23 ديسمبر، 2024 2:03 م

أيمان محمد والتشكيل من وحي الكلمات

أيمان محمد والتشكيل من وحي الكلمات

عادة ما رددت إيمان بأن لها عشرة أصابع، كل واحد له موهبة، وهذا عين الصواب، فإيمان التي عرفناها دائماً معطاءة ، ومتعددة المواهب،وجامعة المشارب، حتى أنها لاتكتفي بضرب من الإبداع دون أن توغل فيه سبرا وتنضج فيه روحاً، فهي القاصة والأديبة والشاعرة والمصممة .و بالرغم من أنها درست الإقتصاد في الجامعات العراقية، فأنها سبقّت وغلبّت السليقة الباحثة عن الجمال والكمال على مجمل منتجها، حتى لنعدها طاقة وثابه ومبادرة ولاتستكين وترفض الإنزواء والنسيان ،فتنهمر تلك الروحية مخترقة كل توظيف وممتثلة لكل موائمة، ومسبغة منهجا إبداعيا لايشذ في طرقِ عن سواه.

كم هي ثقيلة تلك الغربة عن الأوطان ،لكن غربة الأرواح وقعها أثقل من غربة الأبدان . ففي لجة المغتربات، التي أمست قدر الكثير من المبدعين العراقيين مجبورين لامجبولين. مسكينة هي تلك الروح المعذبة لمن أغتربوا، حينما ترادفت وتراكمت على كاهلها خيبات الأمل وكم الإنكسارات، فلجأت للبوح والتفريع من خلال التفكير والإبداع والتدبير أكثر من مطالبتها بحرية التعبير، التي أمست مثلما دعي “الخبز الخافي” أو شغل ما لاشغل له، فالتفكير بالحلول من خلال إنفجار الذات المتجلية أجدى من الشكوى والتمشكل، وإن كان كم الإبداع نابعاً من ظرف ،و تابعاً لما نلاقيه من خذلان وحسرة، فجدير أن يكون العراقيون، آخر من يصنع الإبداع ويشيد للكلمات الواعية سياق وسجال وسرد،وللون موطأ قدم وموقع على حامل.وهكذا كان الأمر مع إيمان التي أترعت بخيبات الأمل من وضع عام مترد، فلجأت الى الذات ملاذاً واللوحة حثا وتفريغاً،فكتابة قصة أو إنشاد شعر أو ولادة لوحة هو مخاض وفرح، نأيا عن الإحتقان والحزم. فكان لها أن تظهر ما تضمر من ويل وحسرة، فأمسى اللون المجرد عبرة والتكوين التشكيلي مودة ، كما هو السرد المتدفق عندما تكون روائية أو النظم حينما تصبح شاعرة.

اليوم كان لنا معها لقاء ضمن مناسبة إتحاد الأطباء العراقيين في ألمانيا 8-أيلولسبتمبر2012 ،على نحوٍ إحتفالي، فقد تمَّ ترشيح إيمان محمّد لتقديم صورة مشرقة للفن العراقي الجميل، ولقد كان هذا الاختيار  موفقاً من زوايا ثقافيّة عديدة ، فقد عكس َفي إحداها قدرة الإنسان العراقي الذي عاش تحت وطأة الحروب والموت والدمار والتهميش والمساومات والتحاصص والمتاجرات، أن يبعث من تحت رمادها عنقاء ينبض به عرق يؤكد البقاء ، ويُثبت للعالم قدرته على العطاء ، الذي أريد له عكسه، و صحّحَ من خلال ذلك ما روج عن هامشية هذا الإنسان الذي عاني من متاهات الحلول المملاة عليه، حتى لم يعد له من ملاذ سوى التعبير عن ذات نابعة وغير تابعة، و الصنع دون التصنع. رمزاً ومواراة ومجاز

التورية ليست تعمية ،والرمز هو حاكم كل شجون حياتنا،والمجاز يدلل العمق ودرء السطحية أما التجريد فليس تقليد ، حتى لو شاع في الفنون الغربية في الحداثة إبتداءا من  الروسي(كندنسكي) ، فبدى للبعض أنه دخيل على فنوننا المترعة بها منذ سومر حتى منمنمات الواسطي. أما المنهج الرمزي والمجازي الذي تتبعه إيمان في لوحاتها، فهو غير صريح وظاهر،و مهاجنة بينه وبين تجسيد ضامر ، فيه من الدلالات المكملة للفكرة والمتكاملة دون تكلف وإقحام مع سياق اللوحة من الناحية التشكيلية وإتزان الكتل اللونية وإنسجام عناصرها، وكذلك التدرج والتداخل والإنسجام بين ألوانها، التي تبقى نابعة من نفس أنثوية مرهفة تشكو بصمت،وتنكر ذاتها، وتنشغل بالعموميات لكنها لاتهمل التفاصيل التي هي سليقة وفطرة نسوية، فنجدها أحيانا تقترب من المنمنمات في مدرسة بغداد بدقة المحتويات المكونة، وأحيانا تكون متماهية مع موندريان الهولندي في خطوطه المتصالبة المحددة لكتل اللون والتابعة لنسب جمالية، أملتها الفطرة أو الحس أو الخبرة ، نابعة من نفس جبلت في البحث عن الجميل، تحاول إظهارة من خلال الفكرة قبل الصورة.

بالرغم من عتمة الحال وتلبد النفس بالهم الذي يمر به كل عراقي اليوم ،وأجدر أن يكون إنتاجه الأقرب الى عتمة ألوان ممبرانت ، لكن دفق الشمس وضوئها الهادر وتنوع اللون من بيئة إيمان محمد الأولى، قد صارع وأنتصر على بيئتها الألمانية المكفهرة  غربة وسماء،حيث يتدفق في اللوحة اللون المضي غير الصارخ، لا المعتم أو الفاقع ، في حبكة من تدرجات و إسترسالات وتداخلات وإنتقالات منسجمة  بدرجاته الفاتحة عادة. حتى يوحي لنا بأنه شاعرية نابعة من دفق كلمات شاعر متفائل بقادم الأيام ونابذ للون الحرائق وقان الدماء وفضاعة الأشلاء وداكن الفواجع . وبالرغم من الحبكة السوريالية في لوحاتها إحيانا، فإنها تنطق من روح خضراء متفائلة وصريحة، ونجد لونا أخضر غالب غير مدغم.

لدي إحساس بأن كلمات الشعر تنهمر على حيثيات اللوحة، وإن دفق التفعيلة ميزان متوار في تكوينها المتوازن،  وشعور بإن ثمة بوح عجزت عنه الكلمات ليجد طريقه للتشكيل، و أمل بأن دفق الموهبة الضاربه بفعلها هنا، يكون فضاءه هناك في بلد يأن من التناحر الأسود، فكم هي حاجتنا اليوم لأن يكون اللون سائد ولغة حوار ، وأن تلون إيمان وطبقات الإبداع العراقي  حيثيات الحياة ، ويعلنوا قطيعة ونبذ لحالة النكوص التي تعم، ورفض لرموزها من تجار التناحر و ساكني العتمة والكارهين لطيف النور والجمال.