12 أبريل، 2024 1:06 ص
Search
Close this search box.

أيام الجحيم // الحلقة الثالثة والعشرون

Facebook
Twitter
LinkedIn

نمتُ في فراشي الخاص وغرفتي الخاصة لأول مرة بعد أحد عشر عاما. لا أصدق أن سيناريو ذلك الكابوس المرعب قد إنتهى فجأة وعدت إلى سابق ذكرياتي في هذه الغرفة المريحة من كافة الجوانب.شعرتُ أن رأسي يدور في دوامة لا تنتهي ,حاولتُ أن أغمض عينيَّ لكنني لم أستطع . كل شيء هنا مذهل وجميل…. هذا الفراش الناعم وهذه الجدران الملساء وهذا الفراش العريض الذي لايشاركني فيه رجل أسير نتن الرائحة. لا أصدق أن أنثى تنام إلى جانبي بعد كل تلك السنوات المخيفة سنوات أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها سنوات موت بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى.لم أتكلم مع إمرأة طيلة أحد عشر عاما لا بل لم أشاهد أنثى على أرض الواقع طيلة كل تلك السنوات العجاف. شعرتُ ببعض الإضطراب وأنا أنظر إليها.حاولتُ أن أسألها عن حالها وكيف كانت تعيش لوحدها لكنها تنهدت وقالت بألم كبير” ستعرف كل شيء فيما بعد , حاول أن تنام فأنت مرهق جداً وهذا ظاهر على وجهك.” حاولتُ أن المس وجهها بَيْدَ أن يدي سقطت على الفراش فقد غلبني النعاس حد الموت. لم أعد أشعر بأي شيء ورحت في نومٍ عميق. كانت أحلامي في تلك الليلة مرعبة فقد شاهدتُ نفسي أركض بين جبال شاهقة والكلاب البوليسية تركض خلفي تنهش جسدي وصلت إلى بركة ماء شديدة الحرارة …وجدتُ نفسي قد تحولت إلى هيكل عظمي.من بعيد جاءت أفعى سامة وراحت تنفثُ سمها نحوي …ركضتُ نحو الوادي العميق …بدأتْ عظامي تتساقط ,على حين غرة طرتُ في الفضاء. كانت روحي تحلق عالياً فوق الجبال والسهول والوديان. دون سابق إنذار جاء قربي طيف فتاة لفتني بردائها الأبيض وطارت بعيداً نحو المسافات اللامتناهية وراحت تعبر بي أنهاراً وبحوراً ومحيطات. حطت بي في سهولٍ خضراء وهي تهمس بصوت ناعم:”هذا هو المكان الذي تحلم فيه أليس كذلك؟ هو بيتك الآمن.ستجد هنا طيور جميلة وأزهار مختلفة الأشكال ,ستنسى هنا كل مآسي وعذاب القبور البعيدة ”
سارت الأشهر الأربعة الأولى على وجودي في البيت سريعة لذيذة فقد كنتُ لا أزال متأثراً بالحياة الجديدة الغريبة بالنسبة لي.ولأكون صادق مع الذات أستطيع أن أذكر بأنني كنتُ مبهور بحركة السيارات وأنواع الأغاني والمسرحيات وكل شيء يتعلق بالحياة خارج المعتقلات.كنتُ أدخل المكتبات وأشتري كل أنواع الأقلام والأوراق بشكل شره كأنني أشعر أن كل شيء يتعلق بالقرطاسية سينتهي أو تحدث كارثة تمنع عني الأقلام والأوراق. كانت معاناة العقل اللاواعي لاتزال تنخر في روحي وذكرياتي.كنتُ أتخيل أن الأوراق والدفاتر ستنفذ من الأسواق في لمح البصر لهذا السبب رحتُ أشتري أقلام متنوعة من كل مكتبة أدخلها وأشتري أوراق من كل سوق أو شارع يعرض مثل تلك الأشياء. وتستمر الأيام وتنكشف لي صورة البؤس التي يعيشها عامة الناس فأجد روحي تنحسر وأشعر بالأنقباض.طالت فترة مراجعتي لدائرة المراتب لأحصل مع زملائي على كتاب تسريحي من الجيش وهناك بدأنا نعاني الشيء الكثير. نقف تحت أشعة الشمس ساعات طويلة ننتظر نائب ضابط – ماجد – كي يرأف بحالنا ويخرج رأسه من النافذة الصغيرة لإحدى الغرف الصغيرة ليصرخ ” اذهبوا وعودوا بعد شهر من الآن “. تمنيتُ أن أسحبه من النافذة وأطرحه على الأرض ثم أمزق جسده بأنيابي.هو لايعرف معنى العذاب الحقيقي الذي كنا قد مررنا به يوما ما في أرض الضياع.كان جميع الزملاء يعانون منه ويتمنون له الموت البطيء.خلال فترة الانتظار التي استمرت من الشهر الأول حتى منتصف الشهر التاسع – وهي فترة انتظار الحصول على وثيقة التسريح من الخدمة العسكرية – عانيتُ الكثير وتعذبتُ كثيراً.نفذت النقود التي حصلتُ عليها من الحكومة وهي مليون دينار – مبلغ زهيد في ذلك الوقت لا يعادل لحظة واحدة من لحظات العذاب هناك خلف الحدود.صرفت أغلبها على ترميم البيت حيثُ كان في حالةٍ يرثى لها . وأنا في غمرة هذا الانتظار الصعب اضطررتُ للعمل مع أحد الأصدقاء في بناء البيوت – عماّله – وكان العمل بالنسبة لي عذاب لا ينتهي حقاً . كان العمل صعب جدا ً تحت لهيب الشمس من السابعة صباحاً حتى الرابعة عصراً.جحيم آخر وعذاب آخر وضياع آخر.تغيرت حالتي النفسية وأصبحتُ لا أطيق أي شخص.كان مسؤولي في العمل أصغر مني بعشر سنوات يرثي لحالي حيناً ويصرخ بأعلى صوته حيناً آخر حينما أتقاعس عن العمل من شدة التعب. ينظر ناحيتي ويقول ” لقد خرجتَ من عذاب الفراق لتدخل في عذاب الفقر كم أنت مسكين وسيء الحظ.بدلاً من هذا العذاب المتواصل كان من المفروض أنت الآن وكافة زملائك تجلسون في البيت وتمنحكم الدولة راتباً مجزياً جداً ولكن يبدو أن الحياة لا ترحم . ” كان هناك شيء آخر حدث لي ولعدد كبير من الزملاء عند العودة إلى أرض الوطن.حينما ذهبنا إلى الاستخبارات للاستنطاق وجدتُ خمسة ضباط من أصدقائي الذين كانوا معي في أرض الضياع وهم ” عبد الباري – ضابط تجنيد وحواس رفيق حزبي كان نائب ضابط وتحول بقدرة قادر إلى ملازم أول وهو لا يستحق حتى رتبة عريف ومحمد إسماعيل ملازم تجنيد ونجاح ضابط مجند وماهر ضابط مجند كلهم من سكنة الموصل عدا نجاحاً من شارع فلسطين ولكنه متخرج من جامعة الموصل – كانوا جالسين في نفس القاعة التي ندخل اليها للوقوف أمام ضابط الاستخبارات . الحق يُقال فرحتُ كثيراً حينما شاهدتم لأنني كنت أتصور أنهم سيقفون الى جانبي أو يذكرونني بخير. في اللحظة التي وقفتُ فيها أمام ضابط الاستخبارات قال حواس ( لعنة الله عليه في الدنيا والآخرة ) هذا الرجل كان قد ضمر لي حقداً دفيناً داخل قلبه وهددني بأنه سيذكر ماقلته يوماً ما في مسرحية كان قد كتبها أبو فيروز وأنا قمتُ بدور البطولة فيها والعبارة التي كتبها أبو فيروز استهزاء بشخص صدام لأنه أراد بتلك العبارة أن يستدر عطف المسؤول عن ترخيص النص المسرحي وطلب مني باعتباره المخرج والكاتب أن أركز على تلك العبارة كي تشفع له هناك عند المسؤول عن إجازة النص وللتاريخ حاولتُ أن أقنعهُ بضرورة تغيير تلك العبارة لأنها ستسبب لي أزمة عند العودة وصار بالفعل ماكنت قد ذكرته الى ( ملهم) أي أبو فيروز. العبارة هي ” سنام بهتر از صدام ” وسنام هو نوع من التلفزيونات الإيرانية ومعنى العبارة هو أن تلفزيون سنام أفضل من صدام وهذا هو الواقع لأن صدام دمر العراق في حين أن تلفزيون سنام كان يسلينا في قاعات الأسر . لكن المضحك أن حواس قال :” تلفزيون L.G” بدلاً من سنام لأنه لم يفهم معنى سنام. ومشكلة حواس هي أنه طلب مني يوماً ما أن أعلمه الفارسية لوحده وليس مع الطلاب وحينما رفضتُ ذلك لعدم وجود الوقت عندي هددني بأنه سيذكر حادثة التلفزيون عند عودتنا إلى الوطن أي نوع من الإبتزاز وحينما قلت له بأن يفعل مايراه مناسباً ذكر تلك الحادثة وليذهب إلى الجحيم هو وصدام .” لم يدافع عني عبد الباري ولا نجاح ولا محمد تجنيد ولا ماهر. قال حواس مرة أخرى ” هذا الرجل طلب لجوء ” ويقصد بأنني سجلت بقاء ولكنني لم اطلب أي لجوء ولم أسجل بقاء . قصة حواس تتلخص بأنه طلب مني أن أدرسه اللغة الفارسية لوحده ولكني طلبت منه أن يدرس مع بقية الطلاب الذين أدرسهم المباديء البسيطة في اللغة الفارسية وحينما رفضت هددني وأخبرني بأنه سيعدمني على الحدود بأعتباره رفيق حزبي.الحديث عن حواس ممل لأنه لم يكن أي شيء سوى نكرة حينما كنا نعيش خلف الحدود. شبه أمي وليس له أي نشاطات سوى تهديد الآخرين والسير متكبرا لأنه يعتقد بأنه أهم شخص كان معنا. كل الذين كنت أعيش معهم كانوا يكرهون حواس إلا مجموعة صغيرة من منطقته. الحديث عن حواس – لعنهُ الله في الدنيا والآخرة – ممل لايستحق أن يدخل التاريخ إلا بطريقة سوداوية بشعة تلاحقه مدى الحياة. هو مثال الحقد والكراهية لكل شيء ينتمي إلى جمال الحياة . هو نائب ضابط ذو كرش كبير منتفخ ولكن صدام البائد أعطاه كما أعطى غيرهُ من الرفاق الحزبيين درجة ملازم في الجيش العراقي السابق.كان كل تفكيرهُ في أرض الضياع هو تهديد الآخرين من الأسرى بالاعدام عند الحدود . تكلم أمام لجنة التحقيق في العراق كلام بشع كان من الممكن أن يؤدي بي الى المشنقة . قال بأنني طلبت اللجوء السياسي وهذا ليس له أي شيء من الصحة.أخبر رئيس لجنة التحقيق بأنني كنتُ في الفرقة الثقافية التي تمثل على المسرح وأشارك في نشاطات ثقافية كثيرة وهذا صحيح لأننا كنا نحاول أن نعمل أي شيء مفيد لنا ولبقية الزملاء كنوع من الترفيه وقضاء الوقت و لا أعرف مدى تأثير هذه النشاطات عليه وعلى أي شخص آخر. المهم لم يعد له الآن أي وجود في ذاكرتي إلا كصورة بشعة لأنه لايستحق الذكرى أبداً.
عندما عدتُ الى بلدي كنتُ أتصور أن صدام سيعوضنا جميعا عن ساعات العذاب الكثيرة جداً ولكن كنا كنكرة ليس لنا وجود.حينما رجعت إلى وظيفتي السابقة في وزارة الأعلام العراقية شرعتُ أعمل ليلاً ونهاراً كي أعوض ماكان قد فاتني طيلة سنوات الضياع البعيدة. كنتُ أسافر مع الصحفيين إلى كافة أنحاء العراق وكان هذا يستغرق وقتاً طويلاً مما اضطرني للابتعاد عن البيت أيام كثيرة.عشتُ أشهراً قليلة رائعة في عملي ولكن تلك الروعة بدأت تتهاوى رويداً رويداً على أثر تصعيد التهديدات الأمريكية لشن هجوم واسع على العراق. بالنسبة لي – ولأنني كنتُ على تماس مباشر مع الصحافة الأجنبية – كنتُ أستشعر الخطر الكبير أكثر من بقية الناس الاعتياديين.أصبح الوضع قبل الهجوم مزعجاً جداً فقد كان البعض يتصور أن أمريكا لن تهجم على العراق والبعض الآخر مؤمن بالهجوم الحتمي وكنتُ أنا من النوع الثاني لأن الصحافة الأجنبية كانت تؤكد لي نبأ وقوع الهجوم بدون أدنى شك.في تلك الفترة كنتُ أرافق أحد المصورين من روسيا – من جريدة الدفاع الروسية وأسمهُ ديميتري – كان يعمل من الصباح حتى المساء وكنتُ كظلهِ أينما يذهب . قال لي بالحرف الواحد ” إذهب سأعطيك إجازة يوم واحد لتنقذ عائلتك …إذهب بهم بعيداً عن بغداد …الوضع خطر جداً وسأبقى في الفندق ولن أخرج منه الى أن تعود “.

يتبع……..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب