تشكل ظاهرة التلازم بين بعض المفردات اللغوية وعدم انفكاك بعضها عن بعض سمة جلية لاسلوب تفكير الكثير من الناس ممن اعتادوا، في كثير من الاحيان، على الربط بين مفردتين والقفز بعدها لتمظهراتها التي تتجسد في سلوك واقعي معاش، يؤمن، بكل ثقة، أن اقتضاء مفردة لاخرى في سياق حدث معين يستدعي عدم انفصالهما على الاطلاق.
يتحدث الباحث جميل صليبا في المعجم الفلسفي عن الملازمة ” Inherence “باعتبارها، من الناحية اللغوية،” امتناع انفكاك الشيء عن الشيء، اما اصطلاحا فهي تعني أن الحكم،أذا وقع، يقتضي وقوع حكم آخر اقتضاءاً ضرورياً.
ويمضي الباحث، مستندا الى اصحاب كتب الشروح المنطقية والتعريفية الكبرى في تاريخنا العربي والاسلامي ككتاب نتعريفات الجرجاني وكشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي ، فيتطرق للحديث عن انواع الملازمة او التلازم، فيشير الى ان” الملازمة الخارجية هي كون الشيء مقتضياً للآخر في الخارج، والملازمة الذهنية هي كون الشيء مقتضياً للآخر في الذهن. والملازمة ” أما مطلقة، وأما نسبية فالمطلقة هي الملازمة العقلية التي لا يمكن تصور خلاف لازمها، والنسبية هي الملازمة العادية التي يمكن تصور خلاف لازمها.
ونتيجة تأثر الانسان، بصورة لاشعورية،بمبدأ التلازم وخلطه، في بعض حالات التشخيص، بين حالة التلازم وحالة الاستلزام، التي هي علاقة من طرف واحد، لذا تجده يقوم بالربط بين اشياء ويضع علاقة بين سمات لاتستلزم بالضرورة وجودها سوية، ثم تراه يتفاجئ وتعتريه الدهشة من غياب سمة عن سمة اخرى قام بربطها اصلا بصورة خاطئة.
التلازم الوهمي الذي نعرض الان محاولة تفكيكه وكشف ماينطوي عليه من زيف وما يتخلله من تضليل يتعلق بالوشائج ” المفترضة” في ثنائية الاخلاق والصحافة التي خُدع بارتباطها الكثير من الناس، وهي بالطبع جزء من موضوع العلاقة بين الاخلاق والثقافة من حيث اعتبار الصحفي ” الحقيقي ” نموذج للمثقف الذي تتعدد مساحات عمله ومجالات تاثيرات ومفاعيل قلمه.
ثمة حالات عديدة شهد تداعياتها الوسط الاعلامي العراقي على المنصات الرقمية في موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، تُجسد وتكشف كذبة التلازم بين ” الصحافة والاخلاق”، وتفضح الوهم الذي استشرى لدى الكثير من ان الصحفي بالضرورة انسان اخلاقي تجد لديه كل المعايير القيمية للسلوك الحسن والتصرفات الخيرة.
وبالامكان ببساطة العثور على نموذج لهذه الكذبة او الوهم حينما يختلف صحفيان، وهما نموذجان للمثقف العراقي في العصر الحاضر، حول قضية معينة من قضايا الوطن والسياسية والثقافة الكثيرة ، او في حالة نقد احدهم لآخر ومن خلال الاداة الاعلامية التي يمتلكها ، سواء كانت صحيفة او اذاعة او فضائية او حتى مع “بوست” بسيط ينشره هذا الصحفي ضد زميله في نفس المهنة.
تراشق شتائمي وبذاءات لفظية ومصطلحات سوقية وعبارات متدنية تواجهها فورا حالما تدخل الصفحات الشخصية لهؤلاء الصحفيين، حيث الحوار والنقاشات تُدار بالطريقة ” المتشنجة”، والاسلوب “التخويني” والمنهج ” المتطرف” المعروف لدى بعض الصحفيين.
كما ان بعض من هؤلاء الصحفيين يسمح لعبارات خارجة عن حدود الذوق والادب والخلق الرفيع ان تجد لها مرتعا ومكانا تستقر فيه بحرية في صفحته الشخصية من غير مراعاة او اعتبار لاي جانب اعتباري او معنوي أو اخلاقي يمكن ان يلحق بصاحب الصفحة او باصدقائه ممن يربأون عن مثل هذه الالفاظ ويجدون فيها حرجا كبيرا.
وعلى خلاف الوهم الذي وجد له قبول في اذهان البعض، لا أجد مايبعث على الدهشة والحيرة في سلوك هذه الطبقة ” المثقفة افتراضا ” سواء ممن ينخرطون في المجال الاعلامي او اي مجال أخر من مجالات الابداع والثقافة والمعرفة والكتابة والفن، فاخلاقيات الذات الانسانية وسلوكياتها الحسنة ليس لها علاقة بالثقافة ومعرفتها وادراكها ، ولايوجد تلازم بينهما كما يعتقد الكثير من الناس ممن استغربوا ان يصدر من نماذج هذه الطبقة ” المثقفة ” مثل هذه الالفاظ البذيئة والعبارات الشائنة والمصطلحات” الوسخة”.
التلازم المفترض بين الصحفي والاخلاق وهم كبير ينبغي ان لانصدق من يحاول تسويقه لنا من الصحفيين، او من غيرهم ، فالاخلاق شيء والثقافة شيء أخر مختلف عنها.
الاخلاق مبادئ وقواعد للسلوك الانساني متسقة مع قيم سامية ترتبط بالانسان من خلال المعايشة الوجودية الحقيقية وتتعلق بسلوكه وتنصهر مع شخصيته بواسطة المران النفسي الذي يرتبط بمصادر عديدة كالعائلة والاصدقاء والمجتمع والمدرسة ووسائل الاعلام والقانون ايضا، كما تجد تفصيل ذلك في موضوع التنشئة في علم الاجتماع والبرمجة الذاتية لدى علماء التنمية البشرية.
اما الثقافة، ففي تعريفها التقليدي المتعارف عليه عند الغالبية من الناس، هي مجموعة معلومات ومعارف حول فن او علم من العلوم يمكن ان يحصل عليها اي انسان بالقراءة والاطلاع واكتساب المعلومات من غير تمييز او تحديد لنوعية الاخلاق والسلوكيات التي تحملها هذه الشخصية.
لذا قد تجد رجلا يعرف مبادئ الفلسفة اليونانية ويعي تاريخ المسارح العالمية ويدرك تفاصيل احداث النهضة الاوربية، ويستطيع ان ” يدوّخ ” مستمعيه بعشرات النظريات الفلسفية والنفسية والاجتماعية ، لكنه من ناحية اخرى يتمتع بسلوك اخلاقي اقل مايوصف بانه مشين وسيئ جدا، ويمكن، في لحظات انانية، ان يضحي بأقرب الناس لديه او يبيع مبادئه ونظرياته ومعارفه بارخص الاثمان، بل ان هذا المثقف لايسمح لاي شخص ان يجادله في متبنياته الفكرية او في ارائه التي يؤمن بها مع انه يزعم ايمانه بحرية النقاش والجدل ويدعو للتعايش والتسامح الفكري والايديولوجي.
ومن الجهة المقابلة يمكن ان نرى شخصا آخر لايعرف نظرية “الوسط” الارسطية ولا “عالم مثال” افلاطون او “جدالات” السوفسطائيون ،ولم يسمع ” بظاهراتية ” هوسرل او ” بنيوية ” لفي شتراوس او ” تفكيكية ” دريدا، لكنه يتمتع بخلق دمث واخلاق عالية ونزاهة لاتزعزها اي اغراءات مادية او سلطوية ، بل قد يكون هذا الشخص “الامي ثقافيا” اكثر اجادة لاخلاقيات الحوار ومبادئ الاستماع وقواعد احترام الراي والراي الاخر.
آن الاوان برأيي لكي يفهم الناس ان لاتلازم بين الاخلاق والصحافة، فقد تم تضليلهم كثيرا باعتقاد مفاده ان المثقف عموما والصحفي خصوصا هو انسان اخلاقي سوف لن يصدر منه الا ماهو خير ولايُرى منه الا الخلق الكريم، في حين ان البذاءات الاخلاقية ومصطلحات الفجور والعبارات التي تبعث على الغثيان الاخلاقي والنرجسية وحب الذات هي اهم مايميز شخصية الكثير من هذه الطبقة خصوصا حينما يدخل في خلافات مع غيره من اقرانه، حيث يزيح الغضب والفلتان النفسي قناع الثقافة المزعوم ورداء الاتزان الفكري والاخلاقي الذي التحف بها.
ولن اذهب بعيدا في تحليلي المتعلق باخلاقيات المثقف والاعلامي اذا ما اشرت الى أن المثقف والاعلامي هو الاقدر على التلاعب والاحتيال وايجاد المبررات، بل المسوغات لكل مايود القيام به سواء كان الامر قانوني او غير قانوني، في حين ان الانسان البسيط غير قادر على امتلاك الأداة الفكرية والالاعيب المنطقية لكي يمارس منهج التبرير وتضليل الاخرين حول مايقوم به.
قراءة معمقة واستقراء دقيق لتصريحات وسلوكيات الاعلاميين والمثقفين الذين انخرطوا في العمل السياسي او اصبحوا ضمن الفريق الاعلامي لبعض السياسيين في العالم العربي، توضح ايضا حقيقة المثقف او الاعلامي الذي انخرط في مشروع هذا السياسي الذي قد يكون فاسدا او طائفيا او جاهلا، ومع هذا تجد الصحفي يدافع عن هذا السياسي ويمارس لعبة التبرير لكل مايصدر عنه من افكار ومشاريع مهما كانت تافهة او طائفية او بائسة.
ولا يكتفي الامر عند هذا الحد، بل تجد بعض الصحفيين يمارسون ايضا ظاهرة الابتزاز باسلوب دنيء مع الجهات والمؤسسات التي يختلف او يتعامل معها لدرجة صدمت الكثير واصابتهم بالدهشة من هذا النهج والتعامل الوصولي لتحقيق غايات نرجسية او أهداف مادية بحته حتى لو كانت على حساب اخلاقه وعنوانه الصحفي .
النماذج السيئة للصحفيين ممن يبتزون ويمارسون شتى انواع الرذائل السياسية والخطايا الاعلامية لاتحجبنا عن الاعتراف بوجود نماذج اخرى رائعة من صحفيين واعلاميين ساهموا، ومن خلال مواقعهم ، في الكشف عن الحقيقة وتعرية الباطل وفضح الفساد، ودفع بعضهم حياته وأعز مايملك في الكون ثمنا لمواقفهم البطلة وكتاباتهم الجريئة .
وللموضوع بقية ….