أن غالبية الشعراء يجدون في كتاباتهم ما يستطيعون التعبير عنه وبخلاصة ما يعانوه من تجارب فكرية وإنسانية تتفاعل مع الرؤية والتأمل والجمال والخيال ، متناغمة مع الإحساس اللغوي والإيقاع الشعري الذي ينسج الشكل الإبداعي المنظور ، واختيار القاموس من المفردات ا لتي تقبع في عقل الشاعر ،لتتشابك تلك العناصر المركبة ،لتظهر من كيانه القصيدة ، بفعل البناء الفني الجمالي الذي تأسست عليه ، إذ يتوخى الشاعر الحذر من التشكيلات غير الضرورية في البناء المحكم للقصيدة،هذا الحذر المشبوب باللهفة ،يؤدي بالشاعر الى امتلاك ناصية البحث عن منافذ تدخله معالم جديدة لرؤيته وتأمله وخياله ، لتحيله إلى منابع ثرة ، هذه المنابع هي حصيلة وخلاصة تجاربه ، لذا نجد من الضرورة التنبيه إلى المعالجات الحسية والعقلية التي يريدها الشاعر وهو يراقب انفعاله ، إثناء الكتابة وبعدها ، لأنها العلامة التي تجعله ،يتواصل في الكتابة ، ومن هذه التجربة ، يكون عليه أن يراقب كل شيء ، بدءا بالفكرة ، وانتهاء بالأسئلة التي تنتهي فيها القصيدة ، أو بالمنافذ التي يوصلها الشاعر إلى القارئ، ونحن هنا غير متناسين رؤية القارئ لهذا المنجز الإبداعي الذي أراده الشاعر ، وعبر هذين العالمين، تتواصل أفكار الشاعر مع القارئ ، ومن هنا يكون التميز ، خاصة إذا كان القارئ ناقدا ، يدرك ما يكتبه الشاعر ، ويعرف أدواته ، ويدرك عوالمه الشعرية والشعورية أيضا .
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أهمية المزاوجة الحقيقية بين أفكار الشاعر وعوالمه ، وبين أحاسيس المتلقي وتفاعله مع القصيدة ، لان كلتا الحالتين تدخلان في الرؤية الجديدة التي تتشكل بينهما .
ولا يهمنا في هذا المضمار، ان نذكر ، ان الشعر وقيمته عند القارئ ، هو الخلاص الذاتي المتواتر بين العوالم الجديدة التي يقدمها الشاعر ،وبين الذات المتشكلة ، إثناء القراءة ، للقارئ نفسه ، بمعنى ، ان الشاعر يدرك تأثيره على القارئ، هذا القارئ لا يستطيع ان يتواصل مع القصيدة ، الا اذا تطابقت الأفكار والرؤية لدى الشاعر معه ، فيكون لزاما على المتلقي ، ان يبحث عن معالم هذه القصيدة وأبعادها عند الشاعر .
الشعر لدي حالة من التوجس الخفي مع الوجود والعالم ، وحالة من الاسفار الدائمة بين الذات ، وحالة مضادة مع الأحاسيس أحيانا ، وحالة من الكشف المستمر ، وحالة تسحبني الى المجهول دائما .
والشعر أبواب مغلقة عليّ فتحها ، وتبيان ما وراءها ، تلك الإسرار التي تجعلني ،أفك رموزها، وعناصرها ، وأشكالها ، وما تحتويه من أسماء ، ومن ثم أحاول أن امتلاكها حسيا ، ومدى تأثيرها عليّ ، والتي تجعلني في دوامة القلق الذي لا ينتهي .
ولأن الشعر يتقدمني ، فأنا أسعى إليه كالذئب ، وكالنار ، وكالصوت ، وكالريح ، لا ابالي ما يحدث لي ، سوى أن أتخطفه ، ويتخطفني ، أهاجمه ، ويهاجمني ، وهكذا امسح الزمن بيني وبينه ، لاشكّل زمني الخاص ،هذا الزمن هو الذي يجعلني أن أتحرك بحرية الى الأمام ، تاركا خلفي ، كل شيء.
الشعر لا يبالي بالشاعر ، أنّى كان ، والشاعر يسعى الى الشعر بشتى السبل ، ولا منقذ له ، سوى القوة الكامنة فيه ، هذه القوة ، لها مساراتها التي لا تنتهي ، ولا يستطيع معرفتها ، وسحبها ، الّا الشعر ، لانه الثقب الأسود ، الذي يبتلع كل شيء ، فهو في سورة جبارة ، يتقدم بحركته ، ماسحا ، وكانسا ، كل الشعراء الى المجهول .
[email protected]