23 ديسمبر، 2024 11:51 ص

نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وبينما كان الرئيس ينظر يمنة ويسرة بحثا عن موضع لم يخربه بالكامل في البلد الذي يحكمه، وجد مساحة شاسعة من المسطحات المائية التي تغطي ملايين الهكتارات من الأراضي في الجنوب، وكان يسكنها بدائيون وعشائر وصيادو أسماك ومربو جاموس، وهم يبنون بيوتهم من القصب والبردي ويعيشون وكأنهم في فينيسيا من قصب حيث تحيط بهم المياه من كل جانب، ويتنقلون كما في البندقية في قوارب صغيرة، وبعضهم يشق مياه الهور ليصطاد السمك، بينما آخرون يراقبون قطعان الجاموس التي تدر عليهم المال الوفير من لحومها وحليبها والقشطة اللذيذة التي تنتجها، وقلة قليلة منهم تنقل السياح الذين يعدون على الأصابع، بينما يتم زفاف العرسان عبر المسطحات المائية الهائلة التي تنتشر فيها غابات القصب فيجتمع لون السماء والزرقة الصافية بخضرة النباتات التي تعوم على المياه العذبة.
قرر الرئيس وبحكمته المعهودة القضاء على الأهوار فجمع الآلاف من شيوخ العشائر ومواطنين بسطاء وقام بحملة وطنية لردم الأهوار في الجنوب بعد أن قطع عنها مياه نهري دجلة والفرات الخالدين اللذين يغذيان تلك المساحات بالمياه القادمة من أقصى الشمال ووضع السواتر الترابية لتحجب المياه، فبدت الأرض بعد وقت قليل يابسة متشققة، بينما بقايا هياكل عظمية لحيوانات وأسماك متناثرة هنا وهناك، بينما بيوت القصب متيبسة متهالكة كأنها أطلال منسية في صحراء العرب القديمة لاتبدو فيها مظاهر الحياة، وقد هجرها الناس الذين كانت أصواتهم وقهقهاتهم تعلو في جنباتها وحواليها. ماتت الأهوار بالكامل. ونسي الرئيس أنه سيموت في يوم، أو سيرحل غير مأسوف عليه، بينما تتشقق الأرض بأمر ربها.
كانت المياه في نهري دجلة والفرات تنخفض رويدا مع تهديدات تركية مستمرة ومحاولات لبناء سدود في الجانب التركي، وكانت الدولة العراقية تستعيد عافيتها بصعوبة، بينما كانت الطموحات في عودة الأهوار تتلاشى غير أن الحياة لاتنكسر على الدوام، وقد تستعيد حضورها في لحظة كافرة. الأمطار الغزيرة ومياه السيول عادت لتمد الأهوار بالمياه، وتم إزالة السواتر الترابية التي كانت تحجب المياه عن المسطحات البعيدة، وبدأت المشاحيف تشق الهور، بينما الجاموس الأسود يغوص ليبتل ويرطب الجسد الفائر، وأخذ الناس يعودون ليصطادوا السمك من جديد ويبنون بيوتهم من القصب والبردي ويحتفلون.
المدهش أن العالم لم يمت بعد.. فاليونسكو قررت إدراج أهوار العراق وبعض المدن الأثرية القديمة ضمن لائحة التراث العالمي لتكون الأهوار محمية دوليا، وبالتالي لاخوف عليها من الجفاف، فتركيا وإيران ملزمتان بتوفير حصص مائية متوازنة للعراق ستنعكس إيجابا على واقع الموارد المائية المتاحة لهذا البلد. علينا أن نحتفل فالعالم لم يمت بعد.