19 ديسمبر، 2024 4:11 ص

أوقفوا محاولات إضاعة هوية التعليم التقني في العراق

أوقفوا محاولات إضاعة هوية التعليم التقني في العراق

تدور حاليا أحاديث لدى البعض بخصوص نوايا لإلغاء هيئة التعليم التقني ، تلك الهيئة التي خدمت العراق منذ تأسيسها عام 1969 واستطاعت تخريج عشرات الآلاف من التقنيين في المستويات والاختصاصات المختلفة التي كانت ولا تزال لها أدوارا فاعلة في بناء وتطوير بلدنا العزيز وفي مختلف القطاعات ، والمدافعون عن فكرة الإلغاء يعتقدون بان دور الهيئة قد انتهى بعد أن تمت هيكلتها وتحويلها إلى أربعة جامعات تقنية ، وبالعكس من ذلك تماما فهناك من له رأيا معارضا لفكرة إنشاء الجامعات التقنية الأربعة ويدعون لإعادة هيكلة هيئة التعليم التقني وإعادتها إلى وضعها السابق ، ورغم إنني لست في موقف المدافع عن الإجراء المتعلق بإنشاء الجامعات التقنية إلا إنني أجده ايجابيا لأسباب عديدة ، أولها إن الهيئة كانت مهددة لان تصاب بالترهل الإداري بعد أن أصبح عدد تشكيلاتها أكثر من 46 كلية ومعهد وكانت هناك خطة لزيادة عدد المعاهد التقنية إلى 100 خلال السنوات القادمة ، وهذه التشكيلات تنتشر في 15 محافظة وهناك صعوبات أخذت تبرز في مجالات الترقيات العلمية ونشر البحوث وعقد المؤتمرات والحاجة لزيادة الرقابة للحؤول دون وقوع حالات في الفساد الإداري ، ورغم إعطاء الصلاحيات الكثيرة فقد كان البعض يضطر للمجيء إلى بغداد من البصرة أو الموصل أو الانبار أو غيرها لانجاز ابسط المتطلبات كالتظلم لدى رئيس الهيئة مثلا أو متابعة قضايا إدارية بسيطة تتعلق بالعلاوة والترفيع .

وثانيها إن العراق في 2014 لا يشبه حاله في عام 1969 ، حيث يتم منح الصلاحيات والتوجه للعمل بالأقاليم وضرورة إيجاد النظم اللامركزية ، فالمحافظات تريد التحرر عن المركز لكي تشعر بحريتها فكيف حال الكلية والمعهد في الناصرية أو الحويجة أو كربلاء حيث إن الارتباط بجامعة تقنية ضمن المنطقة الجغرافية مقنع لهم أكثر من الارتباط بالهيئة في بغداد ، وثالثها إن التحول للارتباط بجامعات بولي تكنيك أفضل الحلول التي اتخذت لان البعض كان يروج لان ترتبط المعاهد والكليات التقنية ضمن الجامعات الأكاديمية في المنطقة الجغرافية وهو إجراء كان من شانه مسح هوية التعليم التقني بالفعل ، ورابعها إن من تولى الانتقال إلى الجامعات التقنية هم التقنيون أنفسهم وباقتراح منهم دون أن تفرض عليهم أملاءات ، وكانت الفرصة متاحة لهذا الانتقال بدلا من تطبيق قرارات عليا راديكالية قد تسبب الأذى للتعليم التقني فإنشاء الجامعات التقنية تم من خلال دراسات ومسوحات ومؤتمرات ، وقد صوت على إنشاء الجامعات التقنية ٨٨ شخصية علمية تقنية من بين ٩٢ وامتنع اثنان عن التصويت ولم يعارض المشروع إلا صوتان ، ومن الغريب أن يتم التساؤل حاليا عن مصير هيئة التعليم التقني وجدوى استمرارها ، رغم إن الدراسات التي أعدت بهذا الخصوص قد أشارت إلى تحول الهيئة إلى كيان تنسيقي بطريقة عملية لأجل الحفاظ على هوية التعليم التقني وعدم إضاعة الجهود والتكاليف التي أنفقت في السنوات السابقة .

فالهيئة هي صمام الأمان للتعليم التقني في العراق والرابط بين الجامعات التقنية والمؤسسات الدولية للاستفادة من المنح والهبات والتسهيلات ، وان تكون من ينسق مع الاتحادات والمنظمات الدولية بخصوص الاستراتيجيات ذات العلاقة بالموضوع ، وتكون الجهة التي يمكن أن تستفيد من خلالها الجامعات التقنية من المنح والمساعدات ، ولكن هذا الموضوع لم ينجز لحد الآن لأنه يحتاج إلى تشريع بتعديل جديد لقانون وزارة التعليم العالي كما تأخر انجازه نظرا للأحداث الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تطورت بعد تأريخ تشكيل الجامعات التقنية الأربعة عام 2014 ، مما يعني إن أهمية وجود واستمرار هيئة التعليم التقني تتجسد من خلال تحولها كمؤسسة جامعة للحفاظ على انجازات التعليم التقني وإبقاء تجربة العراق الرائدة بهذا الخصوص ، ولعل هذا التأخر هو الذي أثار التساؤلات عن مصير هيئة التعليم التقني ، فالبعض يقول هل ستبقى متسلطة على مقدرات الجامعات التقنية أم إنها ستلغى وتكون جزءا من الماضي ؟ وهي تساؤلات مشروعة لان إلغائها أو تعديل مهامها يستوجب المرور من خلال القنوات القانونية التي تتطلب إعداد التعديل التاسع لقانون وزارة التعليم العالي رقم 40 لسنة 1988 ومن خلال مشروع قانون يتبناه مجلس الوزراء ، بعد أن تم الاتفاق عليه في اجتماع هيئة الرأي للوزارة وقد بدأت بذرات هذا التوجه في الاجتماع الذي انعقد في جامعة بابل والذي صوت عليه الجميع باستثناء صوتين .

ويقضي المقترح بإبقاء الهيئة وتشكيل لجنة لاقتراح مهامها وواجباتها بشكل يضمن التواصل الدولي والإقليمي والعربي مع المنظمات المعنية بالتعليم التقني ، لان التنسيق مع جهة واحدة أفضل وانجح من التنسيق مع جهات متعددة ، وقيام الهيئة بمواصلة العلاقة مع الاتحاد الأوربي وغيره من المنظمات الدولية بخصوص تنفيذ اتفاقية إستراتيجية التعليم المهني والتقني ( TVET ) التي تستمر لغاية عام 2023 , ناهيك عن التنسيق مع الجهات المانحة للاستفادة من المزايا العلمية والمادية ، باعتبار إن الجهات العالمية يمكن إن تقدم المنح والمساعدات لهيئة التعليم التقني أسهل من التعامل مع الجامعات التقنية الأربعة كما إن الهيئة يمكن أن تفهم ظروف كل جامعة لتوفير متطلباتها حسب الأسبقيات ، ولعل الرأي بالإبقاء على الهيئة و تنظيم ارتباط الجامعات التقنية معها بدلا من جهاز الإشراف في الوزارة لان وجود أربع جامعات تقنية في هيئة واحدة لعله أفضل لها من وجودها ضمن ٢٩ جامعة من حيث التنسيق والترابط والتكامل والشمول فذلك لا يمكن أن يكون في ضوء المبادرات الفردية لوحدها وإنما من خلال العمل الجماعي وهو الأكثر ترجيحا ، فهناك ضرورة ملحة لوجود كيان تنظيمي لأغراض التنسيق والتوحيد وعدم التعارض ومنع ازدواجية الأعمال ، وهذا الكيان يجب أن لا يكون بيروقراطيا وان يكون فاعلا ويضم خبرات عالية ولا يؤدي إلى الترهل الإداري أو التدخل في صلاحيات الجامعات التقنية ، وإن التمسك بإبقاء هيئة التعليم التقني بهذا الوصف ، ليس غرضه الإبقاء على حلقة إدارية مضافة ، في الوقت الذي نشارك الآخرين فكرة ترشيد أجهزة الدولة .

ونعتقد إن فك ارتباط هذه الجامعات وربطها بهيئة التعليم التقني التي سترتبط بالسيد الوزير التعليم العالي مباشرة هو حلا أفضل ، فهذا الترتيب التنظيمي يحافظ على ابرز شروط مشروع الجامعات الأربعة الذي اشترط في الحفاظ على هوية التعليم التقني وعدم التفريط بها وان لا تتحول الجامعات التقنية إلى جامعات أكاديمية ، والهدف ليس إضعافا لدور الجامعات التقنية إطلاقا , وإنما لإضافة قوة للتعليم التقني للتحوط من أي مساس بهويته والاتفاق على المشتركات في مجال المناهج والتدريب والتطوير والتحديث والرؤى والعلاقة والتنسيق مع المؤسسات المناظرة من دون إضافة أية أعباء إدارية أو أملاءات تخل باستقلالية الجامعات التقنية ، فالهيئة قائمة حاليا وقد تم ترشيقها إداريا ويمكن لها أن تضيف للجامعات التقنية ولا تأخذ من صلاحياتها قط ، فبدلا من التنسيق مع كل جامعة لوحدها في مجالات الانفتاح على البيئات ذات العلاقة المحلية والعالمية وإدخال التقنيات الحديثة ، فان الهيئة ستشكل النافذة المشتركة لغرض الاستفادة من جميع أشكال الدعم والتنسيق دون إهمال المبادرات ذات الصلة بعملها ، والهدف النهائي هو أن تكون للجامعات التقنية مبادراتها في اختصار الزمن وتحقيق التقدم وعبور المستعصيات ، فما يتم التعويل عليه وطنيا هو انتقال التعليم التقني إلى حالة متقدمة في معالجة المشكلات التقنية الوطنية والحيلولة دون طمس هوية التعليم التقني وتحويله إلى شكل أخر ، والسعي لاحتضان طاقات الشباب لتوفير فرص العمل لهم بعد التخرج ليكونوا منتجين فعلا وليس عالة على المجتمع .

والأمر لا يحتاج سوى تكييف قانوني لهذا الانتقال ، ونأمل أن تتبنى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي فكرة تعديل مهام واجبات وتشكيلات هيئة التعليم التقني ، كما نأمل من مجلس الوزراء الموقر أن يتبنى هذا المشروع الوطني باعتباره رافدا مهما للاقتصاد العراق ، وسوف لا يكون هناك أي خاسر من هذا التنظيم والرابح هو العراق فالجامعات التقنية هي جامعات تعمل باستقلاليتها الإدارية والعلمية والمنتسبون فيها من العاملين والطلبة هم ينتمون إلى الجامعات وهوية التعليم التقني ستبقى بأيدي تقنية للعمل على تطويرها نحو الأفضل ، ونعتقد إن هذا المقترح سيثلج صدور العديد من المخلصين للتعليم التقني بعد أن ابدوا البعض من قلقهم وخوفهم على مصير التعليم التقني ، ولا يعني بالضرورة إن ما تم عرضه سيتم فرضه على الآخرين فهذا الرأي قابل للمناقشة والحوار وإذا ما تم طرحه في هيئة الرأي سيتم التصويت عليه ، وربما تطرح أفكارا واراءا أخرى وهي جميعا محط اهتمام واحترام ، فالعبرة في إيجاد أفضل صياغة من حيث الملائمة والقبول وصلاحيتها للتطبيق وتوافقها مع البيئة التشريعية النافذة والقدرة على تحقيق الكفاءة والفاعلية في الأداء .

أحدث المقالات

أحدث المقالات