خلال العقود السابقة ، عرف العراقيون من جيل رياض قاسم على انه الشاعر والكاتب والصحفي ، ولكن من عرفه عن قرب فقد تعرف عليه وعلى سجاياه ، فهو الإنسان البسيط الذي لا تفارقه الضحكة والمليء بالجدية والمدافع الشرس عن الأفكار الموضوعية والحق ، ومن أسرار شخصيته انه يستطيع إقناع الطرف المقابل بالصحيح دون تعسف أو تعصب وإنما بطريفة سهلة تدخل للقلب ، ورغم عفته ونزاهته وترفعه عن الملذات فانه لم يترك أثرا سلبيا عن احد ما ، وقد يقول قائل وكيف يمكن ذلك أمام الناس الطماعين والطامعين ، والجواب انه لا يعرف صفات الطمع أبدا فهو يكتفي بالرزق الحلال حتى وان كان شحيح ، لذلك يمتلك حجة في الإقناع يوصلها بالابتسامة وأحيانا تسمع صوته المعروف يرتفع في الندوات والمؤتمرات ،فيقول من يسمع هذا الصوت انه صوت رياض القادم من الحقيقة والصدق الممتزج بما يجيده من حجج في ترطيب الأجواء .
ورغم إن رياض قاسم مر بموقفين كبيرين إلا انه خرج من واحد وبقي في الآخر ، فعند وفاة زوجته الفاضلة والمبدعة في الحياة المرحومة ( أم أزل ) بعد أن أصيبت بمرض لم يمهلها الكثير ، اقسم بان يكون وفيا لها وقد أوفى بعهده فعلا فكرس جزءا مهما من حياته لرعاية بناته الثلاث ، فتحول إلى الأم والأخ إلى جانب دوره كوالد ورعاهن أفضل رعاية حتى آخر لحظات حياته ، ومن شدة وفائه انه رفض جميع عروض الزواج والأكثر من هذا انه لم يلامس امرأة لا في الحرام ولا في الحلال ، فبقي أرملا لأكثر من ربع قرن رغم إن عمره في رحيلها يسمح له بالزواج ولكنه كان يخاف على أن تظلم بناته بأي شكل من الأشكال أو يميل إلى زوجته على حساب ما اقسم عليه ، أما الموقف الثاني فكان في الزمن (الأغبر) ، حيث اتهم بالقتل والإرهاب رغم انه يسمح للبعوضة بان تعضه وعندما تقول له لماذا تسمح لها يقول إنها مخلوقة ولا يجوز قتلها في البحث عن حقها في الحياة .
وبعد أن أقضى رياض قرابة الشهر في إحدى مراكز التوقيف وسط القتلة والمجرمين تم الإفراج عنه لان الجريمة التي اتهم بها قد حصلت أثناء وجوده في إحدى البلدان العربية والتي ذهب إليها للحفاظ على عائلته من أعمال العنف التي انتشرت في حينها داخل العراق ، وحين خرج من التوقيف تأسف العاملون والموقوفون في الموقف على خروجه لا بسبب توقيفه ظلما وإنما مغادرتهم ومفارقتهم حيث حول الموقف إلى عالم آخر فأحب الجميع رياض لأنه يملأ الدنيا ضحكا عندما يقولوا له إن تهمته عقوبتها الإعدام ، واتجه بعدها لتأسيس جريدة خاصة به أسماها ( اليوم ) والتي كان يمولها من ماله الخاص رغم انه محدود الدخل وليس من الأغنياء ، وقد أقنعني برئاسة تحريرها واتفقنا بان يتفرغ هو لا يجاد مصادر لتمويل النفقات عن طريق الإعلانات والاشتراكات ، وكان الانسجام بيننا عاليا حيث سبق وان تعارفنا عام 1987 في جريدة الجمهورية وعملنا معا في جريدة العراق قبل الاحتلال بسنوات ، ولقصور التمويل فقد طلبت منه تعليق إصدار جريدته بعد أن علمت انه رهن دار أسرته ليوفر رواتب العاملين .
لقد رحل رياض قاسم الإنسان مساء الخميس الماضي في مستشفى اليرموك ، وتلقيت نبأ وفاته بحزن كبير فقد كان يعاني من بعض المتاعب الصحية ولكنها لم تكون بدرجة كبيرة من الخطورة التي تجعل وفاته بهذه السرعة ، فقبل أيام اتصل بي هاتفيا لإلقاء التحية واتفقنا أن نلتقي قريبا لأنه قد يغادر العراق إلى الأردن لأمور تتعلق بدراسة إحدى بناته ومتابعة حالته الصحية ولكن وفاته تمت بأمر الله وهو المحيي والمميت ولا اعتراض على حكمه قط ، ومن لحظة وفاته لغاية نشر هذه الكلمات لم نجد اهتماما برحيله يوازي الجهود التي قدمها خلال العقود الماضية ، من حيث نتاجاته الأدبية والصحفية والمواقع التي تولى إدارتها ، وهذا الموضوع ليس غريبا فالمبدع أصبح منسيا في الحياة والممات ، ولكن رياض لم يرحل عن قلوبنا حتى وان ذهب إلى رحمة الله ، فقد نحت فينا معاني المحبة والوفاء والصداقة الصادقة ، وعاش مع الحزن والألم في العديد من سنوات عمره رغم ضحكاته العريضة ، نعم انه موجود في قلوبنا لأنه أخ وزميل وصديق بالفعل وموجود في عقلي ولا يمكن أن يرحل عنهما في يوم من الأيام حتى اللقاء ولم يقدم غير الخير والعفة لمن عرفه ، ونسأل الباري عز وجل أن يجعله بالمكانة التي يستحقها وان يعوضه بالسعادة التي افتقدها في الحياة وإنا لله وإنا إليه راجعون .