-1-
تشير بعض التقديرات الى ان الذين خرجوا مع الامام الحسين (ع) حين اتجه من مكة الى العراق كانوا بحدود عشرة آلاف انسان ..!!
وليس بامكان باحثٍ ان يطفف من أهمية هذا العدد الكبير ، لاسيما في ظل الأجواء المرعبة التي أحدثها الأمويون ، والأساليب الدموية القمعية التي مارسوها مع خصومهم السياسيين …
ولكنّ هذا العدد الضخم لم يكن منخولاً …!!!
كان يضم الكثيرين ممن كانوا يريدون الغنائم والمكاسب، ولم تكن دوافعهم نقيّة سليمة .
انهم سمعوا أن الكوفة بانتظار الحسين (ع)، لتهّب معه في ثورة عارمة، تحطّم الكيان الدموي الظالم ، وتنهي الى الأبد سطوة الجبّار الغاشم …
وحين وَصَلَ خبر استشهاد مسلم بن عقيل (ع) الى الحسين (ع)، بدأ هذا العدد الضخم بالتناقص، وانسحب من انسحب ، ولاذ بالفرار النفعيون والانتهازيون من عبيد الدنيا ..!!
ان استشهاد مسلم بن عقيل (ع)، جعلهم على يقين، من أنَّ المعركة لن تحسم عسكرياً لصالح الحسين (ع) ومن معه ، وغاب عنهم ان الحسين (عليه السلام) بثورتهعلى الظلم والطغيان أمتَلَكَ مفاتيح النصر السياسي والانساني، وحطّم حواجز الزمان والمكان ، واستقر خالداً في وجدان الحرائر والأحرار ، موئلاً للحرية ، ومعلما للشموخ ، ورائداً لمعركة الحق مع الباطل ، التي تتجدد فصولها ، وتتعدد مواقعها ، وأسماؤها .
-2-
انهزام أنصاف الرجال وفرارهم بمجرد وصول خبر استشهاد مسلم بن عقيل وهم في الطريق الى كربلاء لم يكن الاّ الدليل العمليّ على صحة ما اكتشفه الامام الحسين (ع) من قوانين الحراك الاجتماعي حينما قال :
( الناس عبيدُ الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درّت معائشهم ، فاذا محصوا بالبلاء قلّ الديّانون )
ان فرار المنتفعين من الزحف المقدس، أضفى على معسكر الحسين (ع) صفةً فريدة .
فلقد وقف الحسين (ع) يوم عاشوراء مع أهل بيته وأصحابه – سلام الله عليهم أجمعين – في صفوةٍ طاهرة، كانت تداعبها طيوف الجنّة ، وكانت تشتاق الى الحور العين، لا الى الولايات والمناصب والطين …
يقول الشاعر :
لو لم تكن جُمعتْ كلّ العُلا فينا
لكان ما كان يوم الطف يكفينا
يومٌ نهضنا كأمثال الأسود به
وأقلب كالدبا زحفاً أعادينا
جاؤوا بسبعين ألفاً سلْ بقيتهم
هل قابلونا وقد جئنا بسبعينا
ان هؤلاء السبعين غيرّوا وجه التاريخ ، وكتبوا معادلات جديدة في قضايا الكفاح الدامي من أجل الانسانية وتحريرها من القيود والأغلال .
-3-
مِنْ هولاء السبعين :
جون مولى أبي ذر
لقد برز يوم عاشوراء لقتال أعداء الله والانسانية، مُوَطِّناً نفسه على الشهادة… فقال له الحسين (ع) :
{” انت في اذن مني، فانما تبعتنا طلباً للعافية ، فلا تبتل بطرقتنا}
فوقع على قدمي ّ ابي عبد الله يقبلهما ويقول :
ياابن رسول الله
أنا في الرخاء أَلْحَسُ قِصاعَكمُ،
وفي الشدّة أخذلكم ،
والله ان ريحي لَنَتِنٌ ،
وان حسبي للئيم ،
ولوني لأسود ،
فتنفس عليّ بالجنة، لتطيب ريحي ، ويبيض لوني،
لا والله لاأفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم
فاذن له الحسين
وحَمَلَ وقاتل حتى قتل خمساً وعشرين رجلاً حتى سقط مضمخاً بدم الشهادة مشى اليه الحسين ووقف عليه وقال :
{ اللهم بيّضْ وجهه ،
واحشره مع الأبرار
وعرّف بيْنَهُ وبين محمد (ص) }
ان (جون) اختار الشهادة بملء ارادته ، ولم تفرض عليه من خارج .
وهنا تكمن العظمة
ان الفارق بين (الرساليين) وبين (الانتهازيين) لكبير جداً
انّ الرسالي صاحب قضية عادلة ، آمن بها ، وعاشها بكل ذَرة من ذرات وجوده ، ومنحها ما تستحق من جُهده وَعَرَقِهِوَدَمِهِ ، واستعذب الشهادة من أجلها .
ومثل هذا الانسان لن يموت
يموت جسمه ، ولن يموت موقفُه وذِكْرُه أبداً ….
أما الانتهازي ، الغارق الى شحمة اذنه بالمطامع ،فهو يدور مع المغانم، ويميل اينما مالت، بعيداً عن الله، وعن كل الحسابات الموضوعية والانسانية، لذلك فهو ميّت في الاحياء، منبوذ محتقر من قبل الناس، لن يُبقى له التاريخ الاّ الصفحات السوداء وكفاه بذلك خزياً وخسارة ….