أن تكون جريئًا في العراق، يعني أنك حكمتَ على نفسك بالإعدام حكمًا لا رجعة فيه، أن تُطلق العنان لكلماتك كاشفًا عن جرائم صنّاع الموت وترميها بوجه أولئك القتلة واللصوص ويعلو صوتك وتواجههم متسلحًا بكلماتك ونافذتك التي تكتب فيها فقط، أن تكون شجاعًا لتصرخ بكل قوتك مستنجدًا لإنقاذ بلدك أو “ما تبقى” منه! فإنك لا شك ترمي نفسك في تهلكةٍ وتصبح عرضةً للمطاردة والتضييق والموت في أحيان كثيرة، وقد تُلصق بك صفات أنت بعيد عنها كل البعد، وربما ستختفي ولن يجد أحد لك أي أثر.
لم يتوانَ الصحفي العراقي غزوان العيساوي عن المضي في هذا الطريق رغم معرفته بخطورة الأمر وتهديده لحياته، ولستُ أتحدث هنا عن الوقت الحالي، بل عن “عراق عام 2007” الذي كان حينها يغرق في دوّامة العنف والقتل وتخبّط وفساد السياسيين، حين كانت ضريبة الكلمة الموت، كان العيساوي يكتب بكل جرأة وصدق وحرقة، كان غضبه مما يراه ويعيشه العراقيون يدفعه للكتابة، يلتقط يوميات العراقيين البسطاء، يبحث عن كل اللحظات التي تؤرخ حياتهم، يكتب عن الأحياء وعن الموتى وعن الأحياء الموتى، عن أحلامهم الصغيرة التي قُتلت، عن الضحكات التي تلاشت والفرح الذي شح، عن الأمهات وحزنهن الأبدي، عن الآباء وضيمهم، عن الشباب وضياعهم، عن الأطفال بلا طعم الطفولة، عن الحب الذي يقاتل الكراهية، عن الفواتير التي تدفعها ضريبةً لعراقيتك، عن المفخخات التي زارت نصف شوارع العراق، عن الموت سيد الموقف، عن الحزن سيد اللحظة، عن الحياة المبعثرة، عن الحكومات التي تقتل شعبها، عن بغداد والفوضى التي تعمها، عن البصرة وأنينها، عن كل العراق، عن الجنون الذي في العراق، عن المستور الذي يخشاه الجميع، عن كل شيء.
جمع العيساوي كلَّ هذه المقالات وهي خمس وثلاثون مقالة في كتابه البكر (أوراق صحافي عراقي)، واختار نخبةً من المقالات التي كان قد نشرها عام 2007 في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية العراقية والعربية، لتكون خير مؤرخ وموثَق لتلك الحقبة المظلمة التي أصبحت علامةً سوداء في حياة العراقيين، وكأن العيساوي أراد أن يكون من المؤرشفين الأوائل الذين لم يجدوا غير الكلمات ليعبروا عن واقعهم وليحاربوا الظلاميين والسرّاق الذين نهبوا وقتلوا كل شيء في العراق، وليؤدي مهمته كصحفي مهني في زمنٍ صارت فيه مهنة الصحافة جرمًا قد تُقتل لأجله، والجميع يعرف المخاطر التي واجهت وتواجه الصحفيين في العراق، وللأسف لا يزال الصحفيون في العراق يواجهون تحديات كبيرة حتى هذه اللحظة تعيق انجاز مهامهم بشكل صحيح.
لم يكن العيساوي وحده في هذا المعترك، بل كان هناك صحفيون عراقيون كُثر، يكتبون مقالاتهم وينشرونها في كل حدب وصوب، حتى أن كثيرين منهم أصابتهم أذية كبيرة، فمنهم من قُتل، ومنهم من تعرض وعائلته للتعذيب، ومنهم من هُدد أو أُختطِف، وآخرون هاجروا بلا عودة، وأشتهر في تلك الفترة تحديدًا كتَابٌ كثيرون بمقالاتهم التي أحدثت جلبةً كبيرة ولكن بأسماء مستعارة، ليس خوفًا من الموت، بل للبقاء على قيد الكتابة لأطول وقتٍ ممكن. في المقابل كان هناك من يُفترض أنهم صحفيون يروجون للموت والعنف والعنصرية وكل ما يدخل ضمن دائرة الكراهية عبر مؤسسات إعلامية طائفية مقيتة، هؤلاء هم الذين ضيعوا الوطن، وساعدوا القتلة على قتل العراقيين ونهب خيرات هذا البلد، الذي ما يزال يئن من الجراح التي خلفها هؤلاء.
أعتقد أن هذه التجربة الصحفية التي خاضها العيساوي تبيِّن لنا مدى المعاناة التي كان يتحملها صحفيو العراق –المهنيون- ليواجهوا بها آلة الموت، وينقلوا صوت الناس إلى الرأي العام، فهم بذلك ساعدوا كثيرا في التخفيف من وطأة ما خلفته الحروب وتجّار الدم، من خلال هذه المقالات التي جمعها في هذا الإصدار وهي وإن اشتملت على موضوعات مختلفة ومتنوعة ومنتقاة بدقة لكنها أجملت بأكثر من مائة صفحة الأوضاع التي مرت بالعراق والمشاكل الداخلية والخارجية التي عصفت به، ولم ينسَ أن يتكلم عن الوسائل التي واجه بها العراقيون كلَّ هذا البلاء، فقد كانوا يجابهون الموت بالضحك، والقتل بالسخرية، والعنف بالإصرار والتحدي، وهكذا بقيت الحياة تتجدد كلَّ يوم.