مع انزياح الكابوس المدهون بزيت السلطة والكرسي، والمُبتلى بأسوأ جراثيم النرجسية، والمخزون بمناسيب عالية جدا من الانغلاق والتزمت والحقد الطائفي وأوهام العظمة، وحلول أحد (أولاده) مكانه، جمح الخيال بكثير من العراقيين والعرب والأجانب، فصور لهم أن العراق على يديْ حيدر العبادي سينام ليلة واحدة فقط ليفيق في صباحها (سويدا) جديدة أو (سويسرا) أخرى، بلا مفخخات ولا طائفية ولا محاصصة ولا عمولات ولا صفقات، وأن المواطن العراقي في الداخل سينعم بالحرية والكرامة والتساوي في فرص العمل وأمام القانون، فلا يكون هناك تمييز، لا حكومي ولا شعبي، بين عضو في حزب إسلامي حاكم وبين مواطن عضو في حزب آخر، حتى لو كان مواليا أو مشاركا في حكم حزب الدعوة، وأن المهجرين، داخل الوطن وخارجه، سيعودون إلى منازلهم بأمان، وأن السجون ستفرغ من ساكنيها الذين زج بهم المخبر السري، ومكث بعضهم سنوات عديدة دون محاكمة، وأن ينزع سلاح المليشيات والأحزاب والعشائر كلها، سنية وشيعية، بعدل وحزم ودون محاباة، وأن الفساد سيختفي، وأن المالكي وولده وصهريه ووزراءه ومستشاريه سيقفون أمام القضاء العادل المستقل، بعد رحيل مدحت المحمود، لا للانتقام والثأر، على طريقة إ(ذا سقطت البقرة كثرت عليها السكاكين)، ولكن من أجل حماية الغد من الفساد والمفسدين، ومن الظلم والظالمين، ولإثبات أن الدولة الجديدة ليست امتدادا للقديمة، ولا تشرب من ضرعها، ولا تعيش على هوائها المسموم، وأن رئيس الوزراء الجديد لا يخشى في الله لومة لائم ولا يتستر على أحد، حتى لو كان من رفاقه في الحزب العتيد .
هذه الأحلام الجميلة بعيدة (بُعد للبن وجه مرزوق). طبعا، ومقدما، نتمنى أن يفاجئنا الأخ حيدر العبادي فيكون بطلا وطنيا حقيقيا يخرج من عباءة حزب الدعوة ومن العصبية الطائفية والدينية والقومية ويقرر بشجاعة واستقلال أن يكون رئيس وزراء لجميع العراقيين، مُتحررا، برجولة نادرة هذه الأيام، من كل الموانع المحلية والأقليمية والدولية وضوابطها الخانقة، فيدخل التاريخ إلى جانب عبد المحسن السعدون وفيصل الأول وجعفر أبي التمن ومحمد رضا الشبيبي ومحمد الصدر وفاضل الجمالي وعبد الكريم قاسم وعبد الرحمن عارف، وغيرِهم الكثيرين، فيصبح حبيب الشعب وزعيمه الأوحد.
وحتى لو أراد ذلك فلن يدعه تجارُ السياسة من الشيعة والسنة والكورد يفعل ما يريد. ومخطيء من يظن، منا، أن هؤلاء السياسيين الذين اعتادوا على السلطة والجاه والمال الكثير سيرتفعون إلى مستوى المرحلة، ويرمون أناياتهم المصلحية في أقرب سلة مهملات، ويتخلون عن مواقعهم ومكاسبهم، ويسمحون للعبادي بتشكيل حكومة تناسب المرحلة ليس فيها وزير من حصة كتلة المواطن أو الأحرار أو الفضيلة أو منظمة بدر، حتى لو كان أميا جاهلا لا يفرق بين (فخامة) الرئيس و(ضخامة) الرئيس، أو آخر مفروض من(سيد) أو من مليشيا أو مخابرات شقيقة أو صديقة وافدة من خارج الحدود.
ومن رابع المستحيلات أن نجد فيها وزير الدفاع، مثلا، كرديا خبيرا وطنيا عراقيا أصيلا، ووزير الداخلية سنيا شريفا وعادلا، ووزير المالية كلدانيا كفوءا وأمينا، ووزير الخارجية شيعيا علمانيا متبحرا في مجاله، ورئيس المخابرات تركمانيا محترفا، ووزير التربية عالما صابئيا، مادامت رغبة الجميع، كما نسمع، أن
تتحقق المساواة بين العراقيين وأن تشكل حكومة وحدة وطنية حقيقية على أنقاض نظام المحاصصة البغيض.
فمن التفاؤل غير الواقعي وغير العاقل وغير المشروع أن نأمل في أن يكون بمقدور أيٍ مرشح لرئاسة الوزراء أن يتمرد على زعماء العملية السياسية الحالية التي جاء هو من أحشائها. ثم، من يقدر ومن يجرؤ على تحدي أوامر أحد اللاعبين الكبيرين الحليفين اللدودين، الأمريكي والإيراني، أو التجار الصغار قادة الأحزاب والائتلافات والتجمعات والمليشيات المحلية التي ثبت بالدليل القاطع أن آخر ما يهمهم ويعنيهم مصير المواطن وكرامته وحقوقه وحاجاته وأحلامه وأمانيه؟.
مع من سوف يتفاوض الأخ حيدر العبادي؟ مع التكنوقراط أصحاب الخبرة والكفاءة والوطنية والنزاهة، أم مع رؤساء الكتل، إياها، وقادتها (المعصومين)؟
فمن الآن، والرجُل لم يضع قدمه على أول سلم مبنى الرئاسة بعد، والمشاغبون راحوا يحدون أسنانهم عليه، منادين بعدم المشاركة في الحكومة إذا لم يكن التغيير في النهج، وليس في الوجوه. ومن الصعب أن نصدق بأن التغيير (النهجي) الذي ينادي به المتحاصصون هو ما يريده المواطن ويتمناه ويحتاج إليه.
ومع الموافقة والبصم بالعشرة على ضرورة لم الشمل وطمأنة الشارع السني من أجل توظيفه في حرب بسوسٍ جديدة مع داعش، لابد أن نتساءل، من يمثل الشارع السني اليوم؟. هل نعود من جديد إلى الأخوين نجيفي والمطلق وكربولي، أم ندير البوصلة إلى رئيس عشائر الدليم علي حاتم سليمان والمنتفضين، (وبعضهم قادة وجنود في داعش)، أم إلى أبي ريشة وسعدون الدليمي، أم نبحث عن قيادات جديدة من صنع داعش والعشائر الملتفة حوله؟
ثم، ماذا ستكون مواقف الدول والمنظمات والأحزب العربية والكوردية من فكرة تجنيد عراق خيدر العبادي لحرق أوراقها الرابحة وعرقلة مشاريعها التي حقق لها داعش في أيام ما عجزت عن تحقيقه ملياراتها وأسلحتها ومخابراتها في سنين؟
نعم، سوف يحاول العبادي جهده، وقد يكون مخلصا وراغبا بصدق وحمية وشجاعة ورجولة في إخراج الوطن من عنق الزجاجة، بعدة دوافع، منها الشخصية لكي يثبت أنه رجل دولة، ومنها الحزبية للحفاظ على هيمنة حزب الدعوة والمعسكر السياسي الشيعي، أو الإقليمية للوفاء بأفضال الجارة إيران، أو الدولية لمسايرة الرغبة الأمريكية في إعادة العافية والوحدة والاستقرار والعدالة الاجتماعية إلى العراقيين، بعد خراب البصرة، وتصحيح مسار الديمقراطية المزعومة، ومنع المحاصصة الطائفية.
وهذا أمر يصعب تصديقه والثقة به، خصوصا وأن الدمار الذي لحق بالدولة العراقية، على مدى السنوات العشر السابقة، كان زراعة أمريكية محنكة، مع سبق الإصرار والترصد، من أول أيام سقوط نظام صدام ووثوب إيران وأحزابها العراقية على صدر هذا الوطن السليب، تحت سمع الحاكم الأمريكي وبصره ووصاياه.
قد تكون هذه نظرة متشائمة إلى حد كبير، ولكن المقدمات لا تعطي إلا النتائج التي لا يتسمح بغيرها. وأرجو أن أكون مخطئا.
سامحوني. إن العراق بوضعه الحالي، وبجيرته الحالية، وبتماسيح أحزابه وتنظيماته ومليشاته، بحاجة إلى طرزان، ولا أظن أن حيدر العبادي ذلك الطرزان.