الى/ الشاعر ابراهيم البهرزي
كنت أتمنى، وانا أقرأ المنشور الثاني للشاعر ابراهيم البهرزي، على صفحته في “الفيسبوك”، أن ينتقل الحوار بيني وبينه إلى حوار معرفي، ثقافي، وربما سياسي أو سوسيوثقافي، يخدم الثقافة العراقية الجادة وتاريخها، ويحترم القراء والمثقفين والباحثين عن الحقيقة، بعيداً عن التزييف والتلفيقات والفبركات الرخيصة، لكن الشاعر البهرزي أصرّ على ان يكشف دفعة واحدة عن خزينه المعرفي وترسانته في “شعرية” السباب والشتم والقذف ليجعل “معجم” الهجائين العرب أمثال الحطيئة والفرزدق أثرا بعد عين.
وإحتراما للذوق العام، ولسمعة الثقافة العراقية الجادة من الشامتين وانصاف الاميين، فسوف أربأ بنفسي عن الهبوط إلى هذا الدرك الذي آثر الشاعر ان يسقط فيه باختياره، وأعلن عن استعدادي للدخول في مناظرة فكرية متوازنة وجادة نتيح فيها الفرصة للقراء والمثقفين للتعرف إلى وجهتي نظرينا في الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي والنقابي، هذا اذا كان الطرف الآخر، يمتلك معجما حوارياً، غير معجم السباب والشتائم والافتراءات.
أنا، كما يعلم أصدقائي واعدائي معاً رجل صريح، كتاب مفتوح في التعامل مع كافة القضايا، مهما كانت شائكة، التي يتعين عليَّ مواجهتها.
بدأ البهرزي سجاله بأكذوبة أولى لا تنطلي على القارئ اللبيب مفادها اني قد انتقدته لانه لم يقف مع الاحتلال، حيث قال مدعياً بالنص الواحد: “وقلت ان الشاعر اتخذ موقفا سلبياً من الاحتلال” وأنا لم أقل مثل هذا الادعاء بل تحدثت عن الموقف من العملية السياسية والثقافية بما فيها وما عليها، وقلتُ بالحرف الواحد “لكن الشاعر اتخذ كما يبدو منذ الاحتلال وسقوط النظام الدكتاتوري موقفاً اقل ما يقال عنه انه سلبي، ولم يكشف عن أي تفاعل مع العملية السياسية والثقافية، وراح يتصيد الاخطاء والمثالب بروحية متشنجة ونرجسية ومشاكسة”.
هذه مغالطة أولى ومخجلة لا يمكن ان يرتكبها أي قارئ يبتغي الحقيقة ولا يريد ليّ الحقائق وتزييفها، فانا كما قلت كتاب مفتوح وتاريخي ومواقفي معروفة، ولم ادافع اليوم ولا بالامس عن الاحتلال، وانما وقفت ضده، ومعي الالاف من الكتاب والمثقفين الشرفاء، لكننا كنا ننطلق من رؤيا خاصة تجاه النظام السياسي الذي أعقب الاحتلال والسقوط، ومن العملية السياسية التي راحت تتبلور خلال السنوات الماضية، تتلخص في محاولة اعادة بناء العملية السياسية على أسس وطنية وديمقراطية منفتحة بعيداً عن املاءات سلطة الاحتلال والادارة الامريكية بينما كان البعض يرغب في اسقاط العملية السياسية جملةً وتفصيلاً واستدراجنا الى هذا الموقف لكي نكون مبرأين من تهمة الخيانة والعمالة للاحتلال.
وأود ان أبيّن إلى ان ما أقدمه الآن من أفكار واجتهادات تعبر عن وجهة نظري الخاصة بوصفي مثقفاً وكاتباً، ولا ألزم زملائي في اتحاد الادباء او اية جهة اخرى بآرائي، خاصة واني قد تخليت بمحض ارادتي عن مواصلة رئاسة اتحاد الادباء كما بينت مراراً ولم (اخلع صاغراً من رئاسة الاتحاد) كما زعم البهرزي وفي وسطنا الادبي شهودٌ عديدون على مدى صحة كلامي ومصداقيته.
وأُفضِّل ان نبدأ الحكاية من البداية، وتحديداً من الفترة التي سبقت الاحتلال. كان العراق في التسعينات، ونظامه السياسي تحديداً، قد وصل إلى أزمة سياسية مستعصية بسبب استفحال الاتجاه الدكتاتوري الدموي لنظام البعث وقيادته والتناقضات الداخلية للنظام نفسه، والنتائج المدمرة لحروب العبثية. وبدأت القوى الوطنية والسياسية العراقية تبحث عن مخرج للوصول إلى خلاص من هيمنة هذا النظام البوليسي – العسكري المتوحش وخاصة بعد احتلال الكويت والانتفاضة الشعبية / الشعبانية عام 1991. وكانت القوى السياسية تعقد بين حين وآخر اجتماعات ومؤتمرات دورية لتدارس آفاق التغيير الممكنة، ربما بدأت بشكل منظم في مؤتمر بيروت لقوى المعارضة العراقية عام 1991.
وكان الاتجاه يتركز على امكانية اسقاط النظام الدكتاتوري من خلال انتفاضة شعبية عارمة مدنية وعسكرية معاً، وبالاعتماد على العامل الذاتي والداخلي تحديداً، لكن بعض القوى السياسية العراقية بدأت تطرح منذ أواخر التسعينات ضرورة الاعتماد على العامل الخارجي من خلال تدخل دولي واعلان حالة الحرب على العراق. وربما كان مؤتمر لندن هو النقطة الاساسية لانتصار فكرة التدخل العسكري الامريكي لاسقاط النظام. وقد وافق معظم القوى السياسية السنية والشيعية، العربية والكردية على هذا الخيار واقتصرت المعارضة على احد اجنحة حزب الدعوة، والحزب الشيوعي العراقي حيث رفض الاخير فكرة الاحتلال والحرب معاً، واكد على ضرورة تعبئة القوى الجماهيرية ذاتياً لاسقاط النظام. لكن الادارة الامريكية وجدت الفرصة سانحة لاحتلال العراق، واعادة رسم خارطة المنطقة العربية خصوصاً ومنطقة الشرق الاوسط بشكل عام. وكنا نعلم آنذاك، ان امريكا تمثل رمز النزعة الامبريالية المتوحشة والتي تختفي وراء شعارات براقة باسم الديمقراطية والحرية واللبرالية، وانها لا تتدخل لسواد عيون العراقيين، وانما لتحقيق مصالحها الامبريالية اساساً. ولكن علينا ان نميّز بين القوى السياسية العراقية التي رفضت قرار التدخل الامريكي لاحتلال العراق، وهي محدودة، وبين تلك القوى السياسية الممثلة لاغلبية قوى المعارضة السياسية انذاك والتي وافقت على قرار الحرب والاحتلال: ففيها بالتأكيد قوى سياسية متحالفة فكريا مع الادارة الامريكية تتخذ من اللبرالية والديمقراطية شعاراً لها. لكن في الجانب الاخر، كانت هناك قوى وطنية سياسية سنية وشيعية، ذات ثقل سياسي، كانت تعتقد باستحالة التغيير بالاعتماد على القدرات الذاتية للجماهير، وان الحرب هي الضمانة الاساسية لاسقاط النظام وان مرحلة ما بعد الاسقاط سوف يتيح للقوى الوطنية ان تعيد تشكيل تنظيماتها وقواها المسلحة للامساك بزمام المبادرة، وانتزاعها تدريجياً من ايدي سلطة الاحتلال. أما الاحزاب والتيارات الكردية المختلفة، فلم تجد حرجاً في التحالف مع امريكا من خلال الاحتلال لتحقيق اهداف الحركة القومية الكردية آنذاك.
وفعلاً حدث الاحتلال الامريكي، المدعوم بغطاء دولي محدود، وسقط نظام صدام حسين غير مأسوف عليه. وكانت استراتيجية امريكا تقوم على خلق انموذج سياسي موال لها يتخذ من شعار التغيير والديمقراطية واللبرالية قناعا له. لكن حسابات البيدر تختلف عن حسابات الحقل دائماً. اذ سرعان ما راحت القوى الحيّة للشعب العراقي تنهض بمختلف الاساليب والوسائل لانتزاع المبادرة من الادارة الامريكية، وفرض ارادة الشعب العراقي. وهكذا فوّتت القوى الوطنية التي قبلت بمبدأ الحرب والاحتلال الفرصة على الادارة الامريكية في فرض مشروعها السياسي والعسكري، وأجبرتها تدريجيا على الخروج من العراق واعلان السيادة الكاملة للشعب العراقي على أراضيه.
وهنا حدث شرخ واضح في مواقف القوى السياسية والاتجاهات الفكرية العراقية تجاه الاحتلال، والنظام السياسي الذي نشأ. فهناك من ذهب إلى ان كل ما يحدث في ظل الاحتلال هو باطل ويجب محاربته بالبندقية والمقاومة المسلحة والسياسية. وفي الجانب الاخر كانت القوى السياسية الحيّة والفاعلة تنتزع تدريجياً المبادأة من سلطة الاحتلال وتفرض شروطها على شكل الدستور والدولة والمؤسسات المختلفة، مما أضعف الجناح اللبرالي المتحالف مع السياسة الامريكية وهمشه، وقاد إلى صعود بعض الاحزاب والحركات التي اتخذت صبغة طائفية أو مذهبية أو اثنية.
ومن الضروري ان نستدرك قليلا ونشير إلى ان الكثير من القوى السياسية التي رفضت قرارات مؤتمر لندن، قد قبلت تدريجياً بعد مؤتمر صلاح الدين في اربيل الاشتراك في العملية السياسية، ليس لمباركة سلطة الاحتلال، بل رغبة منها في انقاذ العراق من سلطة الاحتلال وتركة النظام الدكتاتوري معاً ولكي لا تظل خارج العملية السياسية الجديدة، ومن هذه القوى: بعض القوى العلمانية واليسارية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي وبعض اجنحة حزب الدعوة. وقد أثارت مشاركة الحزب الشيوعي ردود فعل لدى بعض القوى اليسارية والماركسية وبشكل خاص خارج العراق، وأدانت الحزب واتهمته بقبول سلطة الاحتلال والعمل تحت مظلته. لكن الشيوعيين كانت لهم اجنداتهم الخاصة التي بدأوا بتنفيذها من خلال تعبئة الجماهير واعادة تنظيمات الحزب وصحافته التي تعرضت إلى التدمير من قبل النظام الدكتاتوري، وبدأوا بالعمل سوية مع القوى الوطنية الاخرى لاستكمال شروط السيادة الوطنية واعادة بناء البنى المدمرة واطلاق عملية التنمية وخلق تجربة ديمقراطية حقيقية. وكان معظم القوى التي رفضت العملية السياسية ودعت إلى حمل السلاح لمقاومة الاحتلال تتمثل في بقايا النظام الدكتاتوري واجهزته القمعية الاستخباراتية المختلفة والتحقت بها الكثير من القوى السياسية والدينية مثل هيئة علماء المسلمين، لكن المبادأة انتقلت تدريجياً إلى القوى الارهابية والتكفيرية الممثلة اساساً بالقاعدة وبالعشرات من المنظمات المسلحة الصغيرة، التي ابتلعتها لاحقاً داعش ووضعتها تحت وصايتها وفرضت عليها الاعتراف بما سمي بولاية خليفة المسلمين أبي بكر البغدادي. ومن هذه القوى التي حملت السلاح ما يسمى بجيش الطريقة النقشبندية، وهو الجناح العسكري لحزب عزة الدوري البعثي الذي حيا بصفاقة مخجلة مقاتلي القاعدة وداعش الذين اجتاحوا العراق ودنسوا ترابه الوطني بعد احتلال الموصل عام 2014.
بعد هذا العرض، اعود إلى طبيعة النظام السياسي الذي اعقب الاحتلال وموقف مختلف القوى السياسية منه. ففضلاً عن قوى البعث والتكفيريين والارهابيين الذين دعوا الى المقاومة وحمل السلاح، وجدنا عدداً غير قليل من اليساريين، خارج العراق خاصةً يدعون إلى حمل السلاح ايضاً لمواجهة الاحتلال ووجهت منذ ذلك التاريخ ادانات واسعة لموقف الشيوعيين العراقيين كما تعرضت التجربة السياسية بكاملها إلى الهجوم والتشكيك ولعبت دول الجوار دوراً تخريبيا في تشجيع الارهابيين والمسلحين على العبور إلى العراق وامدادهم بالمال والسلاح بحجة مواجهة الاحتلال. لكن الهدف السري كان في البداية، اعادة النظام البعثي السابق ولاحقاً لتحقيق اجندات خاصة بالمنظمات والحركات الارهابية والتكفيرية التي آلت إلى دولة الخرافة الداعشية الموهومة.
ولذا لم يكن من المنطقي ابداً لأية قوى وطنية ان ترفع السلاح لانها ستجد نفسها في خندق واحد مع جلاديها السابقين من جزاري النظام البعثي ورجال استخباراته وفدائييه. وهكذا اختار معظم هذه القوى اسلوب المقاومة السياسية والفكرية والثقافية ضد الاحتلال وادارته
وانتزاع المزيد من الحقوق المهضومة للشعب العراقي الذي وجد نفسه بين المطرقة والسندان.
صحيح ان النظام السياسي الذي نشأ بعد الاحتلال مشبع بالاخطاء والاخفاقات ذلك انه كان نتيجة ارادات متعارضة ومتباينة منها ارادة إدارة الاحتلال الامريكي التي كانت تفرض نمطاً سياسيا معيناً لا يتفق بالضرورة مع الواقع الملموس للمجتمع العراقي، حيث ارتكبت الادارة الامريكية اخطاء جسيمة عندما اقامت الحكم على اساس طائفي وعشائري وخلقت شريحة من رجال الدولة والسياسة واغدقت عليها الاموال – وهي اموال العراق اصلاً – في محاولة لافسادها وجعلها تأتمر بأمرها. لكن هذا لم ينجح، اذ انتصرت ارادة الاستقلال السياسي والادارة العراقية الكاملة لشؤون العراق بعيداً عن هيمنه الادارة الامريكية التي وجدت نفسها مقصاة وذات محدود، وخاصة عندما تضخمت القوى السياسية والطائفية وراحت تفرض بصمتها على الواقع العراقي.
بالتأكيد كان الوضع السياسي مشوشاً ومعقداً فمن ينظر من بُعد يظن ان هذا النظام هو صنيعة لادارة الاحتلال. لكن المتمعن إلى هذا الوضع من الداخل يكتشف فاعلية القوى العراقية التي سحبت البساط من تحت اقدام ادارة الاحتلال وجعلته في النهاية يوافق على انهاء الاحتلال رسمياً والاكتفاء باتفاقية عسكرية وأمنية محدودة التاثير، لم يحصل بموجبها مثلاً على أي حقّ لاقامة اية قاعدة عسكرية على الاراض العراقية.
كما قلت، وهنا بيت القصيد، ان بعض قوى اليسار العراقي خارج العراق لم تقرأ المشهد السياسي والاجتماعي العراقي بدقة وظلت متمسكة بمواقفها النظرية والايديولوجية وانتقلت إلى مواقف متياسرة متطرفة تقف موقف العداء من النظام السياسي في العراق وتوجيه النقد الذي يصل إلى حد تخوين اليسار العراقي المتمثل بالحزب الشيوعي العراقي واتهامه بالعمالة والخضوع لسياسة المحتلين.
ولنأخذ مثالا ملموسا من المشهد الثقافي يتمثل في المواقف السياسية والثقافية للشاعر العراقي سعدي يوسف المقيم منذ سنوات في لندن فقد بدأ هذا الشاعر بقراءة خاطئة للمشهد السياسي والثقافي العراقي، ربما بسبب ابتعاده عن الواقع الجديد الملموس وهاجم فيه الشيوعيين والنظام السياسي وعدَّ التجربة السياسية تابعة لنظام الاحتلال. لكن مواقف سعدي انزلقت لاحقاً إلى عداء لكل ما هو عراقي، وهي مواقف كانت بينة في مقالاته وقصائده ومنشوراته في الوقت الذي كانت فيه عصابات داعش تحاول احتلال بغداد.
كما انه وللاسف لم يدن أيا من ممارسات المنظمات الارهابية والتكفيرية ضد الشعب العراقي واكتفى بموقف التشفي والسخرية والعداء، وهو يعلن بأنه يمثل “الشيوعي الاخير” وان كل من بقي في العراق هو تحت مظلة الاحتلال، حتى بعد الخروج الرسمي لجيوش الاحتلال. ووجدت الكثير من القوى السياسية والثقافية المعادية للعراق ومنها منظمات بعثية ضالتها في مواقف سعدي يوسف وحولته إلى ً”حصان طروادة” وبدأ البعثيون والتكفيريون يهللون لتصريحاته ومواقفه وقصائده المعادية للعراق ولليسار العراقي، كما أعلن عن احتقاره للجنسية العراقية واعتزازه بجنسيته البريطانية.
فهل كان سعدي يوسف يخدم الثقافة العراقية التقدمية واليسار العراقي بمواقفه هذه، وأين كان يقف فعليا؟ من الواضح انه يقف ضد العراق ترابا وشعبا وثقافة وتاريخاً، وانه في النهاية يخدم بصورة مباشرة أو غير مباشرة القوى المعادية لشعبنا من بعثيين وتكفيريين وطائفيين. ومثل هذا الدور هو الذي يرغب الشاعر ابراهيم البهرزي ان ينهض به بوصفه بيدقا صغيراً أو “حصان طروادة” أصغر حجماً يصفق له اعداء العراق من بعثيين وارهابيين وطائفيين.
فالسيد البهرزي لا يمتلك مشروعاً سياسياً لاعادة بناء العراق، انه لا يمتلك الا اللغة الناقمة والمواقف النهلستية التي ترفض كل شئ وفي مقدمتها اسقاط العملية السياسية والتشكيك بكل الفعاليات والحركات والاحزاب السياسية والنقابات والاتحادات الثقافية والادبية ومنها اتحاد الادباء والكتاب في العراق وهو مطلب يلتقي مع اجندات ايتام النظام الدكتاتوري وكل القوى والحركات الارهابية والتكفيرية على مختلف مسمياتها. ومن جهة اخرى فقد كان لدى قوى اليسار العراقي برنامجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي الواضح الذي راحت تتميز فيه عن القوى السياسية الاخرى، ومنها احزاب طائفية واثنية متنوعة. فقوى اليسار العراقي تدعو لبناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية اتحادية وترفض مشروع الدولة الدينية من خلال التأكيد على مبدأ الفصل بين الدين والسياسة. وها هي قوى الحراك المدني الديمقراطي تتسع وتفرض حضورها على الساحة السياسية والشعبية عبر مشروع تنويري وديمقراطي يؤكد على مفهوم المواطنة والمساواة واقامة تجربة ديمقراطية جذرية تحترم مبادئ حقوق الانسان، وليست عبر مشروعات شكلية ومفرغة كالتي منحت الفرصة لمافيات الفساد المالي والسياسي للسيطرة على البرلمان وعلى مقدرات البلد وثرواته وسياسته.
فما الذي يقدمه السيد البهرزي وما هو برنامجه الاصلاحي أو الثوري. هل يكفي الرفض المطلق والتفرج على معاناة الانسان العراقي؟ وأين هي القوى الموجودة على الساحة فعلياً القادرة على تحقيق مثل هذا البرنامج؟ فالسياسة هي فن الممكنات المتاحة فعلياً وليست مجرد برنامج خيالي وطوباوي لا ينبع من توازنات القوى الاجتماعية والطبقية والسياسية في لحظة زمنية معينة. وهل يحق لاي مناضل حقيقي، مهما كانت نواياه سليمة وصادقة، ان يرسم مشروعاً خياليا لا يأخذ بنظر الاعتبار الواقع الاجتماعي الملموس للقوى الطبقية والاجتماعية وبعيداً عن النهوض الشعبي والسياسي خلال السنوات التي أعقبت الاحتلال وظهور توازنات جديدة يجب ان تأخذ بالحسبان. ان اطلاق حكم سريع على ما هو ظاهري فقط هو أمر لا يكفي. لقد علمنا الديالكتيك الجدلي الماركسي ان نفحص الظاهرة من جميع جوانبها الخارجية والداخلية وتناقضاتها، وان لا نركن فقط إلى المظاهر السطحية التي قد تكون عرضية أو زائفة او ناقصة اذا ما أُخذتْ لوحدها. فالحياة ليست خيارا بين الابيض والاسود دائماً، هناك تدرجات لونية يتعين على الرائي، غير المصاب بعمى الألوان، ان يميزها بطريقة سليمة وصحيحة.
ولكننا في الجانب الاخر لا يمكن ان نعفي مثقفاً تنويرياً وماركسياً وله تاريخ نضالي معروف مثل الشاعر سعدي يوسف، من الاصرار على تقديم مثل هذه القراءة المجحفة وغير المنصفة لاشكالات الواقع العراقي وتعقيداته العنكبوتية، لان ادعاء التياسر المتطرف – الذي هو مظهر آخر من مظاهر مرض الطفولة اليسارية، لا يخدم ابداً المشروع التنويري العراقي ولان “نضال ” المتياسرين المتطرفين يتوجه نحو رفاق الامس ونحو القوى الوطنية وليس ضد اعداء شعبنا من امبرياليين وارهابيين وطائفيين وشوفينيين وضيقي الافق والتفكير وظلاميين ممن يريدون تطبيق شريعة مشوهة لما يسمى بـ “الاسلام السياسي” بشقيه الشيعي، المدعوم طائفياً من ايران، أو السني المدعوم خليجياً ووهابياً وتركياً فضلاً عن الدعم غير المباشر من القوى الامبريالية والصهيونية وكل اعداء شعبنا.
أما الجانب الاخر الذي يتعلق بالتهم المجانية التي وجهها الشاعر البهرزي ظلماً وزوراً، فسوف اتوقف أمامها بامانة لان الخوض فيها يدفعني إلى الحديث عن تاريخي الشخصي، وهو يسبب لي احراجاً كبيراً، لانني بطبعي انسان متواضع ولا أحبّ التبجح أو الادعاء أو المتاجرة بتاريخي النضالي كما يفعل البعض، بل كنت طوال سنوات تسنمي رئاسة اتحاد
الادباء أرفض الدخول في حوارات سياسية وايديولوجية مباشرة خلافية، والتركيز على الحوارات الثقافية والسوسيوثقافية لكي لا تحسب ارائي على اتحاد الادباء وسياسته المستقلة الخاصة.
انا هنا احترم التاريخ النضالي والثقافي للشاعر ابراهيم البهرزي، ولا أرغب في الانتقاص منه عندما اعرض تاريخي النضالي الشخصي المتواضع الذي قد لا يصل إلى عُشر التاريخ النضالي للشاعر البهرزي.
ولدت في بغداد عام 1938 في بغداد، في محلة البتاويين، في زقاق يطلّ على شارع السعدون، يجاور سينما النصر حالياً، ووجدت نفسي منغمساً منذ الدراسة الابتدائية في النشاط الطلابي والسياسي حيث شاركت عام ١٩٤٨ في دعم وثبة كانون، وكنت اهتف مع الجماهير “نوري سعيد القندرة وصالح جبر قيطانه”، وفي المتوسطة شاركت في انتفاضة تشرين 1952 واصبحت قائداً طلابياً وأحد قادة اتحاد الطلبة في المدرسة. وعندما اصبحت طالباً في اعدادية النضال في بغداد انضممت إلى الحزب الشيوعي العراقي عام 1956، وأسهمتُ في قيادة النضال الطلابي والجماهيري وشاركت في كل المظاهرات ومنها المحتجة على حرب السويس ضد الشقيقة مصر والمؤيدة لثورة الجزائر، و عندما اصبحت طالبا ً في كلية الاداب عام 1957 كنت في قيادة منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الكلية وأسهمتُ بجهد متواضع في النضال الجماهيري الذي مهد لثورة الرابع عشر من تموز ١٩٥٨. واصبحت بعد الثورة المسؤول الرسمي لمنظمة الحزب حيث اسهمت في قيادة النشاط الطلابي في الكلية، كما أشرفتُ لاحقا على تنظيمات عددٍ آخر من الكليات، وتعرضتُ في السنوات التي أعقيت الثورة إلى اكثر من محاولة اغتيال من قبل البعثيين، وبعد تخرجي عام 1961 عُينتُ مدرساً للغة الانگليزية في مدينة الكوت، واصبحت عضواً في اللجنة المحلية في محافظة واسط (لواء الكوت آنذاك) وشاركت في كافة النضالات الجماهيرية والنقابية والحزبية، كما واصلت نشاطي الثقافي والادبي في مجال النقد الادبي والترجمة. وعندما وقع انقلاب الثامن من شباط 1963 الفاشي الأسود، كان لي الشرف مع رفاقي في قيادة النشاط الجماهيري والسيطرة على مدينة الكوت وتحرير السجناء الشيوعيين الذين كانوا في سجن الكوت آنذاك ومنهم الاستاذ فخري كريم والمرحوم محمد الجزائري، ثم جرى اعتقالي والحكم عليَّ بالسجن لمدة خمس سنوات، امضيت منها في سجون الكوت ونقرة السلمان والحلة والموقف العام ما يقارب من الثلاث سنوات ونصف السنة (بسبب التخفيضات التي شملت السجناء آنذاك) وعندما خرجت من السجن عانيت لفترة طويلة من الفصل الوظيفي السياسي. وواصلت تجربتي الثقافية حيث قررت من خلال وجودي في سجن نقرة السلمان – الذي كنت أقود فيه النشاط الثقافي سكرتيراً للجنة الثقافية – ان أظل مستقلاً عن أي عمل تنظيمي أو حزبي وكتبت في دفتر مذكراتي الجملة التالية “انتهت مرحلة العمل الحزبي والتنظيمي بالنسبة لي وبدأت مرحلة العمل الثقافي”. وفعلاً رحت أطور مشروعي الثقافي والنقدي واسهمت في اثراء الحياة الثقافية منذ الستينات.
ان كتاباتي منذ الستينات والسبعينات قد أغنت الحركة الثقافية وأثّرت في وعي الجيل الجديد من الادباء والمثقفين. وبعد ان استفحل الاتجاه الدكتاتوري في نظام البعث قبيل انفراد الدكتاتور صدام حسين وبعده، واجهت مع زملائي الكتاب والفنانين والاعلاميين والاكاديميين ظروفاً صعبة وقاتلة، واختار الكثير من زملائي ورفاقي طريق الهجرة خارج الوطن تجنباً للاعتقال والتعذيب والقتل، كما أعتقل المئات من الكتاب والصحفيين والمثقفين والاكاديميين وتعرضوا إلى الاستجواب والملاحقة. وقد اعتقلتني السلطات ايضا عام 1979 ومباشرة بعد
استيلاء صدام حسين على السلطة حيث تم اختطافي من الشارع بينما كنت أقود سيارتي الموسكوفتش المتواضعة مقابل الجامعة المستنصرية إلى دائرة الامن العامة في السعدون. وهناك جرى استجواب صعب لي من قبل عدة محققين، وكنت هادئاً وأكدتُ لهم اني منذ خروجي من السجن لم امارس أي نشاط حزبي أو تنظيمي، واضطر المحقق إلى الاعتراف بهذه الحقيقة لكنه اشار إلى اني قد اكون عضواً في اللجنة المركزية الاحتياطية للحزب الشيوعي العراقي، فأجبت بهدوء، وهل يمكن لشخص يحتل مثل هذا المركز السري ان يمارس عمله الوظيفي ويسير بثقة في الشوارع. وجرت محاولات عديدة لاستجوابي وهددوني بممارسة اساليب التعذيب ضدي، لكن هدوءا كبيراً سيطر عليّ انذاك وقلت لمحقق كبير أظنه معاون مدير امن بغداد بأنك بحكم طبيعة عملك الامني ومصادر معلوماتك تستطيع التبين فيما اذا كان لدي اي ارتباط حزبي او نشاط سياسي وهو ما لم يثبت وهو ما قاد فعلا لاطلاق سراحي حوالي الساعة الواحدة ليلاً، وطوال وجودي مدرساً للغة الانكليزية في اعدادية ابن رشد في بغداد الجديدة كنت عرضة للاستدعاء إلى دائرة الامن في مركز الشرطة بسبب وشايات مدير الاعدادية آنذاك، وكان مشرف اللغة الانكليزية على الاعدادية انذاك الزميل حسين الجاف هو الذي اكتشف هذه الحقيقة انذاك من خلال احدى زياراته للإشراف التربوي التخصصي.
لقد كانت حياة الادباء والمثقفين والاكاديميين تحت ظل حكم نظام البعث الفاشي صعبة ومحفوفة بالمخاطر، فالكثير من الابرياء خسروا حياتهم بسبب وشايات رخصية من بعض كتاب التقارير المعروفين انذاك. وكانت الضغوط تمارس ضد المستقلين “لتأطيرهم” حزبياً وكان من الصعب على المثقف ان يحافظ على استقلاله وسلامته في جو الرعب البوليسي ذاك، الذي نجد من يتغنى به اليوم بوصفه ربيعاً للثقافة والحرية والاستقرار. ولم أكن استثناءً من كل ذلك، لكني اخترت سياسة شخصية في الحفاظ على وضعي المستقل آنذاك، وربما ساعدني على ذلك صعود مكانتي النقدية والثقافية محلياُ وعربياً. وكانت سياستي الشخصية تسير باتجاه تجنب ممارسة أي نشاط حزبي أو سياسي، لاني أعلم ان اجهزة القمع لا ترحم من يمارس مثل هذا النشاط، والتركيز على العمل الثقافي. ولكني من الجهة الاخرى كنت امارس نشاطاً ثقافياً يكشف عن توجهاتي النقدية والفكرية بشكل صريح ولكن على مستوى الخطاب النقدي المتوازن، كما اني اخترت عن وعي وقصد المشاركة في الحياة الثقافية والنشر في جميع الصحف والمجلات انطلاقاَ من مقولة ضرورة الكتابة حتى في “الصحف الصفراء”. وقد رفضت ميل بعض اصدقائي الكتاب للانسحاب من الحياة الثقافية والركون إلى الصمت واعتبرت هذا الانسحاب خسارة وتركاً للجماهير دونما قيادة ثقافية. ولنقل اني كنت امارس دوراً غير مباشر في تصويب اتجاهات الحياة الثقافية وخضت معارك ثقافية عديدة عرضت حياتي اكثر من مرة إلى خطر القتل والإعدام. ولكن مع ذلك لم اسلم من شكوك بعض زملائي من موقفي آنذاك. وكان البعض يتهامس: كيف يستطيع فاضل ثامر ان يتحرك ويكتب دون ان يكون مرتبطاً بطريقة ما بالنظام واجهزته الاستخباراتية، ومن المؤسف ان تصدر مثل هذه الاتهامات من بعض الاصدقاء وبشكل خاص من اولئك المتياسرين أمثال سعدي يوسف وابراهيم البهرزي الذين يزايدون على وطنية المثقفين العراقيين من خلال تكرار تهم سخيفة ولا سند لها، منها اني كنت مترجماً لدى احدى الاجهزة الاستخباراتية وهو أمر لا صحة له، ولو كان هناك شئ ضدي لطبلت له اجهزة النظام وجهازه البعثي وبخاصة لاني كنت من الكتاب الذين فضحوا عملية مسخ الثقافة وتدنيسها تحت ظل نظام الاستبداد البعثي. كما كان سعدي يوسف يتهمني باني كنت من
رجالات عدي، وان الاخير قد اهداني وزميلي الناقد ياسين النصير مسدسين. وللحقيقة والتاريخ فانا لم اجتمع يوماً بصدام حسين ولا بولده الارعن عدي الذي لاذ بعض الادباء والمثقفين البعثيين تحت مظلته في الانتخابات التي كانت تجرى لاتحاد الادباء في تسعينات القرن الماضي. ومن التهم الباطلة أيضا الزعم بأني قد كتبت عن ادب الحرب وما يسمى بروايات قادسية صدام، وادارتي الخيالية لندوة عن رواية “زبيبة والملك” التي كتبها – كما يقال – الدكتاتور صدام حسين. وقد لا يصدق احد اذا قلت اني لم أقرأ لا في السابق ولا في الحاضر أياً من كتابات الدكتاتور ولم انشر أي شئ يتعلق براويات قادسية صدام، ويمكن مراجعة الصحف والمجلات العراقية لاكتشاف هذه الحقيقة. وعلى خلاف ذلك كنت أحاول التهرب من أي محاولة لمديح الدكتاتور والنظام وادب الحرب. واتذكر ان الزميل القاص والصحفي محمد اسماعيل قد اتصل بي مرةً وطلب مني كتابة بضعة سطور عن مناسبة عيد ميلاد “القائد الضرورة” فطلبت منه ان يمهلني دقائق ريثما اكتب الكلمات، وبعدها اغلقت الهاتف لعدة ايام الى ان مرّت المناسبة. وأخبرني هذا الزميل بانه قد طُلب منه فعل ذلك بوصفه محرراً في جريدة الجمهورية آنذاك. واذا كان من الضروري ان استشهد فبندوة واحدة احرجني فيها د.محسن الموسوي تلك التي نظمت على حدائق اتحاد الادباء، وطلب مني بيان رأيي في ما يسمى براويات قادسية صدام وحذرني د.محسن الموسوي بين النصح والتهديد إلى العواقب الوخيمة التي قد تترتب على رفضي المشاركة في الندوة لان الجماعة كما همس في اذني لا يرحمون، فاضطررت إلى الادلاء برأيي الذي عرضني إلى الاعدام والقتل، حيث قلت ان روايات قادسية صدام ملفقة وانها تصور المقاتل العراقي وكأنه سوبرمان يفتقد الاحساس بالخوف الانساني، وقد أثار قولي هذا حفيظة الشاعر عبد الامير معلة الذي كان رئيساً لاتحاد الادباء انذاك ووكيلا لوزارة الثقافة الذي ارتقى المنصة وهدد وتوعد وقال: نعم ان المقاتل العراقي سوبرمان، وان من يشكك بذلك سنملأ فمه بالرصاص وسنلقي بجسده خارج الحدود.
وفي اليوم الثاني دعا معلة إلى اجتماع عاجل للادباء والمثقفين في مسرح الرشيد كرسه لمهاجمتي، وان جسدي سوف يملأ بالرصاص ويلقى خارج الحدود. وحينها تقدم مني شاعر شاب لم اكن اعرفه آنذاك وقال لي: استاذ انت قد لا تعرفني، انا شاعر شاب اسمي (حسن عبد الحميد) وانا سألتحق صباح الغد باحدى الربايا العسكرية في شمال العراق، وانا جئت لاودعك لاني اعتقد انهم لن يسامحونك. ويبدو ان الظروف السياسية والثقافية لم تكن مواتية لتصفية الحساب معي انذاك خاصة وان الندوة جرت بحضور عدد كبير من الادباء والمثقفين والاعلاميين.
وبعد احتلال صدام للكويت مباشرة كنت اجلس في حديقة الاتحاد وبصحبة الادباء د.عبدالله ابراهيم والناقد المسرحي عواد علي، والكاتب والاعلامي صفاء صنكور، وعندما جرى الحديث عن غزو الكويت رفعت قدحاً فارغاً وقلت بصوت شبه مسرحي: “والله لو كنت امتلك شجاعة سقراط، لملأت هذا القدح الفارغ بالسم وانتحرت احتجاجاً على اجتياح الكويت”، وفي اليوم التالي قام الزميل عواد علي بنقل الحادثة إلى جريدة “القادسية” التي كان محرراً ثقافياً فيها وكان الزميل صفاء صنكور حاضرا بوصفه رئيساً للقسم الثقافي، فكمم فمه وحذره قائلا: اصمت، ولا تفضحنا، فنحن أول من سيعدم وقبل فاضل ثامر بتهمة التستر على ما جرى وعدم الابلاغ عن ذلك فوراً..
ومرت هذه الحادثة بسلام ايضاً، ومن الطريف ان الزميل عواد علي جاءني بعد أيام من فشل الاحتلال وهمس في اذني: “كنا مجرد حمير وكنت وحدك على صواب.”
وبعد حرب الخليج التي اسماها صدام حسين “أم المعارك” جاء عدد من السياسيين والادباء لدعم موقف النظام الدكتاتوري ومنهم الناقد المغربي سعيد يقطين ود.ماجد عبد الرضا القيادي السابق المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي، وتعرضتُ ايضاً إلى مواقف محرجة، ذلك اني عندما يتطلب مني التعبير عن وجهة نظري لا استطيع الصمت أو الكذب. ففي جلسة جمعتنا بالناقد المغربي سعيد يقطين في جمعية الفنانين التشكيليين بحضور الزميلين د.عبد الله ابراهيم ود.صالح هويدي، عبّر الضيف الناقد سعيد يقطين عن حماسته الاستثنائية للنظام وقائده. فانبريت لتصحيح هذه الصورة الخاطئة التي كان يحملها الضيف وقلت له ان صدام حسين دكتاتور قاد البلد إلى حروب مجانية ومارس أبشع صنوف الارهاب والتقتيل ضد الشعب العراقي. فقال لي سعيد يقطين بغضب “انت أسكت يافاضل، انت حاقد لانك شيوعي” قلت له حسناً استمع إلى ماسيقوله صديقاك وهما قريبان من تنظيم حزب البعث، ففوجئ بتصريحات أقوى من الزميلين اللذين شهدا خلال تلك السنوات تحولات جذرية في مواقفهما السياسية تجاه النظام والحزب والدكتاتور. وظل الناقد سعيد يقطين منذهلاً وآمل ان يكون قد وعى الدرس ونقله إلى الكثير من المثقفين العرب المخدوعين بالنظام والدكتاتور آنذاك.
أنا بالنسبة للدكتور ماجد عبد الرضا القيادي المنشق عن قيادة الحزب الشيوعي العراقي والذي شكل خارج العراق تنظيماً مستقلاً يقوده احد قادة الحزب المنشقين والمعروف باسم (ابي خولة) وهو باقر ابراهيم، وقد جاء د.ماجد عبد الرضا إلى العراق لغرضين، اولاً للتضامن مع النظام الدكتاتوري وثانيا لتشكيل حزب شيوعي بديل مدعوم من النظام، وقد دعي الى اتحاد الادباء لالقاء محاضرة تضامنية عن “أم المعارك” بحضور عبد الامير معلة وقيادة اتحاد الادباء انذاك. وفي ختام الجلسة نُظمت للضيف مائدة حضرها عدد من الادباء منهم الشاعر عبد المنعم حمندي والموسيقار العسكري – الحسيني واخرون لا تحضرني أسماء بعضهم، وقد عبر د.ماجد عبد الرضا عن رغبته اللقاء بي وبالصديق الناقد الكبير ياسين النصير، فانضممنا إلى مائدة الضيف ونحن نتوجس الشرّ حيث دار الحديث عن الوضع السياسي ورغبة الضيف في تأسيس حزب شيوعي بعد الحصول على تأييد مائة وخمسين شيوعياً، فكنت وكعادتي صريحاً معه بحيث اذهلت الحاضرين ومنهم عبد الامير معلة، وحاول عبد المنعم حمندي التدخل ومهاجمتي، لكن عبد الامير معلة طلب منه عدم التدخل وترك النقاش يدور بيننا والاكتفاء بالاصغاء فقط، ومما قلته “يادكتور ان الاسباب التي دفعتك إلى الهرب من العراق ما زالت قائمة دون تغيير، وان طريق الديمقراطية مختوم بالشمع الأحمر”.
ويقال ان د.ماجد عبد الرضا قد اتصل تليفونيا ليلا ًبعبد الامير معلة، ورجاه ان لا ينقل ما جرى من حوار الليلة الماضية لان ذلك سيضعه في موقف محرج، ومرت بسلام مرة اخرى. ويمكن معرفة تفاصيل تلك الجلسة من بعض الشهود الاحياء ومنهم الشاعر عبد المنعم حمندي. ومرة ً سألت د.مالك المطلبي: كيف كان البعثيون ينظرون لي في ظل النظام السابق، فقال: “بصراحة.. كانوا ينظرون اليك بوصفك عدواً”، فكيف تأتّى لبعض التافهين نشر المزاعم الملفقة والباطلة حول ارتباطي مترجماً باجهزة المخابرات والكتابة عن ادب الحرب الصدامي. وها قد انكشفت الحقائق، فمن يزعم فليقدم دليلا ً واحداً، أو فليصمت.
أما الامر الاخر المتعلق بمنحي سيارة برازيلية (زرقاء وليست حمراء كما ذهب البهرزي) لمناسبة ما سمي بيوم العلم في الاول من اذار 1983 فله قصة اخرى، اذ بدأ النظام الحاكم بأمره بتوزيع الهدايا على كل من هبّ ودبّ، حتى اصبحت مثارا للسخرية والتندر والغضب.
ويبدو ان النظام، ذراً للرماد، قرر القيام بعملية توزيع ألف سيارة برازيلية على عدد كبير من الادباء والفنانين والاعلاميين والاكاديميين على وفق ضوابط معينة، حيث تشكلت مجموعة لجان لاختيار المكرمين ممن يكتبون المقالات الصحفية التي تمتدح قيادة النظام ولجنة اخرى للاكاديميين المتميزين وثالثة للفنانين ورابعة خاصة بابرز الدراسات والبحوث النقدية، وكنت قد نشرت انذاك الحلقة الاولى من دراسة نقدية مهمة ظهرت لاحقا في كتابي النقدي “مدارات نقدية” عام 1987 بعنوان “النقد الاكاديمي في مواجهة شعرنا الحديث”، أعتقد انها نشرت في مجلة الاقلام عام 1982 أو 1983 – وقد أثارت تلك الدراسة اهتمام النقاد والدارسين، واتخذ منها لاحقا احد الدارسين محوراً لاطروحته في الدكتوراه، بعد الاستئذان مني طبعاً. وكانت تلك الحلقة من الدراسة تدور حول تقييم إسهامات عدد من النقاد والدارسين الاكاديميين في مواجهة وتقويم الشعر العراقي الحديث ومنها كتاب الشاعر يوسف الصائغ النقدي الموسوم “الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى 1958” والصادر عام 1978 في بغداد. ويبدو ان الشاعر يوسف الصائغ كان عضواً في تلك اللجنة الخاصة بالدراسات النقدية واوصى بترشيح دراستي للتكريم، وكان يوم التكريم بالنسبة لي يوما ً عصيباُ فقد خيل لي باني سأعتقل وودعت عائلتي تاركاً لهم وصيتي الأخيرة، لكني عندما حضرت اجتماع التكريم، واظنه في قصر السلام بالحارثية، أو قرب جسر الخرّ انذاك فوجئت بالعدد الكبير من المكرمين ومنهم فنانون واكاديميون محترمون ومستقلون. ثم جرت مراسيم توزيع الهدايا من قبل وزير الثقافة وهي مظروفات مغلقة، كانت حصتي سيارة برازيلية. وقد اعترض بعض الادباء البعثيين على منحي تلك السيارة لاني ضد النظام، ومنهم المرحوم يوسف نمر ذياب الذي اتهم اللجان بمنح الجوائز “للمؤلفة قلوبهم” وهو مصطلح يعود إلى فجر الدعوة الاسلامية عندما اعطيت مكرمات لبعض المترددين والمعارضين رغبة في كسبهم واستمالة قلوبهم. وسئل حينها الكاتب المعروف حميد المطبعي عن سرّ منح مكرمة لفاضل ثامر بينما حجبت عن زميله ياسين النصير، فقال: فعلنا ذلك لاثارة الشقاق بينهما. وحميد المطبعي ما زال حيا يرزق، وبالامكان تقصي الكثير من الحقائق منه عن ذلك التكريم، وهو يؤكد ان ما جرى – بالنسبة لي تحديداً – كان بعيداً عن أي شكل من اشكال محاباة النظام أو تملقه.
أما مسألة الرواتب التي كانت تمنح للادباء والصحفيين، فهي كانت تهدف لاحتواء غضبهم وسخطهم بعد ان راحوا يتذمرون وينتقدون النظام السياسي علناً بسبب تردي الحياة المعيشية وصعوبات الحياة التي شملت الجميع باستثناء قلة من الطبالين والمدراء العامين والمسؤولين الحزبيين والثقافيين انذاك، وفعلاً كان اسمي لفترة معينة بين الاسماء، لانه لم يكن بالامكان تجاهل اسمي بعد ان اصبحت اسماً ادبياً مؤثراً ومعروفاً لا يمكن تجاوزه، وقد انقطع ذلك الراتب بعد اضطراري للسفر إلى ليبيا لغرض التدريس لفترة سبع سنوات بحثا عن اوكسجين الحرية ولتجنب صعوبات الحياة تحت ظل النظام الدكتاتوري آنذاك. وشخصياً لم اطالب احداً باضافة اسمي إلى قوائم الادباء، لكن النظام كما يبدو كان يدرج بعض الاسماء المعروفة المستقلة والبعيدة عن النظام “ذراً للرماد” كما يقال، ومن الظلم اتهام جميع الادباء والصحفيين الذين كانوا يتقاضون راتباً متواضعاً انذاك بانهم عملاء أو جواسيس للنظام أو لحزبه، بل ان معظهم كانوا من المتذمرين ويشعرون انهم إنما يحصلون عل حقّ مشروع من خزينة الدولة وليس مكرمة من أي شخص اخر، وللتأكيد على ذلك فقد راح العشرات من هؤلاء الادباء يهربون من “جنة” الدكتاتور ونظام البعث الفاشي الى خارج العراق.
أما التهمة التي وجهها لي البهرزي بالطائفية، وبأني أحابي النظام الحالي، فهي تهمة مضحكة. فانا أبعد ما اكون عن النزعة الطائفية، ولم اقف متملقاُ لاي مسؤول في الدولة العراقية، كبر أم صغر، وكنت أقف نداً امام أي مسؤول وأصون مكانة الاديب العراقي، مطالباً بالحقوق المشروعة للادباء والمثقفين وضرورة اعطاء دور حقيقي للمثقف العراقي في صياغة القرار السياسي والاجتماعي. وكتاباتي وخطبي ومواقفي في ساحة التحرير وفي شارع المتنبي تحديداً شاهدة على ما أقول، ويمكن الاطلاع على كتابي الموسوم “اشكالية العلاقة بين الثقافي والسياسي – المثقف العراقي شاهداً” الصادر عام 2011 الذي ضمّ بعض كتاباتي.
وكنت في كتاباتي وخطاباتي أدين النزعة الطائفية والفساد والمحاصصة وأعدّها من اسباب فشل العملية السياسية وأؤكد على ضرورة احترام الثقافة وعدم تهميشها والوقوف ضد دعوات تأثيم المثقفين وتكفيرهم وتهديد حياتهم وحرياتهم.
ويشهد جميع الادباء والمثقفين بمواقفي في الكلمات والخطب التي كنت ألقيها في المهرجانات الثقافية والادبية ومنها مهرجان المربد التي كانت توصف بانها نارية وتعبر عن صوت الادباء والمثقفين، حيث كان مسؤولو وزارة الثقافة يتطيرون منها. وكنت أدين فيها كافة المظاهر السلبية في وزارة الثقافة والدولة، وكانت كلماتي وخطبي في شارع المتنبي تندد بالطائفية والفساد وترفض تدخلات دول الجوار في الشان العراقي ورفعت عالياً شعار “بغداد لن تكون قم ولا قندهار” وطالبت بصراحة بضرورة الفصل بين الدين والسياسة ورفضت مفهوم الدولة الاسلامية التي يبشر بها بعض ممثلي “الاسلام السياسي” من الشيعة والسنة، وقلت باستحالة إقامة دولة اسلامية في العراق بسبب التباين المذهبي والطائفي العميق بين مكوناته، ولذا فليس بالامكان إقامة دولة دينية اسلامية لاختلاف الاجتهادات الفقهية والدوافع السياسية بين مختلف المذاهب، واذا ما تشكلت دولة شيعية فانها ستعطي التبرير للسنة لاقامة دولة سنية، حيث سيتم تقسيم العراق ويجد الكرد آنذاك الفرصة سانحة للاستقلال، وبهذا يتم تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات طوائف أو كانتونات طائفية واثنية ويصبح اسم العراق و(مسيوبوتيميا) طيّ النسيان، وهو ما تريده الدول الامبريالية ودول الجوار والحركة الصهيونية العالمية.
وهكذا فبسبب عمق الهوة بين الطائفتين والمتمذهبين لم نعد نكتشف وجود اسلام واحد بل هناك اسلام شيعي واسلام سني واسلام وهابي وزد ما شئت من تقسيمات، خاصة بعد ان يختصم اصحاب الطائفة الواحدة فيظهر اسلام يمثل هذا التيار أو ذاك وهذا الحزب أو ذاك. ولذا فان الحل الوحيد لضمان وحدة العراق شعباً وارضاً يكمن في إقامة الدولة المدنية التي تحترم مبادئ الديمقراطية الاجتماعية وحقوق الانسان.
واني اتحدى جميع المتخرصين والكذبة بمن فيهم ابراهيم البهرزي ان يقدموا لي دليلا ً واحداً يثبت تورطي باي موقف طائفي، وان لا يكتفوا بصورة عشوائية باطلاق الاحكام الجزافية غير المسؤولة.
انا كما قلت، كتاب مفتوح، وحياتي مفتوحة امام الاصدقاء والاعداء، على السواء ولا تضيرني المغالطات والاكاذيب والمهاترات. فانا صاحب مشروع ثقافي وطني آليت فيه على نفسي أن اكون جندياً شجاعاً يدافع عن آخر قلاع الديمقراطية والتنوير ممثلة بالثقافة العراقية. واني اشارك اليوم، كما كنت بالامس، بالكلمة والدراسة والخطابة والمواقف المهنية النزيهة مدافعا عن قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والتآخي المجتمعي الحقيقي، وأوجه خطابي النقدي إلى من يجيدون القراءة ويتقصون الحقيقة عن طبيعة الادب العراقي ومنجزه
والقيم الشعرية والجمالية التي انجزها وعن الوظيفة الاجتماعية لهذا الادب التي لم اتنكر لها يوماً. وانا أعدّ نفسي مثقفاً ملتزماً، وانساناً ومواطناً له مسؤولياته وحقوقه وواجباته تجاه الواقع والحاضر والمستقبل.
وأختتم ورقتي هذه بحكاية طريفة رواها من على منصة اتحاد الادباء الشاعر د.سعد الصالحي نقلاً عن القاص والروائي المرحوم غازي العبادي الذي قال انه اثناء وجوده في اتحاد الادباء في موسكو التقى بكاتب سوفياتي كهل فراح العبادي يتحدث له عن انجازاته وكيف انه انجز مجموعة قصصية، وانه يعد من ابرز قصاصي الستينات في العراق وكان يتكلم باعتداد عن نفسه أمام دهشة الكاتب الكهل الذي استأذن مغادراً، فاستوقفه القاص غازي العبادي متسائلا ولكنك لم تعرفني باسمك ومن تكون؟ فقال له الكاتب الكهل ببرود “انا ميخائيل شولوخوف!”،
واقول “رحم الله امرئ عرف قدر نفسه”، وها انا ذا قدمت جزءاً يسيراً من سيرتي المتواضعة واترك للآخرين استقصاء جوانب اخرى تتعلق بسلوكي الشخصي والمهني والسياسي واسهاماتي النقدية التي اصبحت مرجعاً لا غنى عنه في الجامعات وبشكل خاص في كتابة الرسائل والاطاريح الجامعية العليا، فضلا عن مساعدتي للعشرات من طلبة الدراسات العليا في العراق ومنهم في جامعة ديالى برفدهم بالمقترحات والمصادر، وبامكان أي منصف ان يتأكد من ذلك. واذا ما راجعت اقوال الادباء والنقاد والاكاديميين عني فسوف تجد ان العشرات منهم يعدونني معلمهم الاول الذي تعلموا منه الممارسة النقدية وبعض هذه الآراء مدرجة ضمن سيرتي الذاتية المنشورة على الانترنيت.
اما دوري في قيادة اتحاد الادباء فكان يتسم بالموضوعية والتسامح واحترام جميع الادباء وعدم التفريق بينهم لاية اعتبارات عرقية او فكرية أو شخصية، وكنت اعمل متطوعاً وبلا راتب أو مقابل مادي او مخصصات بل كنت ادفع من جيبي الخاص ثمن الشاي الذي اشربه كما ادفع مبلغاً من المال لمن ينظف غرفتي فضلاً عن اني كنت ادفع من حسابي الخاص لشراء كارتات لاجراء اتصالات دولية ومحلية لها علاقة بتمشية اعمال الاتحاد واتصالاته. اما مشاركاتي في اعمال اتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب افريقيا وآسيا فقد عززت مكانة الاتحاد والثقافة العراقية وقطعت الطريق امام الكثير من الاكاذيب والاضاليل التي كان يروجها الاعلام العربي المغرض قبل انهاء تعليق عضوية الاتحاد والتي كانت تمهد لمنح موقع الاتحاد لأيتام الدكتاتورية. وعمّا يقال عن استئثاري برئاسة وفد الاتحاد الى تلك الاجتماعات فيعود الى طبيعة هذه الاجتماعات التي تفترض تمثيل كل اتحاد برئيسه بوصفه عضواً في المكتب التنفيذي للاتحاد، ويحق للرئيس تخويل عضو آخر بتمثيله، ولكن ذلك سوف يضعف من مكانة الاتحاد ومستوى مشاركته، وهو مبدأ تعتمده جميع الاتحادات الاخرى.
معذرةً من القراء فقد تعكر مزاجي، وأنا أعيد قراءة منشوريّ البهرزي المشبعين بالقيح والاكاذيب، وقد تذكرت واحدة من روايات الروائي فرانز كافكا متسائلاً:
ـ هذا انا،
فأين أنت يا غريغور سامسا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ