لعل واحدا مما يحزن هذه الأيام هو الغياب العربي شبه الكامل عن المشهد العراقي , ففي وقت يتعرض له العديد من أبناء العراق إلى خطر محدق ومستقبل مجهول يلتزم فيه العرب صمتا مطبقا في التعبير عن مواقفهم , وإن كانت لهم مواقف معينة من الحكومة أو العملية السياسية فإنها تغاضت عن مصير الشعب , فلا قلق ولا تنديد ولا معونات ولا أية مواقف صريحة في الوقوف إلى جانبنا في هذه الظروف , وكان ما يثير التساؤل أن ينعقد اجتماع وزراء الخارجية العرب في السعودية والتي تبادلت الاتهامات مع الحكومة العراقية منذ بداية الأزمة الحالية ولذلك لم يخرج الاجتماع سوى بالنصائح والتحليل من دون أية إجراءات .
ورغم إن العراق لا يعول على المواقف العربية في حل مشكلاته لان اغلب القادة لم يكونوا طرفا في الحلول في الكثير من المصائب العربية السابقة وإنما ( أحيانا ) أطرافا في تعقيد المشاكل والهروب عن الحلول , فعند نشوء المشكلة السورية تم انتزاع عضوية الجامعة العربية من سوريا وتسليمها إلى المعارضة , والأخيرة عجزت عن تسمية ممثليها بسبب صراعاتهم مما أبقى الطريق مسدودا مع الحكومة لغرض الضغط عليها أو التفاوض معها كما بقي المقعد شاغرا لعدم وجود اتفاق على من يمثل الشعب السوري , الذي لم تنته معاناته لحد الآن حيث يعيش أكثر من أربعة ملايين مواطن في النزوح واللجوء بشكل أوجد الصعوبات في إغاثتهم بشكل إنساني .
إن السبب الأساسي لغياب الموقف العربي عن العراق يعود إلى نتائج عمل بعض السياسيين وقد يكون منهم من المشاركين في العملية السياسية , ممن نقلوا تصورات إلى العرب بان حالة من التهميش والإقصاء يعاني منها الشعب العراقي , كما لعب الإعلام دورا في الترويج لفكرة دخول العراق في الحاضنات الأمريكية و الإيرانية , وقد كان جهد هؤلاء في إيصال رسائلهم للعرب أكثر من جهودهم المبذولة داخل أروقة مجلس النواب أو في العلاقة مع التحالفات السياسية في الداخل لحل المشكلات التي يروجون لها بامتياز , ولعل ذلك يعود إلى استسهال الحل الخارجي على الحل الداخلي تكرارا لتجربة إسقاط النظام التي هي نتاج الجهود المبذولة بالخارج والتي أدت إلى التدخل الأجنبي .
ولعل الخطأ الكبير الذي وقع فيه البعض هو عدم القدرة على التمييز, ففي الحالة الأولى التي زحفت بها الجيوش الأمريكية ومن تحالف معها لإسقاط النظام لم تكن لأجل سواد عيون المعارضة كما يشاع في المثل العامي وإنما لتحقيق مصالح المتحالفين التي وجدت في اندفاع بعض المعارضين لباسا يغطون فيه احتلالهم من باب التسويق واستحصال الموافقات , ويعني ذلك من الناحية العملية إن أعادة احتلال العراق هو مجرد حلم يراود البعض ولكنه غير قابل للتطبيق , وقد أعلن ذلك علانية الرئيس الأمريكي باراك اوباما قبل أيام عندما وصف المشكلات التي يعاني منها العراق بأنها داخلية ويتوجب حلها من خلال الانسجام بين السياسيين أنفسهم وذكر بأنه سوف لن يكون هناك تدخلا عسكريا في العراق , رغم إن حكومته قد وقعت اتفاقية إستراتيجية تلزمه بتقديم العون للعراق في مكافحة الإرهاب .
وعودة إلى الموقف العربي , فان العرب لم يعد بإمكانهم التغيير بأية مواقف كما إن تأثيراتهم لم تعد فاعلة لاسيما بعد ماشهدت ما يسمى بالربيع العربي الذي نشر الفوضى الخلاقة في عموم الوطن العربي , بحيث أبقى كل دولة منغمسة في جراحاتها فالأوضاع في سوريا واليمن وتونس وليبيا والسودان معروفة للجميع كما إن مصر( أم الدنيا ) قد تلمست الحل ولا تزال تحت التهديد , أما دول الخليج فإنها في واد والعرب في واد آخر آخذين بالحسبان بان أصابع الاتهام لاتزال توجه لهم في صناعة الأزمات العربية التي أسقطت الزعامات التي كان لها نوع من الحظوة على المستويين العربي والدولي , كما إن جامعة الدول العربية أصبحت غير قادرة على حل مشكلاتها المتعلقة بالقبول والمبادرة والتمويل .
وفي ظل الغياب العربي وتنصل الدعم الأمريكي لإيجاد المساعدة في حل مشكلاتنا فهناك عرضين وهما الروسي و الإيراني , والموقف الروسي هو موقف استعراضي وغرضه التلميح لإنشاء منطقة نفوذ في هلال يمتد عبر إيران وسوريا والعراق ولبنان , فروسيا منغمسة في مشكلاتها مع أوكرانيا وهي تحت تأثير العقوبات والتهديد بمضاعفتها من قبل الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن ولا يمكن لها أن تتدخل عسكريا في العراق عدا ما يتعلق بتسريع تنفيذ صفقات للأسلحة للعراق وبضمنها الطائرات الدفاعية والقتالية والصواريخ , أما إيران فرغم استعدادها للتدخل بناءا على طلب رسمي من الحكومة إلا إن تدخلها قد يعقد المشكلات إلى حد كبير ويثير العديد من الشبهات والمسوغات من قبل الآخرين لزيادة الأذى للعراقيين , لان الاضطرابات التي تحدث في مناطق جزءا منها تتهم إيران بأنها السبب في الوصول إلى ما وصلت إليه , ولكن يمكن لإيران أن تكون ساندا اقتصاديا لتخفيف معاناة السكان وتعمل على ضبط حدودها مع العراق .
وأمام ما تم عرضه فان الحل الأكيد الذي يبعد الوطن عن ما يطرح من احتمالات يبقى بيد العراقيين بشرط توحدهم , فحتى وان كان دخول تنظيمات داعش برضا أو بمعزل عن بعض السياسيين أو بعض السكان فإنهم سيصلون في يوم ما إلى نتيجة واحدة لاغير, وهي طلب النجدة لتخليصهم منهم وكلما تأخر إدراك هذه النتيجة فان الخسائر تتعاظم , والسبب هو إن داعش لا يتقبل فكرة قيادته من قبل الآخرين لأنه يطلب مبايعة من يتحالف معه نظرا لأهدافه التي يريد تحقيقها بأسرع وقت ممكن مستثمرا الظروف التي تمر بها المنطقة بوضعها الحالي والتي يعتقد في ظلها بانه في أحسن الحالات , وربما ساعده على ذلك تقليل اعتماده على التمويل الخارجي نظرا لتمكنه من إيجاد مصادر للتمويل الذاتي بعد ( المكاسب ) التي حققها في سوريا والعراق .
ومن الناحية العملية , فان إمكانيات الحل العراقي لاستئصال ما يمر به من انتشار مجاميع مسلحة ممكنة جدا , على أن يكون ذلك بحلول سريعة وبهوية عراقية مجردة عن الطائفية بأي شكل من الأشكال وهذه الحلول تتطلب من الجميع ادراك المشكلة والاتفاق على الحلول وعدم التعويل لا على الحلول العربية ولا الحلول الأجنبية , ويستلزم ذلك وعيا سياسيا مقرونا باتفاقات حقيقية ما دمنا في مرحلة تشكيل الحكومة الجديدة وهي مرحلة ايجابية إن استثمرت بالشكل الصحيح ولكنها ستكون سلبية إن لم تتم فيها اتفاقات حقيقية , ومن المؤكد إن بعض المتواطئين أو المعولين على داعش لحل مشاكل العراق السياسية وغير السياسية ربما سيسعون لمقاطعة الحلول واختلاق المشاكل لإطالة فترة تشكيل الحكومة وهذه الفترة سيستفيد منها الأعداء في السعي لتحقيق المزيد من الأهداف العسكرية لخلق حالة من الإحباط العسكري والسياسي .
إن القراءة البسيطة لتوقيتات الأعمال المسلحة التي حصلت في الموصل وصلاح الدين والتي هي امتداد طبيعي لما يحصل في الانبار كما إنها صفحة لاحقة من أحداث سوريا , تثبت بان اختيارها قد تم بعناية بالتزامن مع انتهاء فترة ولاية مجلس النواب والتناحر بين السياسيين وغياب الموازنة المالية والتي ولدت حالة من الاستياء الشعبي , كما إنها جاءت في فصل الصيف حيث تسهل فيه المناورة نظرا لعدم وجود الأمطار وسهولة التحرك على الأرض واقتراب موعدها من شهر رمضان المبارك لتحقيق استفادة (للمهاجم ) من هذا الشهر , ولكن القراءة ليست كافية فالمهم هي الحلول ومهما كانت الردود العسكرية قوية فإنها ليست بالضرورة الوسيلة الوحيدة للحل لان الحل يمتزج في الأصل وهو سياسي بامتياز .