أحسب أنها باكورة أعماله القصصية، ذلك أن الأستاذ رحمن يحارب على أكثر من جبهة بالقلم مقاليا بارزاً، وقاصا خبر القصة منذ نهاية الستينات حين نشر الطالب الجامعي رحمن خضير عباس في كلية الآداب عدة قصص في الصحافة الأدبية والثقافية، حين كان للقصة القصيرة قصاصون متمرسون، وحين كانت القصة تزين الصفحات الثقافية والملاحق الادبية فأفرزت أسماء لامعة؛ إذ طالما تجد يومذاك قصة أو أكثر في كل صفحة ثم أعقبتها موجة القصص القصيرة جداً، بل زاد قصرها ليصبح في غاية الاقتصاد، سطراً أو بضعة أسطرMicro-short Story ؛ بينما كان الشعر هو الآخر صعب المركب،، فموجة “قصائد النثر” كانت ما زالت في الطريق ولم تتحول بعد الى سيل جارف يكتسح الصحف والمواقع الإلكترونية!
وقاصنا رحمن محارب أيضاً بالريشة فقد بدأ يقترب منها وقبل أن تجد لها مكاناً بين أنامله مارس الكتابة عن فن ساخر هادف وأعني به الكاريكاتير، ثم ولج عالمه رسّاماً، فهو كاركتيري متمرس لاذع؛ وأراه قليل النشر وأحسبه يقول: لقد أمسى واقعنا كاركاتيراً! وتلك حكاية لاذعة أخرى..
هي إضمامة قوامها ثماني قصص قصيرة وإحداها ” أوراق من يوميات حوذي” جعلها القاص الأستاذ رحمن خضير عباس عنواناً لهذه الإضمامة التي صدرت عن دار شمس في القاهرة في الربع الأخير من العام الفارط 2014. والقاص امتهن التدريس في العراق، ثم هاجر كواحد من أبناء الدائرة الذكية عام 1978 ليحط الرحال في أكثر من قطر مغاربي، ما عمق تجربته، وأكسبها مذاقا وجدانيا وعاطفيا وأخلاقيا رفيعا؛ ومن يقرأ قصصه سيجد للمكان ومجتمعه حضورا قوياً في سوريا وليبيا والجزائر والمغرب لينتهي به المطاف في كندا حيث يقيم الآن.
والمكان في جميع حالاته مركب من بلد القاص الأصلي الذي يحمله في جوانحه وبين المكان الذي يحل فيه، فالأماكن بجغرافياتها وتواريخها ومجتمعاتها بل ونماذجها الإنسانية تتبادل المواقع في تفاعل حي أفرز عالمه القصصي وشخوصه بل وأثر في الحبكة الفنية التي يتفاعل فيها الزمان والمكان بشكل تداعيات وانفلاتات متداخلة آنا ومنفصلة في آن آخر ما يتطلب متابعة فطنة من قبل المتلقي لمعايشة الحدث وسريانه بتلقائية؛ وأزعم أن القارىء الواعي سيبقى منشغلاً في موحيات هذا الضرب الواقعي النقدي بعد قراءته، خاصة في الخاتمات السائبات المنفتحات على التأمل والتأويل..
ولقد سكب القاص من روحه وفكره وتأملاته الفلسفية والوجدانية الشيء الكثير الذي يستمد موحياته من اليومي الراهن المعاش، ومما عاشه في بلدته العراقية الجنوبية التي يشطرها الغرّاف شطرين، حيث ترك الأم التي انسل من عناقها ذات يوم ولم يرها بعد ذلك وظلت تردد اسمه بشفتين يابستين حتى لفظت أنفاسها، ولأجلها حملت المجموعة القصصية أهداءها…لذا يرى القارىء تجسيد هذا المشهد ومشاهد العراق في صورتيه صورة الطفولة والشباب في الشطرة وبغداد قبل الحرب ثم صورة العراق ومشاهد الحرب والدمار التي لم تنفك تترى أخباراً مرئية تفعل فعلها لدى العراقي المغترب.. بهذا التفاعل يتجسد
الاغتراب لا بمفهومه الجغرافي ولا الثقافي بل بمفهومه الأعمق الشامل، النفسي – وأوجَعُه الحنين- والاجتماعي الذي رافق محنة الإنسان منذ أن انقسم المجتمع البشري الى مضطهِد (بكسر الهاء) ومضطهّد (بفتحها) حتى يبلغ مدى السيرورة التاريخية الى الاستلابAlienation بمعناه المركب.
“أسوار” هي أولى القصص، وأكثرها اكتنازا بالحدث المختصر، وبتصوير المعاناة الداخلية التي تعكس تجربة القاص الذي وجد نفسه بعد أن القى بعصا الترحال الطويل في العاصمة المغربية، يستلم كتاب التعيين مدرسا في مدينة نائية في الجنوب المغربي، تختلط المشاعر والخواطر والتداعيات لشاب يعرف أين تسير به الحافلة الهرمة، وهي تقطع سهولاً ووهاداً وجبالاً، تقترب من البحر فيشم رائحته التي يحملها نسيم رطب، وتبتعد تارة اخرى الى اراضٍ جرداءَ فيها قلاعٌ وآثار وهواء جاف وواحات تمنى لو حكت عن السعديين والمرابطين والموحدين! هو يعرف أنه ذاهب الى مدينة لا يكاد يعرف عنها شيئاً ولا يعرف أين يسير به الزمن..لاحت له أسوار مدينة تارودانت ذات البوابات الخمس من منطقة سوس..
والمدينة أمازيغية، السكان لهم لغتهم وزيهم، أناس بسطاء يكدحون في الزراعة والتجارة يبدو الوافد غريبا ويحصل على اسم عرف به ” العراقي أو سي العراقي” ما يشي بأنه الوحيد العراقي..يزيد هذا اللقب الأستاذ قلقاً وحذراً ويحمله مسؤولية أخلاقية لبلد عريق الحضارة طيب السمعة محبوب جداً لدى المغاربة، أستاذ مكبوت موجوع بشتى الأوجاع النفسية ويحمل أخلاقية جنوبية محافظة، يعيش صراع مع تلك السمراء التى كلمته برقة وابتسام، يدعوها لقهوة في الدار فترحب، السوق مزدحم والعيون شاخصة يسمع بائعاً : “بناتنا بحال خبز السوق.. ما ياكله غير البراني”! والعائلات المغربية تخبز بنفسها أما خبز السوق فيأكله الغريب فقط! ياله من توصيف بليغ! زاد العراقي حساسية وجعله أكثر حذراً وقلقا..
زارته وشاركته الفراش وهو يفكر بما سمعه من البائع ومن زميله الفقيه التيجاني:”أردناها مدينة العلم ولبة الألباب، فأبت إلا أن تكون مدينة الذباب وال..اب”..يلتجىء الى البار لعله يهدّىء من روعه، الذي غدا يترسخ في يقظته ورقاده..
مطر ينهمر فيستبشر الناس خيراً، ثم ينهمر هَطلُه ليومين ويصبح سيلاً جارفأ مخيفاً والناس يخرجون ويهجرون المدينة والسيل يأكل الأسوار فيصبح الماء بنيّ اللون، هي إذن لعنة الرذيلة؛ يلحقه الناس بالحجارة مستنكرين بقاءه.. فاطمة معهم لكنها لم تُلق عليه حجراً؛ أما التيجاني: ” إذهب أيها البراني بعيداً عن أسوار مدينتنا..لقد جلبت لنا الدمار، ولكننا أبقيناك حيّا طليقا”.
تشكل “اللوحة” نمطا مغايراً في الشكل والمحتوى رغم الخيوط التي تشدّها الى “أسوار” مع اختلاف المكان حيث أوتاوا، والمحنة هي ذاتها في اغتراب العراقي الفنان الذي يخرج باعجوبة من العراق في زمن الحصار والحرمان، ليجد نفس في العالم الجديد ممنيا نفسه بما يعوض الكبت والحرمان، بشقراء جميلة تعجب به كإنسان وفنان، سيجوب معها شوارع أوتاوا يدا بيد وسيزدهر فنه المستمد من حضارة ما بين النهرين العريقة، وسيلمع اسمه ويرفع اسم بلده وهو الأهم ..تتبخر الأحلام وسيكون ضائعاً في بلد يكون فيه غريب الوجه واليد واللسان..اللوحات التي تبيعها المعارض وتحقق ربحا هي ليست فناً إنما هي نمط تجاري مكرر لكنه هو الرائج، ما يرسمه فناننا إبداع حقيقي لا يأتي بطائل.. الخمرة ستكون هي الملاذ، يخرج من الحانة كآخر زبون يجوب المدينة ليلاً يذهب الى دار الفنون نهاراً وحيداً، يرجع ليلأ ليكمل سكره، يحاول أن يرسم صورة الفتاة التي يحلم بها بنت الثلج ، يجد نفسه يرسم وجهاً عراقيا بسمرته وحمرته وخصلات شعره فتكتمل الصورة ” أحس بأن الكآبة تغادره، وإن فرحا طفولياً يجتاحه،
عبّ من كأس نبيذه وهو يتأملها عن بُعد.. امرأة سامقة الطول، عيناها بحيرتان هائلتان تستحم بهما مئات النوارس الفضية، تتطاير على أفق مزدان بشعاع وردي.. أما جسدها فكان يتمرد على أثوابه وينغمر في عتمة الشجر المدلهم جسد ثري بلون الطين والماء الخابط وسموم الرياح اللافحة التي تهبُّ من جنوبنا العراقي صيفاً…” ثم غطّ في نوم عميق..
استيقظ متأخراً من صباح اليوم التالي، “مثقلاً بالكسل والكآبة..” تأمل اللوحة تراجع الى الوراء ثم انقض عليها تمزيقا..استخدم القاص عنصر المفاجأة باقتدار وبراعة فالتراكمات النفسية وقسوة الاغتراب وبقاء العراق حُلُماً حتى ولو كان على لوحة من إبداعه ولّد ثورة على الذات المتمردة اليائسة!
“أوراق من يوميات حوذي” قد يوحي العنوان بالجانب التسجيلي في “يوميات” ، فهي بعيدة جداً عن اليوميات المعهودة، استخدمها القاص رحمن خضير عباس مجازاً، والحوذي له حضور في أعظم ما كتبه تشيخوف حتى غدت عنواناً لقصته المترجمة الى العربية وأعني بها “الشقاء” وبطلها أيونا بوتاريوف، ذلك الذي استأنس بل أنسن حصانه وتبناه عوضا لابنه الفقيد.. وتاثير تشيخوف واضح في القصص العربية والعراقية خصوصأ، اتذكر حديثأ للراحل الكبير غائب طعمة فرمان حيث بدا متأثرا جداً على شخصية الحوذي “حمادي” في النخلة والجيران وقال لقد صُوِر حمادي في مشهد كوميدي بينما هو مشهد أردته تراجيديا حين يقول وهو طريح الفراش إثر نفوق حصانه: مشتهي حصان!!
والحوذي هو القاص نفسه، وحصانه هو سيارة تكسي بويك قديمة، راح يسوقها في شوارع ثلجية من أوتوا، ويصف بدقة كيف ساقها مرتبكاً ليوصل سيدة اعتذر عن عدم معرفته بالعنوان فاندهشت وقادته وما عليه إلا ان يسوق طوع إرشادها ثم نقدته أول أجرة يحصل عليها..ولئن كان حوذي تشيخوف يفرغ همه وحزنه بالتحدث الى الراكبين فإن حوذينا لا يتكلم مع أحد هكذا تقضي التعليمات في الغرب، يستجيب السائق لحديث الراكب، وإضافة لذلك فإن السائق ليس بوسعه أن يُفرغ همه أو ينُّفس عن هم فاللغة جدار أصم في أغلب الأحايين! لهذا طالما يسوق ويفكر في العراق والشطرة وكوارث الحرب والأم التي تتطلع لعودته، وإذا عاد كيف سيكون اللقاء؟ رحلت أم وظل الخبر مكتوما عنه زمنا طويلا! التفكير! التفكير! طالما عرضه الى مخاطر المهنة!
التداعيات لازمت هذه القصة وعمقت المفارقات وقادته الى الدروب القديمة في الشطرة والى حصان جميل امتلكه والده وأصبح أجمل وأذكى حصان، حصان أدهم نظيف جميل هو زينة الناظرين، وقد قتله الناظرون حسداً وفق اعتقاد الوالد الذي حزن عليه أيما حزن..
وكم يحزُّ في نفسه أن يرى زملائه العرب يتوسلون أساليبَ غير نزيهة في الكسب والمنافسة غير الشريفة وتجاوزا على القواعد في بلد متحضر: ” ولكن ما إن تحصل على الإجاوة حتى تجد نفسك في سوق لا ينتمي إلى المحيط الكندي، فأنت في وسط السوق السوداء والسلوك الأسود من أبناء جلدتك العرب والأفارقة والآسيويين لهم منطق السوق في الشراء والبيع لمزادات معلنة، أو غير معلنة..تلمس استغلالاً بشعاً من إخوتك المهاجرين أمثالك!…” في هذه القصة السرد والتوصيف يطغى ويشدّ القارى اكثر من تداخل الاحداث، فعنصر المفاجأة في نهاية القصة يخدم السياق السردي والحبكة الفنية.
“مدن ومتاهات” هي آخر الثماني، ولها خاصة تختلف عن السابقات، هي سرد يقترب من التسجيل مع تسلسل زمني يمليه الحدث وتجدده منذ خروجه من العراق حتى استقراره في أوتاوا مكانيا وعائلياً .. لكنه سرد باسلوب حكائي مع نقلات توصيفية للمدن وحياته القلقة فيها، في هذه القصة يسود الأسلوب
الروائي، وأتمنى من القاص لو توسع بها وأخضعها لتقنية الرواية لتصبح واحدة من الروايات الهادفة والشاهدة لغربة المثقفين من بني اليسار وما أكثرهم، فهي لا تعكس تجربة فردية للقاص وحده بل لجيل من المثقفين العراقيين وكثير منهم مبدعون وكتاب وشعراء وتشكيليون ومسرحيون…أحسب أنها ستكون رواية مؤثرة أكثر منها تجربة شخصية.
ويبدو أن “تارودات” لها مكانة خاصة بين المدن بل أن حضورها في الذاكرة يوازي حضور الشطرة، فقد ألِفها وأظنها ألفته رغم ذلك الكابوس الذي مرّ معنا في “أسوار” فلنقتطع هذا المقتَطع المُعبّر:”مكثتُ عامين فيها ، أعيش دهشة المكان، أبحث عن قطرة ماءِ تبلل عطشي المزمن. قلت لصاحبي المغربي الذي يشاركني احتساء الشاي الأخضر بالنعناع:
-هل يموت أحدٌ في تارودانت؟
استغرب من سذاجتي مجيباً ب “نعم”…وحينما رأيت الدهشة في عينيه، قلت إن الموت في مدينتي يتعدى الحدود، مكبرات الصوت واللطم والنواح وشق الجيوب…قال: نحن نبكي بصمت، لان الحزن الشديد يؤذي الميّت”.
اخترت أربعاً من ثمانٍ ممنيا نفسي بالعودة الى الأربع الباقيات، فقد فتنت بعوالم هذه المجموعة المتنوعة، ذات الأساليب الفنية المتنوعة هي الأخرى فقد استطاع القاص أن يعطي لأبطاله لغتهم المميزة، وسلوكهم الخاص بهم؛ وأحيانا يستخدم المفردات العامية أو المحلية التي لا يفقهها غير أبنائها، مما يقتضي إيجاد ملحق لفهم ما يُستعجَم من أمثال: سدارية البونج (الفراش الاسفنجي)، الأركَان (ثمر محلي)، المندرين (اليوسفي)، الغاسول (صابون محلي) الخ…اضافة الى مفردات غلبت عليها العامية العراقية مثل أوتاوة (أوتاوا) المقهى بصيغة المؤنت وفي مرة أخرى بالمذكر وهو الأصح، ولا أدري ماذا يعني “لعق قهوته” التي تكررت فاللّعق باللسان ولا يكون للسائل لعله تحاشى مفردة ارتشف لكونها غدت مستهلكة..وهذا لا يقلل مطلقا من صفاء الأسلوب وجماله !