آل تكريتي ودليمي وسامرائي ودوري، ولا أسماء نصفهم، بعد ذلك، آل حسيني وحسني وموسوي.
وما يثير الغرابة أن الذين امتهنوا القتل، بالأمس، والذين يقتلون، اليوم، بسبب الطائفة أو الدين أو العرق أو القبيلة، يفاخرون بأنهم ورثة حضارة سومر وأكد وبابل وآشور وآرام، رغم أن أيَّ أحدٍ منهم لا يملك دليلا ثابتا وقاطعا على كونه من نسل جلجامش وأنكيدو وسرجون وآشور بانيبال. بل تسعة وتسعون في المئة منهم جاؤوا إلى هذا الوطن المبتلى دائما بالغزاة والمتسللين إما هاربين من عطش وجوع باحثين عن ساقٍ أو طاعم، أو مطرودين من قبيلة، أو حاكم، من وديان اليمن القاحلة، وصحراء نجد والحجاز، أو من بلاد فارس ورومية وخراسان وأذربيجان وسيستان.
ولأن وريث تلك الحضارة العريقة الخالدة التي ما زال العالم يتعلم من حكمتها وعقلها وفكرها الإنساني العظيم هو المواطن المسيحي، الكلداني والآشوري العاقل المسالم المتحضر الذي لم يعرف كيف يحتال، ولم يسرق البنك المركزي، ولم بٌهرب الملايين إلى لبنان ودبي وعمان ولندن وطهران، ولم يقاتل مع جيوش دولة غازية فيقتل، بسلاحها ولحسابها، جنودَ وطنه وضباطه، ولم يُلفق الملفات الكاذبة لإسقاط مخالفيه في الطائفة أو الحزب، ولم ينبش قبورا دارسة مضى عليها زمن سحيق، ولم يؤمن بعودة أحدٍ ماتَ من عدة قرون، ولم يضرب نفسه بالسكاكين، حزنا على راحلٍ من مئات السنين.
وبالبحث والتدقيق يتبين لنا أن ما شهده العراق، في قرن من الزمان، من مشاكسات ومنازعات وحروب، في ظل حكومات غير ديمقراطية مفروضة بقوة الغزو والاحتلال، هو الذي بنى،
رويدا رويدا، هذه الجدران والحواجز بين مواطن ومواطن، مدينة ومدينة، طائفة وطائفة، دين ودين، قومية وقومية أخرى.
ثم حلت الكارثة الأكثر مرارة ًمن كل الكوارث السابقة حين جاء الراحل صدام حسين فأنعش (العنجهية) القومية العربية، وعَمـَّق الخوفَ من الوطن في نفوس سكانه، وحَبب لهم الانقلاب أو الانفصال، فأشعل النقمة في نفوس الكيانات الأخرى غير العربية وغير المسلمة، وأجاز لها أن تهاجر أو تحمل السلاح لا ضد النظام الحاكم وحده، بل ضد الوطن نفسه، مع الأسف الشديد.
ومن غير العدل ولا الإنصاف أن يدعيَ بعضُ زملائنا الكتاب، اليوم، بأن التفرقة الطائفية والعنصرية ولدت بعد سقوط نظام صدام، فقط بجهل المحتلين الأمريكيين، أو بخبثهم، وبفتاوى السيد السيستاني، وأوامر الولي الفقيه، وبأنها لم تكن موجودة قبل ذلك.
بـَلا. هي كانت هناك، حتى من قبل ولادة الدولة العراقية عام 1921. فقد كان العرب يتعالون على الكرد وعلى التركمان، والسنة يتعالون على الشيعة، والشيعة يتعالون على السنة، والمسلمون يتعالون على المسيحيين، والحقد يتمشى في عروق الجميع، ولكنْ خلف أستار ٍمن الرياء والزيف والنفاق. لم تكن الشراكة في المواطنة عادلة، في يوم من الأيام، بين مكونات ما يسمى اليوم بـ (الشعب العراقي). كان دائما هناك ظالم ومظلوم، ساجن ومسجون، سارق ومسروق، قاتل ومقتول.
ولكن أصحاب العمائم البيض والسود والخضر لم يُطفئوا تلك الحرائق النائمة، بل أعادوا إشعالها من جديد، وأفتوا بجواز القتل على الهوية، وبالشبهة، خدمة لله ورسوله وآله المعصومين.
وحتى الأمل بقيامة العلمانيين والديمقراطيين العراقيين من موتهم القـَدري أو الجبْري مات هو الآخر. فبدون قوة نارية حديدية محلية، وأخرى داعمة خارجية، وخزائن مليئة بالعملات العراقية والعربية والدولية، ستظل قوى الديمقراطية والعلمانية العراقية أصفارا سابحة على الشمال.
وكلُ خطابات معصوم وعلاوي والحكيم والعبادي المتقاتلين على المناصب والرواتب والمكاسب، اليوم، حول (خدمة المواطن)، وحماية (الوحدة الوطنية)، كذب واحتيال وضحك على الشعب الذي يظنونه غافلا عما يفعلون. فهم، جميعُهم، غشاشون، غير صادقين، ولا مخلصين.
فلم توجد وحدة ترابية ولا وحدة سكانية من أي نوع، في العراق، منذ نعومة أظفاره وإلى اليوم. ولن توجد ما دام السلاح والمال والسلطة بأيدي المختلسين المزورين. وكل ما كان موجودا مصالحُ قاهرةٌ أجبرت المظلوم على القبول بالظالم، والمسجون بالساجن، والمسروق بالسارق، والمقتول بالقاتل، مؤقتا، وإلى أن تحين ساعة الانتقام.
وحتى الديمقراطية التي يتغنون بأمجادها ويتسترون بأثوابها أثبت الواقع أنها مغشوشة وغير جديرة بالاحترام. فقد داسوا على قوانينها وأحكامها وأصولها حين تقاطعت مع أهوائهم الشخصية
أو الحزبية أو الطائفية أو العشائرية، وأريق على جوانبها الدم البريء، وسوف يبقى يراق إلى أبد الآبدين . وحتى لو فـُرض عليهم حل ٌ من الخارج، وشكلوا حكومة محاصصة فعلى مضض، وسيبقى داخلَ كلِ واحد منهم حجاج وصدام وخميني وهتلر وموسليني وهولاكو مختبئين منتظرين ساعة الحظ السعيد ليبطشوا برفاقهم من جديد.
فلا الشيعة تثق بالسنة، ولا السنة تثق بالشيعة، ولا الأكراد يثقون بالعرب، ولا العرب يثقون بالأكراد. والشيعة لن تعطي رئاسة الوزراء للسنة. والعرب، شيعة وسنة، لن يعطوها لأحد من الكورد أو التركمان. والمسلمون، شيعة وسنة، عربا وكوردا، لن يسمحوا لكلداني أو آشوري أو أرمني أو صابئي بالاقتراب من أبوابها الموصدة.
وكل ما نحن فيه اليوم، من دواعش وكتائب وعصائب وجيوش وجحوش وكروش، غير مهم، ولا يستاهل من القادرين على الإفتاء كلمةً ولو عابرة، بقدر ما يَشغلهم أمر جواز زواج الرجل بمن زنى بها زواجا دائما، وتعريفُ الفتاة البكر، وحرمةُ زواج المسلمة بكافر زواجا دائما أو زواج متعة.
ولو قام حمورابي، وعلي بن أبي طالب، والحسن والحسين، من قبورهم وأفتوا بحرمة القتل على الهوية، بسب الطائفة والعرق والدين، لما استمع إليهم أحدٌ من أحبة نوري المالكي وفؤاد معصوم وأسامة النجيفي وسليم الجبوري. ولله في خلقه شؤون.