محزنٌ جدا حالُ المرجعية الشيعية في النجف الأشرف وقد فقدت صوتها ولم يعد لكلماتها الناصحة بإخلاص، ولا لصيحاتها الغاضبة المؤنبة، أثرٌ في آذان أبنائها الخارجين عن طاعتها من سكان المنطقة الخضراء، وبالأخص شلة الحكام والمستشارين والمرافقين والمصفقين ووعاظ السلاطين الذين لولا وساطة السيد السيستاني لدى الحاكم الأمريكي بريمر لما قام بتتويجهم فراعنة في عراق ما بعد ديكتاتورية صدام وظلمه وطائفيته واستهتار إخوته وولديه وأبناء عشيرته ومحازبيه، لتكتشف بعد حينٍ قصيرٍ جدا أنهم كذابون ومنافقون وأكثرُ ظلما وطائفية وفسادا من صدام وحزبه ومستشاريه، وأنهم، جميعَهم، ناكرون لجميلها يقابلون إحسانها بالعقوق وقلة التربية وموت الضمير.
فلا محابسُ الشذر التي يتبارون ويتباهون بأثمانها الباهضة وألوانها وأنواعها النادرة، ولا اللحى الخفيفة المحفوفة بانتظام، ولا مسابحُ العقيق التي يسُبحون بها ليل نهار، ولا المظلمومية الشيعية التي تاجروا وما زالوا يتاجرون بها، ولا مسيراتُ اللطم التي يسيرونها مشيا على الأقدام مئات الكيلومترات كل أسبوع، وأحيانا كل يوم، وينفقون على خدمتها وحمايتها المليارات من أموال الشعب العراقي الجوعان الذي يتلقط رزقه من المزابل، ولا المليشيات التي يمولونها ويُسلحونها ويسلطونها على عباد الله يمكن أن تشفع لهم لدى آية الله السيد السيستاني لكي يُسامحهم في عقوقهم، ويغفر لهم تمردهم عليه وعلى إرشاداته الأبوية المخلصة، وتحذيراته من العاقبة الوخيمة الآتية لا ريب فيها، لا عليهم وحدهم، بل على طائفتهم كلها، وعلى باقي مكونات الشعب العراقي، بل وعلى شعوب المنطقة أجمعين.
ترى هل راحت أيام المرجعية، أم هي غيمة عابرة لن تلبث أن تزول ويزول أصحابها الذين لا يسمعون ولا يتقون؟.
فمن زمن طويل جدا، ربما من ست سنوات وأكثر، والمرجعية تصيح في كل خطبة جمعة بأعلى صوت ممثلها الشيخ عبد المهدي الكربلائي داعية لأن يفيء زعماء حزب الدعوة، وحلفاؤه وشركاؤه، إلى العقل والضمير، ولا من سامعٍ ولا من مجيب.
وأشد هجوم شنه المرجع الشيعي الاعلى آية الله السيد علي السيستاني على القوى السياسية الدينية الحاكمة هو الأخير الذي ندد فيه بمحاولاتها تمريرَ قانون للانتخابات يخدم مصالحها، بعيدا عن الديمقراطية والمصلحة العامة.
فقد قال ممثل المرجعية الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة الأخيرة بمدينة كربلاء إن من المؤسف أن البعض يحاول إدخال مادة خطيرة في هذا القانون، وهي إضافة أصوات من رئيس الكتلة أو رئيس الكيان الى أصوات المرشح الذي يفشل في الحصول على أصوات (العتبة الانتخابية) لإدخاله البرلمان رغم سقوطه في الانتخاب، وأكد أن لهذا تأثيرا سلبيا وسيئا، لأن هذا النائب سيصبح أداة طيعة بيد رئيس الكيان أو الكتلة، ولا يتمكن من الاستقلال برأيه، وهذا يتعارض تماما مع عملية البناء الصحيح للعملية الديمقراطية، وقد ينتج عنه عدم ثقة المواطن في العملية الانتخابية وعزوفه عنها.
ثم أشار السيد الكربلائي في الخطبة ذاتها الى قانون الاحزاب، فقال إننا نلاحظ أن بعض الكتل (وكتلة حزب الدعوة في مقدمتها) تعارض أن يتضمن القانون أحكاما تكشف مصادر تمويل الأحزاب والكتل السياسية، خصوصا وأن هناك كيانات وكتلا تمُول من جهات خارجية، فتصبح أداة لتنفيذ أجندات (غير عراقية)، وهي مُسيَرة من قبل تلك الجهات الأجنبية.
وأسألكم بالله أليست هذه قمة الوطنية العراقية الصافية، ومنتهى الوعي الديمقراطي السليم؟، ثم أليست هذه الصراحة (رغم أنها ناقصة لعدم تسمية المقصود) أشرفُ كثيرا من التغني بالديمقراطية من بعض السياسيين حتى وهم يذبحونها في مسالخهم ذبح النعاج؟ ثم أليست هذه وطنية أعلى كثيرا من وطنية شلل الحكم التي تشتم العمالة والعملاء وهي تتمرغ على أعتاب الدول المجاورة، وتلثم ترابها المهين؟
وبعد استماعكم إلى صيحات المرجعية هذه كلها، هل يبقى لديكم شك في أن أكثر المقصودين بها هو السيد نوري المالكي وحزبُه وحلفاؤه الميامين؟
ويقال إن المالكي حين سئل عن رأيه في تحذيرات المرجعية قال: إن السيد السيستاني رجل دين ولا شغل له بالسياسة.
ونسأل: حين كان موفق الربيعي مرسولا رائحا غاديا بين السيد السيستاني وبريمر، كمثل مكوك الحائك، كل يوم، ألم تكن تلك سياسة؟
وحين أمر السيد السيستاني باختيار إبراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم ومحمد بحر العلوم وموفق الربيعي أعضاء ورؤساء في مجلس الحكم سيء الصيت، ألم تكن تلك سياسة؟
وحين أجبر السيد السيستاني سلطة الاحتلال الأمريكي على التخلي عن فكرة الاستفتاء الشعبي العام واستبدالها بمسرحية تسليم السيادة وتعيين أياد علاوي رئيسا للوزراء، ألم تكن تلك سياسة؟
وحين أصر السيد السيستاني على سرعة كتابة الدستور، ثم تدخل في صياغة عدد من أحكامه، ألم تكن تلك سياسة؟
وحين أمر جميع القوى السياسية الدينية الشيعية التي تأتمر بأمره بأن يُنصبوا نوري المالكي فرعونا جديدا، في الدورة السابقة، ألم تكن سياسة؟
وحين أمرهم، في الدورة التالية، بإعادة تنصيبه حاكما مطلقا، رغم ثبوت فساد حزبه ومستشاريه وظلمهم وانحرافهم وتقصيرهم عن خدمة المواطنين، ألم تكن تلك سياسة؟
أم إن تدخل المرجعية يكون (سياسةَ حلال)، حين يكون في خدمة السيد نوري المالكي، ولكنه يصبح (سياسةَ حرام) حين يمس العصب الحساس، ويفضح المنافقين الذي يحكمون باسم الطائفة، ثم يعطون مرجعيتها العليا أذنا من طين وأخرى من عجين؟
سؤال آخر: هل بعد هذا كله يحق للمالكي ورهطه التباكي على الطائفة وحرمتها، وعلى الأغلبية وحقها في الحكم والظلم والفساد والتسلط على عباد الله الآخرين؟
وآخر سؤال: هل بعد كل هذا من لا ُيقر بأن هيبة المرجعية وجلالة قدرها تتعرضان للإهانة والتعدي والتطاول من بعض أبنائها المارقين؟
أيتها المرجعية قلوبُنا معك، فلا تيأسي، ولا تقنطي، ولا تبخلي على أبنائك بالموعظة الحسنة، حتى وهم لا يسمعون ولا يتقون.