13 أبريل، 2024 6:12 م
Search
Close this search box.

أيام الحصـــار

Facebook
Twitter
LinkedIn

عوقب الشعب العراقي أممياً نتيجة دخول الجيش إلى الكويت اب من عام 1990. لا أريد التطرق إلى الأسباب والمسببات فما أريد الحديث عنه هو الحاصل من العقوبات التي المت الشعب العراقي ونالت منه دون أن يكون له ذنب في قرار اتخذه النظام الذي ظلم الشعب العراقي قبل أي أحد آخر. ما أبتغيه هو التطرق إلى بعض التداعيات التي نشبت من جراء هذا الدخول غير الدروس.

بموجب القرار الأممي هذا دخل العراق تحت طائلة البند السابع، منع العراق من الاستيراد ومن البيع ومن التعاملات الدولية. الأمر الذي جر الشعب العراقي إلى ويلات لم يكن يتصورها من قبل. تدهورت الحالة الاقتصادية للبلاد وأصبح الدينار العراقي عملة نكرة أمام الدولار الأمريكي، حتى بلغ قيمة الدولار الواحد يساوي 3 الآف دينار عراقي وأكثر. التضخم في الاقتصاد العراقي بلغ حداً لا يمكن تخمينه، عندها عمدت الدولة على طبع واستنساخ العملة العراقية على أوراق عادية ملونه وطرحها في السوق وتحت متناول المواطنين. هذه العملة التي لا غطاء لها في العالم ولا يمكن التعامل بها في أي مكان خارج العراق وحتى في شمال العراق الذي احتفظ بالعملات العراقية السويسرية الطبع.

الراتب الشهري للموظف هو 3000 دينار عراقي لا غير، أي ما يعادل دولاراً واحد فقط، جعلت الأمور صعبةً جداً وموظفو الدولة يعانون الأمرين وخاصة كبار السن من المتقاعدين. لا يعرف أحدهم كيف يدير أمور بيته بدولار أو دولارين في الشهر الواحد. لذا فقد توجه الكثير منهم إلى السوق للعمل في أية صنعة من الممكن أن يؤمن لهم دخلا يتمكنون من خلاله تحمل مصاريف عوائلهم. معلمون ومدرسون أصبحوا يبيعون السكائر في الطرقات ومهندسين يعملون كسواق تكسي مستخدمين سياراتهم المدنية. ظهرت أعمال عجيبة لم نكن نسمع عنها من قبل مثل خياطة الإطارات المستهلكة للسيارات وصب البطاريات وتبديل المحلول وبيع السكائر بالمفرد وكذلك ازدهر عمل الخفاف الذي كان الجميع يقصده لخياطة الأجزاء المتأكلة من الحذاء وترقيعه. أول مرة سمعت بمهنة الرّواف والذي كان يقوم بخياطة الأجزاء المتأكلة من الملابس ومن خيوط قطعة القماش نفسه لعدم تمكن الفرد من شراء البنطلون او القميص الجديد.

الأمر كان صعبا لا يمكن تصوره ونحن الذين عشنا تلك الفترة من تسعينات القرن الماضي لا يمكن أن ننساه أبداً. حيث كنت أشاهد رجالاً من أبناء العوائل الراقية المعروفة في المدينة لا يتمكنون من شراء اللحم وكانوا يطلبون من الجزار العظام فقط دون اللحم، حيث أن سعر الكيلو الواحد من اللحم هو 2500 دينار وراتب الموظف هو 3000 دينار. أساتذة ومثقفين كبار لم يكونوا قادرين على صعود الباص ليصلوا إلى البيت وكانوا يمشون مسافات طويلة على الأقدام. ولا أخفي عليكم قصة أحد المعلمين في مدرسة ابتدائية بكركوك الذي كان يأخذ من طعام الطلبة الصغار جزءاً ليأكله وبعد كثرة التشكي من أولياء الأمور اعترف هذا المعلم بأنه لا يتمكن من الفطور ويترك ذلك لأبنائه في البيت ويأخذ شيئا من كل تلميذ ليسد بذلك رمقه إلى أن يشاء الله.

وبعد أن طال هذا الحصار على الشعب العراقي، بدأت العوائل لا تجد شيئا لبيعه والاستفادة من ثمنه حتى قاموا ببيع أبواب الغرف في بيوتهم. العائلة تجتمع في غرفة واحدة وتبيع أبواب الغرف الأخرى لتتمكن من شراء الغذاء والدواء لتستمر الحياة. ليس هذا فحسب بل كانت البيوت تهدم لغرض استخراج الشيش المستخدم في صب السقوف. أصبحت البيوت فارغة لا تحتوي على شيء والعوائل تبيع حاجة تلو الأخرى لتصمت أمام الجوع القاتل. ازدهرت أسواق البالة، أي الملابس القديمة المستعملة التي تأتي إلينا كتبرعات من دول أوربا والغرب. يعطفون علينا بملابس رثة وحاجيات مستعملة مكسورة لنشتريها ونستخدمها قدر الإمكان.

كنا نشرب شئياً سائلاً بنكهة البيبسي و الكوكا كولا أو السفن أب. حيث بدأت الناس بتركيب نكهات من مواد عطارية يشترونها من العطار لتعطي نكهة البيبسي أو الكوكا كولا مضافاً إليه الغاز ليكون بذلك كالبيبسي الأصلي وكنا نشربه بـ 50 ديناراً. هذا المشروب كان يباع في عربات صنعت خصيصاً لهذا الغرض يديرها شخص يعرف أسرار تركيب المواد والتي يخرجها في المحصلة بطعم البيبسي والكوكا كولا والسفن أب.

كل العوائل كانت تربي الدجاج في فناء البيوت أو السطوح لتحصل على البيض الذي انقرض من السوق ولا أحد يقدر على شرائه. انتشر التنور الحديدي وأصبح في كل بيت تنور، حيث أن العوائل تخبز الخبز لعدم قدرتهم على شرائه من الأفران.

الويل كل الويل للعوائل التي تصل أبنائها إلى مرحلة الدراسة الجامعية. حيث الابن أو البنت يشدون الرحال إلى مدينة أخرى من أجل الالتحاق بالجامعة والمصاريف الضخمة المترتبة على هذا السفر. كنت أشاهد شخصاً وهو يحمل في يده سطلاً بلاستيكياً. حيث كان هذا الشخص موظفاً في شركة نفط الشمال وبعد انتهاء ساعات العمل كان يخرج إلى القرى القريبة من مكان عمله ليشتري منهم البيض ويضعه في هذا السطل البلاستيكي ويتجول في السوق حتى ساعات متأخرة ليبيع ما يبيعه من البيض ويرجع إلى أهله برغيف خبز. سالته ذات مرة أن عملك الحكومي يبدأ منذ الساعات الباكرة للصباح وحتى ساعات العصر لتتوجه بعد ذلك إلى المشي لبيع البيض وهذا أمر صعب عليك. فقال أن ولدي يدرس في جامعة الموصل وهو بحاجة إلى المال وبعملي هذا أؤمن له شيئاً من احتياجاته.

قصص مروعة سمعتها وعشتها وأنا أشاهد الناس يتدورون جوعاً في تلك الحقبة الزمنية. لا حيلة لهم والكل قد ترك إلى القدر الظالم الذي لم يرحم أحداً إلاّ من رحم ربي. ولا أعرج على المرض والمصيبة التي كانت تحل بالإنسان إذا مرض في زمن الحصار.

كنت طالباً جامعياً في تلك الحقبة الحقيرة من تأريخ العراق. مشاهد عجيبة كنت أشاهدها بين الطلبة الساكنين في الأقسام الداخلية وظروف صعبة لا أتمكن من إيجازها بأسطر. السفر إلى الجامعة كان يتطلب إيجاد باص قبل أسبوع والاتفاق مع السائق. العودة كذلك كانت أمراً ليس من السهل أبداً وكنا نحمد الله أن وجدنا رقعة في الممر الداخلي للسيارة لنعود إلى البيت وقوفاً في سفر قد يستغرق أكثر من ثلاث ساعات. حال الطلبة كانت مزرية ولم يكن بمقدورنا شراء أي شيء من السوق. حتى الخبز كنا نأتي به من البيت مجففاً كي لا يصاب بالعفن ونأكله لمدة أسبوع وحتى العودة إلى البيت. بعد كل هذا العناء والشقاء ونحن ننتظر العطلة الصيفة كي نتخلص من هذه الحياة التافهة، كانت السيارات العسكرية بانتظارنا لنساق إلى معسكرات التدريب العسكري في لهيب صيف محرق. مشاهد ومناظر وصور من الممكن أن تكون موضوعا لأفلام سينمائية وكتب روائية ونصوص مسرحية.

لم ينتهي الأمر بزوال الحصار والتخلص من النظام، فقد بدأت صفحات أخرى قد تكون أكثر شئماً في حياة العراقيين. وليس لهذا المواطن إلاّ أن يشكي إلى الله عز وجل ضعفه وقلة حيلته وهوانه على الأمم. الحال الذي استمر حتى سقوط النظام عام 2003 لتبدأ صفحات أخرى ليس أرحم من سابقاتها. لله درك أيها الشعب.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب