23 ديسمبر، 2024 12:57 ص

أيام الفيلم الايطالي في عمان فيلمي “امي ورأس المال البشري”: تجديد الواقعية ومتاهة ابتكارية!

أيام الفيلم الايطالي في عمان فيلمي “امي ورأس المال البشري”: تجديد الواقعية ومتاهة ابتكارية!

يتحدث الفيلم الأول “امي”(2015) للمخرج (ناني موريتي) عن “مارغريتا” المخرجة التي تقوم بتصوير فيلم “واقعي” بشوارع روما مع الممثل الأمريكي (جون تورتورو)، الذي يتسبب لها بالعديد من المتاعب في مواقع التصوير المختلفة، وهي تحاول احداث التوازن المطلوب بحياتها بالرغم من مرض واحتضار والدتها، وصعوبة التعامل مع ابنتها المراهقة الذكية.
هذا الفيلم الاجتماعيالشيق يخلط الجد والحزن بالطرافة والكوميديا، ويتضمنمشاهد فريدة منها طريقة تصوير اللقطات والحوار داخل سيارة، وما رافق ذلك من غرابة وكوميديا، وقد ابدع حقا نجمهوليوود (جون تورتورو) بدور باري هاغنز، واستغرب عدم ترشيحه لأي جائزة، وتكمن غرابة هذا الفيلم لكونه يجدد الواقعيةالايطالية الشهيرة، مصورا فيلم داخل فيلم، وقد فاجئنا الممثل الأمريكي بتعبير صادق عندما تلعثم بأحد المشاهد مبررا ذلك بالملل المتراكم طوال السنين، مثنيا على “روعة الواقع” وجاذبيته، كما أشار لتجاربه السابقة الفاشلة مع كل من المخرج الأمريكي الشهير “ستانلي كوبريك” والممثل “كيفن سباسي”، حيث اكتشفنا انه يكذب ولم يعمل قط مع كوبريك، ولاحظنا أن الممثل الطريف لم يستطع (ربما بقصد) أن يكون جديا بمواقفهالتفاوضية مع العمال، وبدا عاجزا عن فهم مطالبهم العمالية وتقديسهم للعمل ورغبتهم بالمشاركة لتحقيق مطالبهم العادلة.
أبدعت (الممثلة مارغريتا باي) بتمثيل دور المخرجة المبدعة والمثقلة بالهموم، وبدت وكأنها تتحامل على نفسها وتكابد (هي وشقيقها) المعاناة والقلق لوضع امهما الصحي المتدهور بالمستشفى، محاولة بناء علاقات متوازنة مع كل من زوجها وشقيقها (جيوفاني وقام المخرج نفسه بالدور)، وصديقها السابق (مساعد المخرج) وكذلك ابنتها المراهقة، وبذلت ضبطاكبيرا لأعصابها لكي تتحمل جملة تصرفات الممثل الأمريكي التلقائية والارتجالية والكوميدية، كما استمعت باصغاء لنصائح صديقها السابق وخففت من “تعاليها ونكدها”، بل اصبحت أكثر تواضعا واقل تطلبا…حتى امها العجوز المريضة فقد بدت تلقائية ومنصاعة لحقيقة مرضها، ولم تغرقنا بالحزن والأسى، بل حاولت أنتبقى متماسكة ومتعاطفة، حتى عندما نقلت للمنزل فقد استمرت برعاية حفيدتها وتعليمها اللاتينية التي هي استاذة فيها، كما لاحظنا تاثرطلابها السابقين بفقدانها.
لا نعرف حقيقة سبب استقدام المخرج لممثل امريكي للقيام بالدور، وخاصةانه لا يتقنالايطاليةتماما بل ويتلعثم احيانا بنطقها، ولكنا استمتعنا بتداعيات ذلك، كما بدا الممثل الأمريكي كالمهرج ببداية الشريط، عندما اظهر سعادته الفائقة بوجوده بروما “عاصمة السينما الاوروبية”، وانطلق بالصراخمن نافذة السيارة التيأقلته للفندق، كما اتحفنا لاحقا برقصة شبابية صاخبة وساحرة أثناء احتفال طاقم التصوير بعيد ميلاده.
يسير هذا الفيلم الشيق الممتع على خطين متوازين،قصة “الاضراب العمالي” وتداعيات التعامل معه، وما يتضمن ذلك من ملابسات كوميدية وجادة، ثم يسلطالأضواء بالتوازي مع معاناة البطلة وشقيقها مع مرض امهما بالمستشفى، ثم مع احتدام الحالة والانتقال للمنزل والاحتضار والوفاة، وبشكل واقعي حزين ومؤثر وانساني.
هذاالفيلم اللافت يخوض باستكشاف المواضبع المصيرية المثيرة للتفكير والمتناقضة في مزيج متدحرج من الكوميديا والشفقة، وخلط شيق ما بين الدراما والمرح وبلمسات خفية من “الميلودراما” الذكية، وقد قدم لنا وجبة انسانية ايجابية من السخرية والضحكات والدموع، ويستحق بجدارة الجوائز التي نالها بالمهرجانات الدولية سواء على مستوى الاخراج ام التمثيل.

أما الفيلم الثاني فهو فيلم مميز أيضا وقد حصد العديد من الجوائز العالمية، وهو يستحقها بجدارةواسمه “رأس المال البشري”(2013) ومن اخراج (باولو فيرزي)، ويسرد لنا قصة شيقة تتحدث عن تعرض سائق دراجة هوائية لحادث دهس خطير من قبل سيارة “جيب” مسرعة ذات ليلة، ثم تتشابك الأحداث “كالمتاهة” وتتداخل التفاصيل في حياة كل من “برناتشي” و”اوسولا” في صراع طبقي خفي لمحاولة تدبير الامور والحفاظ على الحياة المريحة للطبقة الوسطى التي ينتمون لها، وتبدأ القصة بانتظار “دينو اوسولا” وهو بمنتصف العمر لولادة “توأم” من زوجته الثانية الشابة، ولكنه يعاني من ضائقة مالية تجبره على اعطاء برناتشي مبلغا “كبيرا” من المال لكي يستثمره له كمدير مالي (بمؤسسة استثمارية) بنسبة عالية، لكنه يتفاجىء بعد حين بخسارة الاستثمار وبصعوبة استرداد المبلغ، ويلاحظ تهرب “برناتشي” ثم يحاولملاحقته أثناء تواجده بملعب التنس وحتى بمواجهته أثناء اجتماعاته الهامة دون جدوى، ثم تتشابك الامور مع وجودعلاقة مضطربةلابنته المراهقة بالنجل المتهور المدمن “جيوفاني بيرناتشي” بحكم وجودهما بنفس الصف الدراسي، ويزيد كل ذلك من تعقيد الامور في عالم التنافس الرأسمالي والطموح والمناصب، ثم يستغل “دينو اوسولا” بذكاء اكتشافه بالصدفة (بعد اطلاعه على اتصالات ابنته باللابتوب) لتورط صديق ابنته “الفنان الكادح” بعملية الدهس،فيسعى بلا تردد لابتزاز زوجة برناتشي الجميلة مسترجعا نقوده مع فائدة مجزية بالاضافة “لقبلة حميمة” من الزوجة في لقاء منفرد بالكنيسة!
تنبع “ابتكارية” هذا الفيلم الطويل المدهش في طريقة تناوله لمجريات الأحداث مسقطا عليها نوعا من “الكوميديا السوداء” الشيقة، معتبرا وجهة نظرالأطراف الثلاثة المعنية، بمراعاة انعكاس ذلك على الطمع واللامبالاة والتعاليكما الرغبات والقيم الانسانية في أجواء متواترة تتفشى فيها المصالح الذاتية والأهواء الجنسية والتلاعب المالي الجشع…يتم أخيرا تسوية الامور لمصلحة الجميع بالابتزاز والتأمين المالي وبسجن الجاني، وتبقى الفتاة المراهقة مخلصة بحبها للفنان المسجون لأنها ترى فيه نموذجا “للاخلاص والتضحية والحب الحقيقي”، فيما نلاحظ ضمن السياق قيام الزوجة الجميلة المحبطة باقامة علاقة جنسية عابرة مع رجل “تافه وانتهازي” مشارك بمشروع ترميم المسرح الفاشل، وقد شاركت بحماس لمقاومة فكرة انشاء مشروع سكني نظرا لشغفها الفائق بالمسرح لطموحها بأن تصبح ممثلة، حتى مشهد الاغواء الجنسي فقد كان معبرا ويتضمن “قسوة” لاذعة، ونلاحظ ان حلم “المجد الاجتماعي” وكثرة الانشغال المهني قد قادت الزوج لاهمال زوجته والاستهتار بذكاءها ومطالبها.
يتحدثالفيلم عن اجواء “شمال ايطاليا”، وتكمن براعة الاخراج بسرد الأحداث من عدة اوجه ودون ترتيب زمني وبطريقة “الفلاش باك”، وباعتماد الروايات الثلاث المتداخلة للوقائع، كما أبهرنا طاقم التمثيل بروعة تقمص الشخصيات، حيث نال هذا الشريط جوائز بالاخراج والسيناريو والمونتاج كما بالأدوار الرئيسية والثانوية (قام بتمثيل الأدوار الرئيسية كل من “فابريزيو بينستيفوجليو، ماتياداجيولي وفالريابروني)، ناهيك عنبراعة الصوت والتصوير…يؤشر الفيلم لكيفية ارتباط مصائر عائلتين معا بفضل “حادث دهس” عابر ب”جيب” بالليل قبل موعد “الكريسماس”، فالصدفة والكوارث كالأقدار قد توحد مصائر البشر أحيانا!
يتحدث الفيلم ببلاغة مجازية عن “فقدان السعادة” على حد سواء عند الأثرياء والناس العاديين لأن قيمة البشر بالمجتمع الرأسمالي تقاس باليورو!