(العنوان مستقى من أغنية المطربة اللبنانية نهاوند)
المقال بمناسبة مرور الذكرى السادسة على رحيل الصديق هاشم القريشي والذي صادف قبل بضعة أيام.
بيني وبينه ألفة ومودة، وإستمرت على هذا النحو حتى رحيله. ومن محاسن الصدف التي لا بأس من التذكير بها، أن كان من أوائل الرجال الذين التقيتهم ومع وضع خطواتي على طريق الإغتراب وإختيار المنفى إضطرارا كملاذ لي. وعن أبو علي أو أبو زيد كما هو متعارف عليه بين أبناء قريته، نسبة الى ولده البكر الذي تمت تصفيته على يد قوى الإرهاب، كان قد سبقنا في مغادرة بلده، لتطوعه كمقاتل مع إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية اليسارية، فضلاً عن أسباب أخرى ما عادت بالخافية على أحد.
وبحكم العلاقة التي جمعتنا والتي قاربت الأربعين عاماً أو يزيد، فقد كانت تدور ما بيننا أحاديث طويلة ومعمقة ومتنوعة، كان حصة الأسد فيها ومدارها الجانب السياسي وما حلَّ ببلدنا من كوارث، نتفق في بعضها ونختلف في غيرها، مع بعض الشد والجذب. وإن كنت قد نسيت الكثير منها بفعل تراكم الزمن والأحداث عليها فسوف لن أنسى ما كان قد قدمه لي من نصائح ووصايا، فكانت من بينها والتي لا زال رنينها وصداها يترددان على مسامعي: إياكَ وقطع الصلة. في حينها وجدت نفسي مجبرا على الإستفهام والإستيضاح أكثر عمّا يعنيه أبو علي، فردَّ قائلاً: أعني إياك وقطع صلة الرحم مع الوطن ومع َمَنْ تُحب. فكانت نِعمَ النصيحة ونِعمَ القول.
ولإلقاء الضوء على بعض من سيرته، فأكاد أجزم بأن أبو علي وفي الفترات الأخيرة من حياته وعلى الرغم من سعة علاقاته وتنوعها، أن ليس هناك من أحد يكشفٌ له ما يمر به من مصادفات وصعوبات ومن وقائع يومية، وبمستوى عالٍ من الثقة والصراحة، كما اعتاد أن يكون عليها معي، حتى الفتني وقد تحولتُ الى أشبه ما أكون بخازن أسراره وحافظها. وآخر ما كشفه لي وحدثني عنه على سبيل المثال وقبيل رحيله بفترة قصيرة جداً، وبين الجد والهزل وبعض الدعابات المتبادلة التي اعتدناها، ما كان قد رآه في منامه.
فراح مشرعاً القول:
لا أعرفُ كيف حطَّ بي الرحال على أرض سمرقند، وكيف تجولتُ في درابينها وشوارعها بحثا عن احدى الحانات، ﻷحتسي من الخمر ألَذَّهُ وأطيبه. وأخيرا (لا زال الكلام له) وبعد قطعي من الوقت وبما يزيد على الساعة مشياً، وإذ بي أتوقف عند أحدى الواجهات، المزدانة بصور على درجة عالية من الجمال والجاذبية وما تسعد لها الروح وتهنأ. قلت في سرّي لألج المكان إذاً، ففعلت، وإذا بجمهرة واسعة من عشاق الغناء والطرب الأصيل، مجتمعون على شكل حلقات، يحيطون بطاولات فارهة في أبعادها، زاهية بألوانها، سخية في كرمها، وليبادر أحدهم وبعد أن أحّسَّ بحيرتي، بدعوتي للجلوس معهم ومشاركتهم فرحتهم، فكان ما كان ودارت الأقداح.
هما كأسان أو ثلاثة على أرجح الظن حتى بلغتُ غايتي من الراحة والإسترخاء، ولأشعر اثرها بنشوة ما بعدها نشوة، فحلَّقَت بعيداً. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمؤشرات الشجاعة والجرأة أخذت بالتسلل ألي، لتفسح في المجال للدخول في نقاشات حامية الوطيس وعلى مستوى عالٍ من الجدية مع مجموعة من جلاّس الحانة وندماءها ومن خيرة القوم. هذا ما بدا عليهم ومن خلال مظهرهم وأسلوبهم، كذلك في كيفية تعاطيهم وتعاملهم مع الغريب.
وكي أصدقك القول، فلم أعد أتذكر بأي اللغات تحدثت اليهم، لكني وفي كل الأحوال فقد نجحت وعلى ما أزعم في إيصال ما جال في خاطري، حريصاً على التوقف عند أبرز المحطات وأكثرها أهمية، فشرعت بإستعراضها بتأنٍ تام وحذر شديد وبتواريخ محددة لا زلت أحفظها عن ظهر قلب، على الرغم من تراكم السنين عليها ورحيل العديد من رجالها. في ذات الوقت فقد تعمدت إستبعاد الكثير من المواضيع التي قد تسبب الملل والضجر في نفس المتلقي، مستفيداً في ذلك من الدرس الذي تعلمته أثناء خوضي لنقاشات عديمة الجدوى والفائدة مع جهال القوم.
أمّا إن سألتني عن طبيعة الأحاديث التي تمَّت إثارتها وتناولها، فقد تراوحت ما بين الخوض في شخصية احمد صالح العبدي، الذي كان قد عُيِّن حاكما عسكريا عاما بعد نجاح ثورة تموز سنة 1958 في العراق، وما بين التوقف عند أغاني العشق والهوى ومنطق الطير وطبيعة العلاقة الحميمة التي تربطني بذلك العالم، فضلاً عمّا يجمع الحبيب بحبيبته وتبادل رسائل العشق بينهما. كذلك شرعت وبعد أن حلى لي الجو وطاب، وشعرت بأن ذائقتي الشعرية قد فُتِحَتْ أبوابها وعلى مصراعيها ومن دون قيود، بقراءة آخر القصائد الشعبية التي كنت قد فرغت من وضع اللمسات الأخيرة عليها قبيل غفوتي بدقائق، مستعينا ببعض الحركات والإشارات المناسبة، والتي قد تعين المتلقي على فهمها.
الأهم من ذلك وبعد أن طاب المقام وإستأنس الحضور بما قرأته من شعر وما تركه من إنطباعات إيجابية في نفوسهم، فقد إنتقلت وبناءاً على رغبتهم وإلحاحهم الشديدين الى مناخ آخر لا يمت بصلة بما سبقه، حيث قمت بإستعراض وجرد آخر ما توصلت اليه التكنولوجيا الحديثة من إبتكارات وما انتجته دوائر الصناعات العسكرية الحربية الروسية، المتصدية دائما وبقوة لقوى الإستعمار والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مستعرضا كذلك ما كنت قد أقدمت عليه وفي إحدى المناسبات، حين تصديت وبمفردي لإحدى المظاهرات المناوئة ﻵخر زعماء البلاشفة النجباء الا وهو الرفيق فلاديمير بوتين.
بالمناسبة، فما أن أتيتُ على ذكر اسم الرفيق بوتين، وإذا بالحاضرين يقفون جميعاً وبميقات واحد، مصفقين مهللين هاتفين بحياته وبحياة الإتحاد السوفييتي وقادته العظام. ناسين أو ربما كانوا في غفلة أو ليس لديهم خبراً بأن هذا الإتحاد ودولته قد صارا في خبر كان. أو قد يكون وهذا إحتمال آخر وأظنه الأرجح، بأنَّ الأمل لا زال يحدوهم بعودة ذلك العهد وتعود معه منظمة التعاون الإقتصادي (الكوميكون)، الداعمة لإقتصاديات شعوب العالم الثالث، والتي كانت تضم مجموعة الدول الإشتراكية. غير أنّ ما أدهشني وأفرحني أكثر وفي آخر الحلم وقبيل يقظتي، أن وقف الجميع وبلحظة إجلال وكبرياء، وراحوا يغنون سوية، نشيد الأممية:
بجموع قوية هبوا لاح الظفر، غد الاممية يوحد البشر.
انها لأيام زاهيات حقاً، ولا ندري إن كانت ستعود أم أمست حلما كحلم أبو علي … .