اليتيم الذي تحول الى أسد الصحراء وأيقونة الكفاح من أجل الحرية !
تحل علينا في الـ 16 من أيلول من كل عام تحديدا الذكرى السنوية لإستشهاد أسد الصحراء سيدي عمر المختار رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته ، وكلما حلت ذكراه العطرة إستذكرت ذلكم العابد الورع المعلم المجاهد الزاهد الذي قال فيه زميل دراسته وغريمه الشارف الغرياني :
عليه ثيابٌ لو تُقاس جميعها …بفلسٍ لكان الفلسُ منهن أكثرا
وفيهنَّ نفسٌ لو تُقاس ببعضها…نفوس الورى كانت أجلَ وأكبرا
اقول استذكره بأمور عدة، اﻷول منها هو الفيلم الشهير الذي أخرجه مصطفى العقاد ، عام 1981 والذي شاهدته في السينما ﻷول مرة منتصف الثمانينات ورأيت بأم عيني كم الدموع التي ذرفها المشاهدون في نهاية الفيلم وكم الشحن العاطفي والعصف الذهني والاعصار الوجداني الذي أصابهم متأثرين بخاتمة بطل أيقظ أمة بعد طول سبات ، وسطر إسمه في صحائف التأريخ المجيدة بأحرف من ذهب وهو يردد عبارته الخالدة التي ما لبثت أن تحولت الى أيقونة الثائرين من أجل الحرية في كل مكان ” إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة، وهذا الإيمان أقوى من كل سلاح” .
اﻷمر الثاني هو ملخص مقال طويل كنت قد كتبته بمناسبة اليوم العالمي لليتيم في أول جمعة من شهر نيسان سنويا عن أشهر اﻷيتام في العالم بعنوان (أيتام صنعوا التأريخ ) ذاك أن المختار قد عاش يتيما بعد وفاة أبيه خلال رحلة الحج المباركة الى بيت الله الحرام وكان والده قد أوصى رفيق رحلته وهو يحتضر بأن يوكل الشيخ حسين الغرياني ، بتربية ولديه عمر ومحمد وقد كان .
اﻷمر الثالث هو مقال عن أشهر المسنين بمناسبة اليوم العالمي للمسن في اﻷول من تشرين اﻷول من كل عام بعنوان (مسنون صنعوا التأريخ ) وإذا بعمر المختار يتصدر القائمة وبلا منازع ويدخلها من أوسع أبوابها فهذا المجاهد الكبير قد بدأ جهاده بعمر 53 عاما وأستشهد بعمر 73 عاما فكان عمره أطول من عمر جلاده ، كيف لا وهو القائل في واحدة من روائعه ” لئن كسر المدفع سيفي ، فلن يكسر الباطل حقي” علما بأن المختار سبق له ان قاتل المستدمر البريطاني على الحدود الليبية – المصرية ، وقارع المستدمرالفرنسي جنوب السودان ، اضافة الى مقارعة الفرنسيين في تشاد ، وكل ذلك قبل قتاله الطليان بقيادة الطاغية النتن المجنون موسوليني !
اﻷمر الرابع هو رفيق رحلة العمرة عام 2009 والذي فاجأني وبعد أداء عمرته المفروضة بعدة أيام أن إنطلق الى مسجد عائشة ( التنعيم ) ليحرم من هناك ومن ثم إنطلقنا الى الحرم المكي وما إن دخل برجله اليمنى حتى قال بعيد دعاء دخول المسجد ” لبيك اللهم عمرة عن عمر المختار ” وبعد الفراغ من المناسك سألته ” لماذا المختار تحديدا ؟ ” قال ” ﻷنني آمل أن يرحمني الله تعالى بعمرة النيابة هذه عن رجل كان أمة لوحده وأن يكسبني بعض صفات المختار الرائعة ويزينني بها “.
اﻷمر الخامس هو أن كل قاتلي سيدي عمر المختار من الضباط الطليان قد قُتلوا وخابوا وخسئوا ، وأبرزهم اللعين الفاشي موسوليني الذي سحل مع عشيقته كلارا بيتاتشي وعلقا بالمقلوب بالحبال في إحدى الساحات العامة بمدينة ميلانو في نيسان من عام 1945 وكانت الجماهير تبصق عليهم وتركلهم وتشتمهم ، ليس هذا فحسب بل وتم تصويرهم على هذه الهيئة الشائنة ليكون موسوليني عبرة لمن إعتبر وكما قال الباري عز وجل في فرعون(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) ، فصور بينيتو موسوليني ما تزال تظهره على هذه الهيئة المقلوبة الى يومنا في اﻷرشيف وكل الوثائقيات وألبومات الصور ، أما الجنرال رودولفو غراتسيانى ، وكما يقول المؤرخون ” فقد ألقى الطليان من أعداء الفاشية القبض عليه وحاكموه وأذلوه بعد قتل سيده المجنون ثم نقل الى سجون الحلفاء بعد هزيمة إيطاليا النكراء في الحرب العالمية الثانية وتنقل بين سجونهم لحين الحكم عليه بـ 19 عاما ليموت بمستشفى في روما مذموما مخذولا “.
سيدي عمر المختار قد وفقه الله تعالى لثلاثية الفتح المبين : ” أشداء على الكفار ، رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا ” ، فجهاده الشريف ضد المحتلين اﻷشرار – ضد المستدمرين وليس ضد المسلمين والمسالمين والمستأمنين كما يفعل حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام،المسعورون والمضللون والمعتوهون والمأجورون والمتشددون ،بما يعلمه القاصي والداني – وكانت رحمته بالمؤمنين أشهر من نار على علم ، أما عن عبادته وعلمه وزهده وتقواه فمعلومة لكل من عاصره وتابعه وكتب عنه ويكفيه فخرا أنه نهل من علوم القرآن الكريم والفقه والحديث والتفسير الشيء الكثير بل وتعلم علم اﻷنساب والبيئة وعادات القبائل وأعرافها ومسالك الصحراء كذلك !.
في ملاحم المختار وبطولاته التي اذهلت القاصي والداني كتب الشاعر العراقي معروف الرصافي ، قصيدة ضد الاستدمار الغربي وزيف تمدنه جاء فيها :
ولا تغتررْ أن قيلَ: عصر تمدن…فإن الذي قالوه من أكذب الكذب
ألست تراهم بين مصر وتونس ..أباحوا حِمى الإسلام بالقتل والنهب؟
وما يؤخذ الطليان بالذنب وحدهم ….ولكن جميعُ الغرب يؤخذُ بالذنب !
بدوره كتب الشاعر المصري المعروف احمد شوقي ، في رثاء عمر المختار :
في ذِمَّةِ اللَهِ الكَريمِ وَحِفظِهِ …جَسَدٌ بِبُرقَةَ وُسِّدَ الصَحراءَ
لَم تُبقِ مِنهُ رَحى الوَقائِعِ أَعظُماً …تَبلى وَلَم تُبقِ الرِماحُ دِماءَ
ولعل من المفارقات العجيبة أن تحل ذكرى استشهاد عمر المختار، في نفس اليوم الذي تحل فيه ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، بحق اللاجئين الفلسطينيين العزل في 16/ ايلول / 1982 وقد قتل فيها مئات المدنيين من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ بدم بارد على يد الميليشيات اللبنانية المسلحة ، بينما تمر علينا في اليوم الذي يليهما ذكرى اتفاقية كامب ديفيد ، المذلة في 17 ايلول من عام 1978 والتي فتحت الباب على مصراعيه للتطبيع مع الكيان ، والتي اكل خلالها الصهاينة – فلسطين – كلها من النهر الى البحر على مائدة الذل والعار، بعد ان هبطت عليهم من اميركا في عهد جيمي كارتر ، وقد حصل الموقعون الثلاثة ممن اجتمعوا على قصعتها ومائدتها تمهيدا لأكلها – السادات وبيغن وكارتر – على جائزة نوبل للافلام …عفوا للسلام ؟! الا ان احدا على حد علمي لم يتحدث عن ذلك الا لماما ، لم يتفوه الا عرضا ،وكأن باب الذكر والتذكير والاستذكار كأبواب الفقه والاجتهاد قد أغلقت ، وكأن الاذان العربية قد صمت ، وكأن القلوب قد غلفت ، وكأن الالسن قد خرست ، وكأن العقول قد جمدت ..ما بالكم ياقوم ، الهذا الحد بلغ بكم الجبن والتكاسل والتناوم والنوم ؟!
طبت حيا وميتا سيدي عمر المختار فما أروعك..لقد رفعت رأسك أبيا شامخا فعُِلقَ – شانِقُكَ – بالمقلوب، رحمك الله تعالى وحشرك في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وأنت القائل في وصيتك الخالدة ﻷتباعك ولمن سيأتي من بعدك : ” كن عزيزاً وإياك أن تنحنى مهما كان الأمر ضرورياً فربما لا تأتيك الفرصة كى ترفع رأسك مرة أخرى، وأنا على يقين بأن حياتي ستكون أطول من حياة شانقي..نحن لن نستسلم ، ننتصر أو نموت ” . أودعناكم اغاتي