مثلما تلازم الليل بالنهار، وترابط الشر بالخير، تزامن العمل بالأمل، فلا عمل بلا أمل، ولا أمل بلا عمل، فالأمل الخاوي على عروشه دون عمل وإقدام مثله (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) سورة النور: 39، فلا ينال صاحبه إلا خيبة وشفقة الآخرين وربما غمزات الأقربين ولمزاتهم، والعمل بلا أمل كسيارة يسوقها صاحبها الى مسافات بعيدة بوقود قليل تتوقف طالما نفذ الوقود، فالأمل وقود الحياة.
وربما قرن البعض الأمل بالشباب وزواه عن كبار السن، وهو أمر ربما يكاد يكون صحيحاً في ظاهره، ولكن في واقعه منقوص الصحَّة لأنَّ الأمل بحد ذاته بمثابة جوهرة باهرة متألقة على الدوام تتوفر في ذاتية الشاب وكينونية الشايب، فالضعف ليس في جوهرة الأمل وإنما في التعاطي معها، فالشاب العاطل الخائب يكون محروما من جوهرة الأمل والرجل المسن العامل يحدوه الأمل إلى العمل والإنتاج، ولذلك نرى أنَّ العامل أو الموظف يعتبر تاريخ تقاعده هو بداية الموت البطيء ما لم يكن له عمل آخر أو يجد له عملاً مفيدا يتكسب منه ويقضي بقية سني عمره، فهو وإن احتفل به زملاؤه في العمل وودعوه بقطعة حلوى، لكنه من الداخل يتملكه الأسى والألم لفراق ساحة العمل، وهو شعور ملازم لكل متقاعد عدمت يداه من شغلة أخرى.
ومما يُنسب إلى ارسطو طاليس (Aristotle) (384- 322 ق. م) قوله: “إنَّ الشباب يتحدثون عن المستقبل لأن الأمل يقودهم وليس لديهم ماضٍ يتذكرونه أو يتحدثون به، وكبار السن يعيشون مع الذكريات أكثر من الأمل بالمستقبل فيظلون يواصلون الحديث عن ماضيهم ويعتاشون على سالف الأيام”، وربما تبدو قراءة ارسطوطاليس سليمة، وهي بيان لواقع حال عليه الكثير من المتقاعدين وكبار السن، ولكن الحياة الحقيقية ترفض مصطلح التقاعد أو انتهاء عالم المستقبل لكبار السن ما حيي المرء بالأمل، فحتى الرجل المقعد جسديا يقوده الأمل إلى فعل الكثير ما دام في كامل قواه العقلية والنفسية وعنده لسان ينطق به أو قلم يخط به، وأغلب المشهورين على مدى التاريخ ماتوا وهم في تواصل مع عملهم، فالراحة عندهم متلازمة العمل والأمل متلازمة العمل، ولهذا كانت دعوة الإسلام على طول الخط وعلى لسان سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسن بن علي (ع): إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا … واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، فالمرء بين الأمل والرجاء وما بينهما عمل ورخاء في سراءٍ أو ضراء.
بهذا الأمل وعنفوان العمل يدعونا الفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي (إلى عالم أفضل)، وقد أبان في هذا الكتيب الصادر في بيروت نهاية العام 2021م عن بيت العلم للنابهين في 88 صفحة من القطع المتوسط عن ثلاثين أيقونة من أيقونات الحياة التي تقود البشرية جمعاء إلى مستقبل واعد ملؤه العمل البناء والأمل الغناء، وأردف بالكتاب تقريظ من نظم الأديب الكويتي الشاعر إبراهيم غلوم اللاري وقدَّم له وعلَّق عليه كاتب المقالة الدكتور نضير الخزرجي، وسبقتهما مقدمة للناشر بقلم الأديب اللبناني الأستاذ عبد الحسن دهيني.
الأفضل والأفضلية
البحث عن الأفضلية ليست خصلة ملتصقة بالشباب فحسب، فإننا نجدها حتى لدى الطفل فضلا عن الراشد، لأنها غريزة فطرية جُبل عليها الإنسان صغيراً كان أو كبيراً، وبتعبير المؤلف في التمهيد: (إذا دخلت قلب كل مَن على شاكلة الإنسان، وأعطيت للحيوان قدرة النُّطق وسألت الحجر والمدر واستنطقتهما وسألت الجميع ماذا يريدون؟ يقول الجميع في جواب موحَّد: نريد الأفضل).
ونشدان الأفضلية مع الأمل أمر زين، ومن دون العمل إنقلبت الى شين، وتبقى معلقة مع وقف التنفيذ لا تهش ولا تنش، ومثلما تساءل الأديب الدهيني: (ولكن هل يكفي لتحقيق ذلك الأمل والأمنيات فقط، أم المطلوب السعي الحثيث والجاد وبذل الجهد والحث والنصيحة والتوجيه بشكل دائم ومستمر، سواء على صعيد فردي أو جماعي، وسواء من خلال المؤسسات أو من خلال جمعيات أو تنظيمات تُنشأ لهذا الهدف من قبل مخلصين واعين شرفاء لا يميلون مع كل ريح)، تساؤل في محلِّه لا مناص منه لترجمة حيَّ على خير العمل.
ولما كان العمل من دون تخطيط وتقدير هو خبط عشواء كحاطب ليل، فلابد من تفكير عميق للوصول إلى الأفضلية على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والأمة وعموم البشرية، وهذا التفكير السليم هو الذي تنطوي عليه أيقونات هذه الكتيب التي جاءت على شكل نقاط وشروحات قصيرة عميقة هي نتاج عمر المحرر المولود سنة 1947م وتجاربه، وبتعبيره: (نقاط نعرضها عن تجربة سبعة عقود، ومن دراسة متواصلة، ومن قلب مفعم بالحب بكل ما تعني الكلمة من معنى، وعن تجرد من كل اعتبار إلا الحق الذي لا يحق إلا الحق، فتلك القوة المسيّرة لكل ما هو موجود).
ولأن الأفضيلة التي ينطقها لسان الفطرة السليمة هي لكل البشر دون خطوط حمراء أو صفراءـ فإن الكاتب يتوجه إلى الآخر النظير ويفيدنا: (إنني سأخاطب الآخر بمفردة نظيري لأتجنَّب الذكورة والأنوثة، والقرابة والغرابة، والكبير والصغير، والراعي والرعية، وبمفهوم إنني أنت وأنا أنت، ولا شك إنك أنا، فنحن نحن جسدٌ واحد وإنْ قطّعته القوة التي مِن خلفِنا الى قطع لنتناول أدواراً ونستمر أعصاراً ونسكن أقطاراً، لنكون يداً واحدة بها أصابع متعددة لتؤدي كل واحدة دورَها في هذا الذي يُسمى حياة أو المرحلة الأُولى للحياة)، فالمخاطب ليس النظير الديني أو العقدي أو الطائفي أو النسبي أو المناطقي أو القومي أو العنصري أو اللغوي، وما شابه، فالنظير هو ما اشار إليه الإمام علي (ع) عندما أرسل مالك بن الحارث الأشتر النخعي (25 ق.هـ- 39هـ) واليا على مصر موصيا إياه: (الناس صنفان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
وعلى منوال النظير للنظير دون مفاضلة من أجل خير الجميع وتحقيق الأفضلية وسعادة البشرية، جاءت عناوين الأيقونات الفضليات الثلاثين على النحو التالي: حرية العقيدة، الإبتعاد عن القوميات، التجنب عن العرقية، توزيع الثروة، للسلم لا للحرب، السلاح شرٌّ، إلغاء الحدود، توحيد العملة، توحيد الأسعار، لغة واحدة، التعليم للجميع، العلاج للجميع، لا للضرائب، حرية التجارة، الشعب يختار، تمويل الدولة، وضع القوانين، على الجميع أن يعمل، العجز آفة الجميع، إطلاق الحوار، خزائن الأرض للجميع، المنشئات لنا، التطور قيام الحياة، العلم والمعرفة، الوطن لنا، لا للهيمنة، مَن الحاكم، الحقوق والواجبات، الأمن ضرورة حياتية، وأخيراً إشاعة الفضيلة.
ثمرات تجارب الحياة قيدها الشاعر أبو عباس إبراهيم غلوم اللاري في قافيته السينية قائلا في بعض أبياتها:
بوركتَ من قلمٍ ومن قرطاسِ *** قد خطَّ فيك الصادق الكرباسي
سلمَتْ يداه فقد أتى بمطالبٍ *** في طيِّها خيرٌ لكل الناسٍ
ثم يواصل مؤكداً:
فيها خطابٌ للأنام بجمعهم *** من كافَّة الأعراق والأجناسِ
إنْ عمَّت الأرجاءَ فاحَ عبيرُها *** واعشوشبت من بعد طول يباسِ
النظائر المتخالفة
ويتوقف الكلام في قافية اللاري، وكذا في أيقونات الكرباسي، عند حاجز (إنْ) الحرف الجازم للشرط، الذي لا يمضي جزمه وعزمه إلا بتحقيق جملة الشرط، فمتى ما عمّت الأمنيات الثلاثين فاح عبير الخير والسعادة فضاء البشرية.
ولأن المؤلف يدرك حقيقة الصراع بين جبهتي الحق والباطل التي هي صبغة الحياة الدنيا، فإنه يقدم في هذا هذا الكتاب ثلاثين صورة من صور الحوار المثبت بين النظراء، يدعو النظير الإنسان بلغة الإنسان النظير مترفعا عن الجنس واللغة والمعتقد والعلمية والشأنية، لإيمانه التام بإن الناس كل الناس من آدم وآدم من تراب، وكل صائر إلى التراب ويبقى وجه الله، وكما جاء في وصية رسول الرحمة محمد بن عبد الله (ع) إلى شهيد المحراب في شهر رمضان من سنة 40 للهجرة: (يا علي: إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرهم بآبائهم ألا إنَّ الناس من آدم وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم).
يدعو النظير بلسان الإنسية مذكِّرا إياه بإنسانيته التي تترفع على الفوارق والنمطيات، داعيا إياه إلى السير معاً في دروب الوئام والمحبة والإعمار والبناء، فكلاهما في معيار الإنسانية سواء وإن اختلفا في كل شيء جسما وعقلا وفهما ومكانة.
في هذه الروضة النظائرية القائمة على محورية الخير والشر، يدعو الفقيه الكرباسي نظيره إلى التسامي على كل الإختلافات من أجل بناء الإنسان كإنسان وإعمار الأرض واستعمارها بما فيه خير البشرية جمعاء من مؤمن إو غير مؤمن على حد سواء، يدعوه: إلى السلم لا الحرب، إلى الإستقلال لا الإستغلال، إلى الإستشارة لا الإستبداد، إلى النزاهة لا الفساد، إلى العدل لا الظلم، إلى المساواة لا العنصرية، إلى العلم لا الجهل، إلى الإنفتاح على الآخر لا الإنغلاق على الذات، إلى الخير لا الشر، إلى النشاط لا الخمول، إلى الصفاء الروحي لا المكر، إلى السعادة لا الشقاء، إلى التطور لا التخلف، إلى الأمن لا الإضطراب، إلى الفضيلة لا الرذيلة، إلى الشجاعة لا الجبن، إلى الصدق لا الكذب، إلى الأمانة لا الخيانة، إلى الاستقامة لا الإنحراف، إلى المحبّة لا العداء، إلى الإخلاص لا الرياء، إلى الرفق لا العنف، إلى التآلف لا التنافر، إلى الحق لا الباطل، إلى التعقُّل لا التهوُّر، إلى التفاؤل لا التشاؤم، إلى العمل لا البطالة، إلى التطور لا الجمود، إلى النصاحة لا التملق.
يدعو نظيره بلغة الإنسانية إلى التسابق على نيل المنى بالطرق السليمة، يدعوه لأن يصعدا السلّم سوية يأخذ كل بيد صاحبه حتى إذا ما تقاعد الأول حلّ الثاني محلّه ووجده خير عون عند عجزه وشيبته.
إنها دعوة إنسانية نادى بها المصلحون ورعاة الفضيلة منذ أبينا آدم (ع) حتى قيام الساعة، دعوة النظير للنظير دون أجر أو نظير ينادي بها الفقيه الكرباسي متجردا عن الشأنية والحيثية، يدعو نظيره إلى جني ثمار الخير حتى يسعد الجميع، فالسعادة كل السعادة أن يجد النظير نظيره سعيداً.