18 ديسمبر، 2024 4:00 م

أوهام الديمقراطية الغربية ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

أوهام الديمقراطية الغربية ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية

ألقى الرئيس الأمريكي بايدن خطابًا حماسيًا قبل أيام ربط فيه الصراعات في أوكرانيا وإسرائيل. حيث قال إن كلاً من النظام الديكتاتوري في الكرملين وحركة حماس الإسلامية المسلحة “يمثلان تهديدات مختلفة، لكنهما يشتركان في هذا الأمر: كلاهما يريد القضاء تماماً على ديمقراطية مجاورة”. لكنه تجاهل العربدة الصهيونية المنفلتة، وتجاهل صور الدمار المرعب في غزة، وتجاهل آلاف الشهداء الفلسطينيين جلهم من الأطفال والنساء تم ذبحهم أمام أعين الغرب المنافق الذي توحد في مواجهة روسيا واعتبرها تهديداً للأمن الدولي.

ولكن في غزة كان لهم موقف مختلف حيث احتشدوا للبكاء على إسرائيل، وسارعوا في مناصرة الموقف الصهيوني وتسويق روايته، والدفاع عنه في حرب الإبادة التي يستعرض من خلالها الجيش الصهيوني النازي قوته لقتل النساء والأطفال والمدنيين الأبرياء، وتدمير الشجر والحجر. هذا النفاق الصارخ من قبل الغرب وخاصة الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا يؤكد زيف ادعاءات هذا الغرب بالتفوق الأخلاقي والإنساني، ويميط اللثام عن وجهه الحقيقي الذي كان يخفي رذائله بفضائل زائفة.

 

ما هي الديمقراطية التي يخشى عليها الغرب؟

بالرغم من تعدد المفاهيم لمصطلح الديمقراطية، لكنها تُجمع على أهم مقياس للديمقراطية هو مقياس الحرية الذي يصفه الغرب بمؤشر الديمقراطية. وفقاً لهذا تُظهر التجربة الغربية تحقق بعض معايير الديمقراطية وغياب الكثير منها. إن القول السائد في الغرب أنهم عاشوا عصر ازدهار الديمقراطية، هو كذبة كبيرة صدقها الكثيرون. إن بريق الديمقراطية اللامع في الغرب قد خفت منذ سنوات، بدءًا من بحر البلطيق إلى البحر الادرياتيكي ـ في فترة تصاعد فيها الأفكار العنصرية والمتطرفة ـ لتحل مكانها نزعات ثأرية واستياء قومي مرعب يمور تحت رمال متحركة، تتيح للأفكار المتشددة موطئ القدم الذي تحتاجه.

حتى القرن الثامن عشر كانت الديمقراطية ملاحقة، وكافة المنشقين والمعارضين كانوا يسمون أنفسهم سراً بالديمقراطيين. هذا الحال لم يبدأ بالتغير إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع بداية الثورتين الفرنسية والأمريكية.
تعرضت الديمقراطية لانتقادات شديدة من قبل عقول فلسفية غربية مهمة. سقراط اعتبر أن ليس جميع الناس يمتلكون الذكاء الذي يتيح لهم إدارة الدفة. وافلاطون أشار إلى أن الديمقراطية واحدة من المراحل الأخيرة في انحدار الدولة المثالية، إذ اعتبر أنها سوف تجلب الطغاة.
أرسطو اعتقد أن الديمقراطية نسخة فاشلة من حكم الجماعة، وكان يرى أن أثينا مدينة تتداعى لأنها تبتعد عن دستورها الذي وضعه الحكيم “سولون”.
إن فكرة قابلية الديمقراطية للتصدع، كانت فكرة منتشرة بشكل واسع في التاريخ القديم. حتى الفيلسوف الفرنسي “فولتير” الذي كرس حياته في مواجهة التعصب والتطرف، ودفاعاً عن حرية التعبير والحريات العامة، كان له موقف إشكالي من الديمقراطية حين اعتبر أنها منفصلة عن مفاهيمه الليبرالية.
أصبح مصطلح الديمقراطية متداولاً بين المثقفين والمتنورين في أوروبا، وتشكل رأي عام حول مفهوم الديمقراطية وسط المفكرين رداً على تسلط الكنيسة التي كانت تمتلك سلطات كبيرة على الناس من خلال تحالفها مع الإقطاعيين.
مع ظهور علماء الطبيعة “نيوتن” و”غاليلو” في بداية عصر النهضة، وجهت لهم الكنيسة تهم الزندقة، وحرضت العامة الذين أحرقوا بعض المفكرين والعلماء وهم أحياء. في هذا الصراع تم التوصل إلى اتفاق بين الكنيسة والمفكرين المتنورين وبعض أصحاب رؤوس الأموال من أهل النفوذ، على عقيدة “فصل الدين عن الدولة”. وبذلك تم تحديد دور الكنيسة بالسلطة الروحية. من هنا شقت الديمقراطية طريقها الذي كان سبباً في تغير الطبقات الحاكمة، ومهدت لسقوط عروش وممالك أوروبية وتحويلها لرموز دون سلطات فعلية “بريطانيا، السويد، الدنمرك، النروج، إسبانيا، هولاندا، بلجيكا”.

 

أوهام الديمقراطية

إن الديمقراطية التي مارستها أثينا تختلف عن الديمقراطية المعاصرة. فالديمقراطية القديمة كانت فعلاً مباشراً حاداً إلى درجة لا يمكن معها تحقيق أي استقرار. وكانت ديمقراطية تحتكرها نسبة ضئيلة من السكان اللذين يمتلكون حق التصويت وكلهم من الذكور الأصليين. لكنها ديمقراطية أتاحت إمكانية تبوأ العديد من المواطنين العاديين مناصب حكومية. سقراط اعتبر وصول المواطنين إلى مناصب عليا إشكالية. وهي إشكالية لا زالت قائمة من وجهة نظر البعض ومنهم عالم الإثولوجيا البريطاني “ريتشارد دوكينز” Richard Dawkins.
يعتبر سقراط أن في الحياة شيء واحد صالح ومفيد هو المعرفة، وهناك شر واحد هو الجهل. لذلك يعتبر أن التعليم هو أفضل رجاء للديمقراطية. ذلك أن الشعب المتعلم يستطيع مراقبة عمل السلطة وتمييز السياسي المخادع من الصادق.
كان التعليم لدى اليونانيين القدماء يتعلق باللغة، والمنطق، والهندسة، والحساب، والفلك، والموسيقى. هذه العلوم تحولت فيما بعد إلى أساس للتعليم اللبرالي الحديث. إن العلاقة بين الديمقراطية ومستوى التعليم علاقة جدلية تبادلية. تقوى الديمقراطية كلما زاد التعليم وانتشر وعلت قيميته ونوعيته، وتضعف الديمقراطية وتصاب بالوهن في مجتمعات ينخرها الجهل.

هذا ما تستغله الديمقراطيات الغربية التي تقوم بدعم الطغاة والديكتاتوريات في المنطقة العربية، وفي المناطق الأخرى الأكثر قهراً وجهلاً في العالم، وتساندهم سياسياً وأمنياً لقمع الشعوب. وحين يرى هذا الغرب “الديمقراطي” أن مصالحه تتعرض للخطر في هذه البلدان، سواء من قبل الشعوب المضطهدة، حينها يتنكر للديمقراطية، وإن تهددت مصالحه من أطراف في الأنظمة الاستبدادية نفسها، فإنه حينها يرفع في وجههم راية الديمقراطية “المسكينة” التي لم تُحترم، ويتم تحريك ملفات الفساد وملفات حقوق الإنسان التي تنتهك، ليتحول المواطن المقهور في دول العالم البدائي إلى مجرد أداة ضغط وابتزاز لتأمين مصالح الدول العرقية البغيضة، وحقوق شعوبها البيضاء التي وحدها جديرة أن تنعم بمكارم السيدة “ديمقراطية”.

ما بعد الديمقراطية

تم استخدام مصطلح ما بعد الديمقراطية لأول مرة من قبل عالم الاجتماع السياسي البريطاني “كولن كراوتش” Colin Crouch في كتابه “التعامل مع ما بعد الديمقراطية” Coping with Post-Democracy. وقد حدد الدول التي تعمل وفق أنظمة ديمقراطية ـ أي أنها تجرى الانتخابات، وتسقط الحكومات، وتوفر حرية التعبير ـ ولكن تطبيقها يصبح محدوداً تدريجياً. وهذا يعني أن نخبة صغيرة تختار المؤسسات الديمقراطية لتمنح نفسها سلطة اتخاذ القرار. قد يشير المصطلح أيضاً إلى مفهوم عام لنظام ما بعد ديمقراطي، قد يتضمن هياكل أخرى لصنع القرار الجماعي والحكم، غير تلك الموجودة في الديمقراطية المعاصرة أو التاريخية.

وبرأيي أن ذلك شكل نعياً لموت الديمقراطية الاجتماعية بصورة غريبة، وظهور الليبرالية الجديدة. فالمجتمع ما بعد الديمقراطي هو المجتمع الذي يستمر في امتلاك واستخدام جميع المؤسسات الديمقراطية، ولكنها تصبح فيه على نحو متزايد قوقعة رسمية. وتنتقل الطاقة والدافع الابتكاري من الساحة الديمقراطية إلى دوائر صغيرة من المجتمع السياسي، أي إلى النخبة الاقتصادية. وهذا ما يحصل الآن في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة. فهم لا يعيشون في مجتمع ديمقراطي، وإن بدا غير ذلك.

يعود ذلك بصورة رئيسية إلى عدم وجود أهداف مشتركة بالنسبة للأشخاص في المجتمعات ما بعد الصناعية. فمن الصعب عليهم بصورة متزايدة تعريف أنفسهم كمجموعة، وخاصة بالنسبة للطبقة الدنيا. وبالتالي يصعب التركيز على الأحزاب السياسية التي تمثلهم. على سبيل المثال، لم يعد العمال أو المزارعون أو رواد الأعمال يشعرون بالانجذاب إلى حركة سياسية واحدة، وهذا يعني أنه لا يوجد هدف مشترك لهم كمجموعة وهو الاتحاد أو النقابة.

وتأثيرات العولمة تجعل من المستحيل تقريباً على الدول أن تضع سياساتها الاقتصادية الخاصة. ولذلك، تُستخدم الاتفاقيات التجارية الكبيرة والاتحادات فوق الوطنية (مثل الاتحاد الأوروبي) في صنع السياسات، ولكن من الصعب جداً التحكم في هذا المستوى من السياسة باستخدام الأدوات والطرق الديمقراطية.

بالإضافة إلى ذلك، تمنح العولمة الشركات عبر الوطنية المزيد من النفوذ السياسي نظراً لقدرتها على تجنب التنظيم الفيدرالي والتأثير بشكل مباشر على الاقتصادات المحلية.

وهناك عامل آخر لانحسار الديمقراطية في معظم الدول “الديمقراطية” لأن مواقف الأحزاب السياسية في معظمها أصبحت متشابهة إلى حد كبير. وهذا يعني أنه ليس هناك الكثير للاختيار من بينها بالنسبة للناخبين. والنتيجة هي أن الحملات السياسية تبدو أشبه بالإعلانات لجعل الاختلافات تبدو أكبر. كما أصبحت الحياة الخاصة للسياسيين عنصرا هاما في الانتخابات. في بعض الأحيان تبقى القضايا “الحساسة” دون مناقشة.

ثم عامل التشابك بين القطاعين العام والخاص، حيث هناك مصالح مشتركة كبيرة بين السياسة وقطاع الأعمال. ومن خلال شركات الضغط، تستطيع الشركات المتعددة الجنسيات وضع التشريعات بشكل أكثر فعالية من سكان أي بلد. لأن تلك الشركات ترتبط مع الحكومات بعلاقات وثيقة بحكم حاجة الدول إلى الشركات لأنها أصحاب عمل رائعون. ولكن بما أن قسماً كبيراً من الإنتاج يتم بالاستعانة بمصادر خارجية، ولأن الشركات لا تواجه أي صعوبة تقريباً في الانتقال إلى بلدان أخرى، فإن قانون العمل يصبح غير ودي للموظفين وتنتقل اللقمة الضريبية من الشركات إلى الأفراد. لذلك أصبح من الشائع أكثر بين السياسيين والمديرين تبديل وظائفهم عبر ما يسمى (الباب الدوار).

ولا ننس الخصخصة. أي الفكرة النيوليبرالية للإدارة العامة الجديدة (الليبرالية الجديدة) لخصخصة الخدمات العامة. ومن الصعب السيطرة على المؤسسات المخصخصة بالوسائل الديمقراطية، وليس لديها ولاء للمجتمعات البشرية، على عكس الحكومة. والنتيجة وجود آلاف “الشركات الوهمية” التي تتسم بالمرونة والمراوغة وتنحني لتقلبات السوق. وتلك الشركات الخاصة لديها الحوافز الكبيرة لتحقيق الربح الفردي بدلاً من تحسين رفاهية الجمهور.

 

ما بعد الديمقراطية ـ لا ديمقراطية
في الديمقراطيات الغربية، يصل الحكام فيها إلى سدة السلطة عبر الانتخابات، من خلال ترشيح من أحزابهم السياسية. فالأحزاب السياسية هي التي تقترح أسماء من طرفها ليكونوا ممثلين لهذه الأحزاب في السلطة التشريعية، وهم من يقوم الشعب بانتخابهم عبر انتخابات حرة ونزيهة ومباشرة. هذا الأمر يتم في كافة الدول الغربية بغض النظر عن شكل الحكم فيها، سواء أكان رئاسياً مثل الولايات المتحدة، أو كان حكما وزارياً مثل بريطانيا، أو نظاما مختلطاً كفرنسا. ويقولون لقد انتخب الشعب ممثليه، وأن الشعب يشارك في الحكم والسلطة.
لكن الحقيقة أن ممارسة الناس لحقها في التصويت لا تعني شيئاً حقيقياً في الواقع، لأن مراكز المال وكبار الصناعيين وأصحاب الثروات هم من يمتلك القرار الحقيقي في الدولة. وهم الذين يسيطرون على الأحزاب وعلى المجالس التشريعية وعلى النقابات والبلديات. ولا يمكن لأحد من خارج هذه المنظومة أن يشغل مقعداً في هذه الهيئات. ومن أجل أن تكتمل أكذوبة الديمقراطية يتم توظيف وسائل الإعلام هنا لتنجز مهمتها في الكذب والتزييف والتدليس، ومن سوء طالع الديمقراطية فإن أصحاب الثروات هم أنفسهم أصحاب وسائل الإعلام، وهم الذين يسيطرون على الشركات الكبرى التي تستطيع صناعة الحرب والسلام، يمكنها افتعال الحروب لتحريك العجلة الاقتصادية، ويمكنها اللعب في الاقتصاديات كما تشاء عبر تغيير أو إصدار قوانين تتعلق بالتجارة أو الضرائب. إن سيطرة رؤوس الأموال في الدول الغربية هي مصدر السلطات. والشعوب التي تظن أنها تنتخب بحريتها من اختارتهم هي شعوب واهمة، لأن الحقيقة أن من ينتخب هي القوى التي تمتلك رأس المال المتنفذ.
إنها ديمقراطية الكذب التي تضمن لك حرية أن تفعل ما تريد لكن ضمن القوانين التي رسم خطوطها أصحاب القوة الاقتصادية التي تسيّر القرارات، فأنت تختار بإرادتك ما حددوه هم لك.
ديمقراطية تافهة خالية من أي معنى حقيقي. تجعل المجتمع ووسائل الإعلام منشغلة بقط تم دهسه في الطريق العام، بينما لا تلقي بالاً تجاه الآلاف الذين يموتون في أماكن متعددة في هذا العالم المجنون، ولأسباب مختلفة.
ديمقراطية مزيفة تتلاعب بها وسائل الإعلام ومراكز الأموال، وتتحكم بمسارها من داخل غرف سوداء، كي تقوم بتزييف الحقائق وخداع الشعب، وتوجيه القضايا العامة في تجاه محدد بعد أن يتم إلباسها ثوب الديمقراطية، كما حصل في العديد من الملفات الكبرى التي تم الكشف عنها.
ديمقراطية منافقة تعتبر الحرب بين روسيا وأوكرانيا غزواً روسياً لأوكرانيا يشكل انتهاكاً مروعاً للمبادئ الأخلاقية والقانونية الأساسية. وترى في المقاومة الفلسطينية المشروعة للاحتلال الصهيوني عملاً إرهابياً مداناً.

 

هل فشلت الديمقراطية الغربية؟
نعم فشلت فشلاً ذريعاً. ألم يحكم هتلر ألمانيا النازية بانتخابات ديمقراطية؟ والفاشية الإيطالية ألم تنجب موسوليني بواسطة انتخابات ديمقراطية؟ نتنياهو الصهيوني قاتل الأطفال والنساء يحكم باسم الديمقراطية، ووصل إلى سدة السلطة بواسطة انتخابات ديمقراطية كذلك! وكذلك الأحزاب اليمينية الشعبوية الغربية أوصلت قادة إلى المناصب العليا بواسطة الديمقراطية.

لقد بلغ عدم الرضا عن الديمقراطية داخل الدول الغربية إلى أعلى مستوياته منذ ربع قرن تقريباً وفقاً لباحثين من جامعة كامبريدج. ارتكز البحث، الذي يغطي 154 دولة حول العالم، على سؤال الناس عما إذا كانوا راضين أو غير راضين عن الديمقراطية في بلادهم.

أظهر البحث أن نسبة غير الراضين كانت 33% في عام 1995، وصلت إلى 58% في عام 2021 وهو أعلى مستوى مسجل.

إنها الديمقراطية الغربية التي وصفها جان بول سارتر بأنها “فخ الحمقى”. واعتبرها الزعيم البريطاني ونستون تشرشل أسوأ نظام. ديمقراطية تعتمد التكييف الاجتماعي للبشر مما أوجد الغالبية الصامتة. إنها ديمقراطية الحرية والمساواة والعدالة ومنح السلطة للشعب غير المخول بممارستها أصلاً. لهذا قال عنها “جان جاك روسو” أن الديمقراطية الحقيقية بمعناها الدقيق لم توجد أبداً ولن توجد أبداً.
ديمقراطية هلامية يشن الغرب باسمها الحروب على الدول النامية، ويحاول فرضها على دول أخرى. هي ذاتها الديمقراطية التي تضج بها الوسائل الإعلامية الغربية وتحاول تعميمها، في وقت يرفضها الكثير من المفكرين الغربيين وعلماء الاجتماع، وغالباً لا نسمع أصواتهم. ومن المستغرب أنه رغم فشل الديمقراطية بنموذجها الغربي، إلا أننا نجد محاولات الغرب لا تتوقف إلى نشرها وتعميمها بالترغيب أو الترهيب.
إن الديمقراطية في العصر التنويري الغربي تتشابه مع تلك الديمقراطية اليونانية. حيث كان الحكم للنبلاء في العصر الإغريقي، وأصبح الحكم للطبقة البرجوازية بعد الثورة الفرنسية، وفي كلا المرحلتين كان حق التصويت حكراً على الأحرار والملاك.
أما الديمقراطية في العصر الحديث فهي تفرض الوصاية على الشعب، لأن الأحزاب السياسية لا ثقة لها بقدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه.

عالم المصالح الكبرى

اتسم القرن الواحد والعشرين بسقوط الأيديولوجيات والنظريات. والنظام السياسي العالمي لم يعد يخضع للتصنيف المألوف، فهو لم يعد لا يسارياً ولا يمينياً ولا ديمقراطياً. إنه قرن المصالح الكبرى، حيث تتصارع فيه قوى عظمى تبحث عن آليات لتحقيق مصالحها، في ميدان يعتبر أن القوة الحقيقية هي القوة الاقتصادية التي تتمكن من الاستحواذ على الأسواق لتلبية الاحتياجات البشرية المتزايدة.
دخلت المجتمعات الغربية -بمعظمها- عصر الشعبوية ما بعد الديمقراطية، التي أظهرت الانتخابات الأخيرة التي تم تنظيمها في العديد من الدول الأوروبية خلال الأعوام الأخيرة، الوجه الصريح الواضح لها، إذ حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة توسعاً جماهيرياً وصعوداً انتخابياً. واعتبرت الأحزاب العنصرية أن هذا الفوز بداية ما أسماه رئيس الوزراء الهنغاري “فيكتور أوربان” بالديمقراطية غير البرلمانية، وكان يقصد فصل النظام الانتخابي عن القيم الحداثية الغربية. فيما دعت أحزاب أخرى إلى العودة للهوية المسيحية التقليدية التي كانت محور الخصوصية الأوروبية.
وهذا ما ذكره عالم الاجتماع “ايمانويل تود” حيث حدد خمس سمات للظرف الراهن في بلد مثل فرنسا اليوم وهي عدم اتساق الفكر، والتواضع الثقافي، والعدوانية، والحب المرضي للمال، وعدم الاستقرار العاطفي والعائلي. ويقابل هذه السمات برأيه انحسارا في الديمقراطية وخللا في التربية وفراغا روحانيا وزيادة في فقر الشرائح الشعبية.
إن عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، بفعل القوة الناعمة للنظام الجديد.