طرق بابي في ليلة شاتية ، البرد فيها يغوص في مسامات العظام الهزيلة ،التي أحنتها قساوة السنين ، وأرهقتها ضراوة الأيام ، رجل في أعتاب الخمسين من عمره قال لي بلهجة يائسة ومؤلمة : هل صحيح أنت صحفي ..لقد قالوا لي إنك تكتب عن المشاكل في حياة الناس ..!!
إبتسمت في وجهه ..ورحبت به وأدخلته إلى غرفتي الصغيرة التي كانت في تلك اللحظة أشبه (بالثلاجة ) من شدة البرد ، لأن صوبتي (المصونة ) لم تعرف النفط منذ شهر مضى ، وأما المدفأة الكهربائية الصغيرة ، فقد عافها الزمن ، وعشش فيها العنكبوت بسبب الأنقطاع الدائم ( والحمد لله ) للتيار الكهربائي ..الذي أصبح الحديث عنه ، كالحديث عن (الطنطل أبو سبع عيون)الذي كانت العجائز تخيف به صبيان المحلة المشاكسين في الأيام الخوالي !
حكى لي قصته الحزينة ,وأنا أنصت له بكل خشوع وألم ..أبتدأ من سنين الخوف والقهر والحروب والعسكرية والفوضى ، فاتته الدراسة بسبب الأعتقالات والملاحقات والسجون والظروف الأستثنائية الصعبة التي مرت عليه في حياته ، ثم تزوج أخيراً من بنت الناس في بداية منتصف التسعينات ورزق بستة أبناء (ثلاثة ذكور وثلاث أناث) ..عمل في كافة المهن المتعبة [ البناء ..المطاعم ..بيع الخضروات..بيع العتيك ] ولكنه لم يتمكن من شراء دار أو قطعة أرض سكنية يبني عليها بيتاً يتخلص من كابوس الأيجار وجشع المستأجرين منذ عشرين عاماً ، حاول عشرات المرات أن يسجل في مكاتب الرعاية الأجتماعية التي فتحتها الدولة بعد سقوط النظام السابق ولكن المسكين لم يجد ( واسطة أو عرف ) يسهل له ترويج معاملته عكس بقية الناس الذين يأخذ بعضهم ثلاثة رواتب ، إضافة إلى أوضاعهم المادية الجيدة !!
حاول أن يجد تعيين في دوائر الدولة الخدمية ..ولكن دائماً يُطلب منه الشهادة الرسمية ( على الأقل الثالث متوسط )..بينما أستطاع غيره أن يجلب الدكتوراه (بفلوسه وعلاقاته )من أجل الترشيح للبرلمان أو للمناصب العليا في الدولة !
وجد أرض منعزلة في أطراف المدينة ، بنى عليها بيتاً متواضعا وأسكن فيها أسرته المحرومة ، ولكن يد الدولة (الكريمة جداَ)، إمتدت إليه بكل قساوة وعدم رحمة فأخرجته وعائلته من داره ،وألقته على قارعة الطريق مع عياله ، ثم قامت بهدمها بالشفلات وساوتها بالأرض ، بحجة أن المكان سيخصص متنزه للمواطنين !! وعاد مرة أخرى إلى دوامة الأيجارات ووحشية أصحاب الأملاك وتفننهم بزيادة الأيجار كل يوم !!
وهو اليوم يسكن في دار مؤجرة ( تجاوز ) لاتتجاوز مساحتها 70متراً ، لاتتوفر بها أبسط خدمات الحياة البشرية !!
ولكنه يقول المشكلة ليس أنا وزوجتي .. فنحن قد أنتهى عمرنا ..وتصرمت أيامنا ..وسلمنا أمرنا إلى الله الواحد الأحد ،ولكن المشكلة أبنائنا وبناتنا الذين الآن هم في عمر الزهور ، وجميعهم طلاب مدارس ..ولديهم حاجاتهم ومتطلباتهم اليومية ..وهم لايجدون شيئاً يأكلونه ويفطرون عليه في الصباح ..لأن الوجبة منقطعة من زمان ..ولايوجد في داري سكر أو شاي أو حليب صابون أو تايت أو دهن .. وأنا لاأستطيع أن أشتري هذه الأشياء يومياً لهم ..فماذا أطعم أطفالي ..ومن أين لي ذلك وأنا لاأملك راتباً أو وظيفةً أو عملاَ ..ولاأملك شيئاً في هذا البلد ..وقد تكاثرت علي الأمراض في السنوات الأخيرة ، وأنا الأن أعاني من قلة النوم وكثرة الألم والأحساس بالذل والمهانة من هذه الحياة !!
ثم قال بنبرة فيها يأس فضيع : أني تراودني أفكار أحياناً أن أمنع أولادي من الذهاب إلى المدارس ، وأدعهم يتكسبون طعامهم من أعمالهم ، لأني لاأستطيع أن أستمر في هذا الحال المزري ، وأحياناً أفكر أن [أنتحر أنا وأولادي وبناتي حتى نتخلص من هذه الحياة البائسة اللعينة ]!!
ثم أنفجر باكياً وهو يتلوى من الألم والحزن ..فعصفت بي دموعه عصفاً ، وأجهشت بالبكاء ، وتدفقت الدموع من عيني بكل حرارتها ،حتى شعرت بأن نفسي تكاد تخرج من بدني ، ولكنني تمالكت نفسي ، وهدأت من إنفعال الرجل المسكين ، ووعدته بأني سأكون في خدمته ومساعدته ، وأفهمته بأن تفكيره بمنع أولاده من المدارس سيحرمهم من حياتهم الحقيقية في المستقبل ، وسيقعون في نفس المأساة التي عليها والدهم اليوم ، أما عن قضية الأنتحار ..فأفهمته بأنها معالجة خاطئة لحل المشاكل ، وأنها طريقة غير مستحسنة وغير منطقية للهروب من واقع الحياة الذي ربما يمر الكثير بهذه المشاكل وأكثر من ذلك !!
وفي الحقيقة ..كنت أنصح الرجل المسكين …وأنا في قرارة نفسي أقول بأن له كل الحق في التصرف بحياته وفناء عمره ..هذا العمر الذي لامعنى له عندما لايجد من يهتم به أو يقدم له ، نعم ..فعندما يفقد الأنسان كل مقومات الحياة من ..السكن الشريف ..والراتب الذي يليق به ..والضمان الأجتماعي الذي ينتشله من بؤسه وفاقته …والأهتمام به ورعايته علمياً وفكرياً …وعندما لايجد الدولة تهتم في شؤنه أو تتابع أخباره ، فماذا ننتظر منه حينئذٍ؟؟
أقول : لقد أصغيت لهذا الأنسان العراقي المنكوب جيداً وأستمعت لمشكلته ، وأنا معه في كل ماقاله من أحساسه بالضياع والغبن والتهميش ، ولقد قدمت له شيئاً من المساعدة القليلة جداً ..لأنه على قول المثل (الموزر وقع على العريان ) ..وهدأت من روعه ، ولكني أقول بصراحة ، أنا لا أظمن ثورته وهيجانه مرة أخرى ، ولاأستبعد أن ينفذ أفكاره المأساوية المرعبة ،فيقوم بأنتحار جماعي مريع لأن الظروف تدفعه دفعاً – وكما حدث أخيراً في الكثير من أوساط العوائل الفقيرة وبعض الشباب العاطلين عن العمل الذين وجدوهم فوق سطوح منازلهم وقد فارقوا الحياة بعمليات أنتحار مختلفة – أقول إن هذه الظروف قد تدفعه بعيداً عن أحضان الوطن الذي تخلى عنه في ساعة الشدة !! وكم ياترى مثل هذا الأنسان البائس وعائلته المنكوبة من يعيشون على هامش الوطن ، وفي زواياه المنسية ، التي لايسمع فيها سوى حطام الأحلام ، وقهر السنين والأيام!؟ .