لقد ازدحم ايميلي في الأسابيع القليلة الماضية برسائل القراء الذين يعقبون فيها على مقالي الذي نشر في مجلة المدار الغراء في عددها السابق بعنوان ” علي الوردي ومقياس ريختر للزلازل” والذي تناولتُ فيه موضوع الازدواجية بين الحضارة والبداوة في الشخصية العراقية كما تناولها استاذنا المرحوم الدكتور علي الوردي في بدايات تحليله للشخصية العراقية في الخمسينات من القرن الماضي،، وتسائلت فيها عن أسباب رسوخ هذه الازدواجية الى يومنا هذا على الرغم من كل الكوارث الوطنية والمجتمعية التي مر بها العراق في اكثر من نصف قرن . كما والتقيت بمجموعة من المثقفين العراقيين المقيمين في كندا وجرى الحديث طبعا عن نفس الموضوع… وأسعفني الحظ كذلك بلقاء الأستاذ الدكتور سيار الجميل في اكثر من جلسة للاستزادة من علمه الغزير وإزالة الغموض عن بعض الجوانب التاريخية التي تصب في هذا الموضوع . نعم ان الموضوع معقد جداً وقد يكون من المستحيل الإحاطة بكل جوانبه في مقال واحد محدد مداه بصفحة واحدة في مجلة شهرية .
سألني احد الأصدقاء في احدى هذه الجلسات عن سبب عدم وجود هذا التداخل المخيف بين الحضارة والبداوة في الشخصية الخليجية والتي هي أساسا بدوية المنشأ فأجبته قائلا ان هنالك ازدواجية كذلك ولكنها لا تكون ظاهرة للعيان بنفس الطريقة وبنفس الحدة التي تظهر فيها في العراق،، والاسباب كثيرة سوف نحاول ان نتناولها في هذا المقال.
ربما كان السبب الرئيسي لذلك انه لم يكن هناك ريف في دول الخليج كما هو في العراق ،، لقد كانت هناك مدن بدائية في الخليج في النصف الاول من القرن العشرين ثم انتقلت مباشرة الى طور المدن الاكثر تحضرا بوقت سريع جداً في النصف الثاني من القرن العشرين مع ما صاحب ذلك من تطور إيجابي في الشخصية الخليجية. اما في العراق فقد كانت هنالك أساسا في الثلاثينات والاربعينات مدن متحضرة أصلا وفيها لمحات من معالم الحضارة العالمية كبغداد والبصرة والموصل الا ان مفاهيم الريف قد طغت على المدينة في العراق فمحقتها ولاسيما في التسعينات وما تلاها حينما دخل العراق في منحدر الحصار المخيف وحيرة النظام آنذاك بين التمسك بالعشائرية او أسلمة الدولة للحفاظ على مقاليد الأمور وذلك بطريقة لا تنسجم مع التطور العالمي ولا سيما في ظل ثورة المعلومات والاتصالات . وانا هنا لا انتقد الريف ومفاهيمه بشكل مطلق ،، لا بالعكس ان هنالك في الريف قيم ومُثُل إنسانية فيها الكثير من الطيبة والوداعة والوفاء حينما تمارس في حدود الريف ولكن المشكلة الحقيقية تنشأ عندما تضمحل حدود المدينة العصرية بكل تعقيداتها امام قيم الريف الذي يغزوها بسرعة فيلد آنذاك جنين هجين يفتقد الى طيبة وبساطة قلب أهل الريف ولكنه يمتلك في نفس الوقت الكثير من نوازع مقاومة التقيد بالأنظمة والقوانين المعقدة التي هي من سمات العيش في المدينة المعاصرة . ولنورد لذلك مثلا بسيطا قد يعين القاريء على تلمس ما نرمي اليه. ان قيادة السيارة في الريف اسهل بكثير من السياقة في المدن الكبيرة المزدحمة من حيث قلة عدد السيارات والسابلة، لذا فان القروي لا يكترث عادة بالتقيد بانظمة المرور والاشارات الحمراء اضافة الى عدم اكتراث شرطة المرور هناك بتطبيق القانون بحذافيره،، فتخيل الفوضى التي ستحدث عندما يقود القروي سيارته في المدينة في ظل نفس التراخي في تطبيق القانون من قبل رجال الشرطة،،، وما هذا المثال الا غيض من فيض . عندما تنهار القيم المجتمعية الاساسية في المجتمع وتستمر الحروب والكوارث المتلاحقة مع هجرة واسعة لصفوة الطبقة المثقفة المتعلمة،، من سيعبأ حقا بتطبيق أنظمة المرور او التمسك بجمالية العمارة في البناء ونظافة الشوارع والتفاني في تقديم الخدمات ؟
والسبب الثاني هو عدم دخول دول الخليج في احترابات سياسية داخلية أريق فيها دم غزير كما جرى في العراق ، وكذا الامر بالنسبة الى الحروب الخارجية . ويجب ان لا يغرب عن بالنا ان حكام دول الخليج ومنذ استقلالها في القرن الماضي كانوا مسالمين رؤوفين مع مواطنيهم كما وأنهم أدركوا مبكرا و منذالبداية انهم لكي ينقلوا بلدانهم من إطار القبيلة البدوية الى رحاب المدينة العصرية عليهم ان يستعينوا بالخبرات الأوروبية وعدم اعتبار ان ذلك هو من باب تسليم البلد للاستعمار.. وتوافقا مع ذلك الامر لم يقم مواطني دول الخليج بالزعيق ورفع الشعارات الثورية الفارغة والمطالبة برحيل الأجانب . لقد تناغمت عندهم رغبة أمرائهم وشيوخهم في الانتقال الى الحداثة مع قناعة ورضا البدوي البسيط بان شيخ قبيلته هو ادرى منه في إدارة شؤون الدولة سيما وان هذا الشيخ او الامير كان يغدق عليه شيئا من البركة التي هبطت من السماء ممثلة بالنفط الذي تفجر في باطن ارضهم . ان التطور المذهل في الشخصية البدوية الخليجية كان يمكن ان يصل الى مستويات ابعد بكثير مما نراه اليوم لولا بروز و تغلغل التيار الديني السلفي اثناء و بعد الثمانينات نتيجة غزو أفغانستان من قبل السوفييت ومحاولة هذا التيار المتطرف ان يضغط على فرامل التطور الاجتماعي في المنطقة ككل ومنها دول الخليج .
وعلى النقيض من ذلك كان عميد السياسة العراقية في الأربعينات والخمسينات المرحوم نوري السعيد ورفاقه يجتهدون في خلق تنمية حقيقية بموارد بسيطة ونجحوا في ذلك أيما نجاح، وما أسبوع الأعمار والمشاريع التي نفذت فيه كسد دربندخان ومعمل السكر في الموصل وجسر الأئمة في بغداد وغيرها الا دليل على ذلك … ومع ذلك كانت الحركات السياسية المناوئة تصف نوري السعيد بأبشع النعوت وتتهم النظام الملكي بالعمالة لبريطانيا والغرب . أعتقد جازما ان من خرج آنذاك بمظاهرات معادية للملكية وبقي حيا الى يوما هذا، يعض الان بنان الندم على ذلك،، كما انني أتخيل الان شبح نوري السعيد يبتسم من فوق ابتسامة رثاء واسى ويردد المثل العراقي ” ما تعرف خيري الا لمن تجرب غيري” . لقد كان العراق آنذاك عراقا موحدا من فيشخابور الى ام قصر ومن زرباطية الى الرطبة،،، فواأسفاه.
اما السبب الثالث فهو الاستقطاب الطائفي في العراق ولاسيما بعد عام ٢٠٠٣ حين أطل بوجهه سافرا بدون رتوش ثم أجهز على ما تبقى من وشائج التماسك المجتمعي وأخذت احياء العاصمة بغداد مثلا بالتلون بالصبغة الطائفية مما ولّد المزيد من التقوقع داخل احياء معينة ،، وكل ذلك بالطبع ليس من مزايا المدن العصرية او الانسان المتحضر . ان الطائفية تقف حائلا امام التقدم الفكري للإنسان المعاصر وتصيبه بازدواجية مخيفة في التعامل مع أبناء الطائفة الاخرى بحيث ترى احدهم وهو شبه ملحد ينتفض غضباً اذا ما دار أمامه حديث يعتقد ان فيه مساسا بالمرتكز الفقهي لطائفته . لقد نجت دول الخليج من أفة الطائفية لحد الان مع بعض الاستثناءات البسيطة هنا وهناك وهذا ماسهل على الشخصية البدوية الخليجية ان تخطو بثقة اكثر نحو الحياة المدنية المتحضرة.
والسبب الرابع هو الفسيفساء العراقي المعقد وازدحام رقعة جغرافية صغيرة نسبيا كالعراق بهذا الكم الكبير من القوميات والمعتقدات الدينية والمذهبية كالعرب، سنة وشيعة، والأكراد والمسيحيين والأرمن والتركمان والفيلية والايزيدية والشبك والصابئة . ومع ذلك كانت كل هذه المكونات كالانواع المختلفة من الطحين الذي يختمر سوية على يد الخباز الماهر فينتج خبزا عراقيا شهيا واستمر كذلك لسنين وعقود الى ان سرق اللصوص حطب التنور فتفككت العجينة وجيران المخبز يتغامزون ويتهامسون !!!
للتواصل مع الكاتب يرجى الكتابة على البريد الالكتروني
[email protected]