أوبرا الاتان هي مجموعة قصصية صدرت مؤخرا للقاص العراقي سامي المطيري . قد يكون العنوان مضللا او عشوائيا ، وقد يكون مختارا بعناية ، هو في المجموعة يشير الى القصة الثانية فيها ، والعنوان هو باب الدخول الى المجموعة ، وقد وجدته مدلا ، لإيصال ما يريده القاص . في هذه المجموعة تقف سيمياء العنوان ممهدة الطريق الى السرد ، الذي بدا في جميع قصص المجموعة سلسا ذا لغة سردية معبرة ، حاول فيها القاص الفصل بين زمن الحكي وزمن الخطاب ، هذا الفصل هو عنوان نجاح السرد في أية محاولة قصصية .. التناقض بين (اوبرا) وهي لفظ حديث يحيل الى عدد من المواءمات ، منها الموسيقى ، الغناء ، الحوار ، وبين الاتان ، يشير الى تحقيق مستوى ما من الدهشة في العنوان ، لكن هذا المدهش الذي يقوم على التنافر ، لا يكون في الاخير الا منسجما ومتوافقا مع طبيعة القصص ورموزها ..
والقاص سامي المطيري ، الذي عرفته منذ السبعينات من القرن الماضي ، قاص ملئ بالرموز ، يعمل بمثابرة وحرفية فنية الى احداث ردود افعال مفاجئة لدى قارئ قصصه ، وهو من اجل ان لا يجعل الغرابة وبعض الفنتازيا تطيح بقصصه وتعمي غابة الرموز لديه ، يمسك بوعي القارئ ، حين يعتمد على الحدث البسيط المشهور ، وعلى المكان المعروف ، لكي يمضي في سلسلة رموزه السردية الى اقصاها ، وهو في ذلك يعتلي الامثولات العراقية المغرقة في سخريتها ، وفي طرافتها ، او في منزعها الخرافي ايضا (متعجب خالقله بعيره) ، تلخيص للفضاء العراقي المفعم بالتمرد ، جاءت هذه الامثولة في قصته الاولى (المواءمات) لكي تشير الى اللا تواؤم .. فمن عمق التاريخ القريب ، يأخذ السرد فاعليته ، ومن عمق محنة الحكي العراقي ، تتحدد ملامح المحنة الاولى منذ الصراع مع الانكليز ، الذي ما عرف العراقيون كيف يتعاملون معه ، الى الصراعات التي انتجت محنا يضيق بها فضاء العراق الواسع .
نعرف ان (العمارة) هذه المدينة الغافية على دجلة منذ دهور ، هي من صدحت بمواءمات القاص ، ولكن ليس في بعدها المكاني ، او الاسطوري او الخيالي ولكن ببعدها الواقعي ، لقد استطاع القاص ان يصهر هذه الابعاد ، وبحرفة سردية عالية ، لا ليمتع قارئه فقط ، بل ليبقي ذاكرته متقده ، متيقظه بأن العمارة هي موئل
يتكرر جنوبا ليتجه غربا وشمالا ، حين ذاك لم يفهم القادمون من مكان بعيد ، سر هذه الاماكن المسكونة بالمجهول ، يقول القاص : قال الرجل اللائذ في الظل ، الهارب من الق الشمس ، ذو الوجه الاحمر ، الذي يشبه رقبة دجاجة هراتيه ، تكلم بعد ان اعتلى دكه اسمنتيه في باحة المستشفى غرب المدينة : لم اكن ملما بتعاويذ جداتكم المتوحمات بالنواح ، أنى لكم ان تروا تباريح الغد المشرق ، قالها بانفعال وانسحب متسللا من شق في الجدار المرخم يسبقه عطره الملائكي :
* ماذا يقصد ؟
* لا ندري
وتفرقنا نحن ابناء المدينة القادمين من الدبيسات ، او النورات ، او الماجدية ، والقادرية ، من سلالة (ماياشكان) .
الترميز السردي وان كان يغمض الحكاية احيانا ، لكنه يجملها ، يدفع السرد نحو التجلي (ففي قصة اوبرا الاتان) وهي وان قامت على طرائف هذا الحيوان المبتلي بسخرية البشر ، يوصل القاص الاتان باصل الانواع الداروينية ، ثم ينقل تصريفات اللفظ : حمير ، احمرة ، حمور ، حمران ، ومثله الحمار الوحشي ، هذا ما تقوله المعاجم فهو يعود الى المنجد ، لكي يستمد كل السلسلة ، ولكن لماذا التفرع والحمار واحد هو واتانه ، انه فقط لتأكيد الصلة الوثيقة بينه وبين مواسم الانسان .. قحطه ، نماؤه ، حياته ، موته ، لعل الحمار من اكثر ما يمثل نقطة الضوء في عتمة الليل الانساني ، لان وداعته تقول بانه ابيض اللون ذو حلقات ، هذا ما تقوله المعاجم ، وتضيف انه وحشي ، وتكون لغة القاص مدلة في هذا الجو السردي المفعم بالتساؤل يقول : سأغرس واحة من الدغل في جلدي ، تسقى بامصال سمادها البكتيريا وحبيبات من رئويات دمي ، قطوفها الاميبا والثعابين المعوية ، وانصب نفسي اميرا للاراضي البور ، والسعي لإيجاد مستثمرين للحشائش الميته ، سأزرعها حصى ميكافيلي الناعمة ، وما على الاخرين الا ان يشحذوا مناجلهم ليحصدوا القمح . ثم يقول وجدت نفسي في متنزه الزوراء عاملا بأجر يومي ، مسلوب الارادة ، الم ازبال غربتي قبالة صالات اللبائن الحبيسة ، باقفاصها المقضبنة .
ان لغة القاص في جملتها الصادمة ، وانتقالاتها من حيز الى اخر ، ثم في اختيار المفردة لكي تجمع عوالم متعددة ، في عالم واحد ، تلخص النهج الاسلوبي الابداعي للقاص ، وتجعله يمسك باللحظة السردية ، فحديقة الزوراء ذات معنى خاص ، وفيها اقفاص اللبائن ، لكن ما حيلتي انا ، المشتغل بالاجور اليومية في هذا الجو الملئ بأنفاس الاتان واقرانه ، المأسورين . هنا المعادل بيني انا المتلبس
ببطالتي الدائمة والاخر الذي يريدني ان اكون اجيرا ، ولا بأس فان الامر يتعدى ذلك الينا جميعا ، نحن الذين نجاور الاقفاص ، لا المليئة بالحيوانات بل المليئة بنا بأنفسنا ، ثم ليأتي خلاص الاتان المأساوي ، حين يزف زفافه الاسطوري الى غابة الوحوش ، لكي تصادر ما تبقى له وهو جسد ذابل متغضن .. اذا هي اوبرا الحوار في جو مأساوي يمكن منه اجتراح ما تنجبه القراءة . لعل قصصه الاخرى في المجموعة تسبق القارئ لتقدم خلاصتها ، واقصد بذلك قصص ملوك الغبار ، ورؤيا الدير ، التي تذكر (بالحيرة البيضاء) التي وردت في الشعر الجاهلي ، وهي اديرة متجمعة تغلب عليها الصبغة البيضاء ، وهو توظيف جميل للتاريخ الحي في العراق القديم ، اما قصة (قيامة) فهي تتوسل بالتقارب بين الشعر والسرد وبينهما تنمو الخرافة العراقية الاصيلة (عابس وحوله اتباعه ، حفاة الا من رفيف حزم الاوراق وسجلات ضخمة كسعاة بريد القرون الوسطى ، كل شئ مدون في قرطاس الجبين . واذا تتبعنا ماهو مدون في ذاكرة سرد سامي المطيري لاتعبنا ذلك السرد ، من الذين رحلوا .. اصدقاؤنا الرائعون ، الى الذين سيرحلون ، ثم ليضع يده على جوهر (المقدس) الذي امتلأنا به حتى اختنقنا ، ليقول (الان اصبح للشجرة قيم اعرج ، بنصف عمامة وحارس اهبل ، يحمي المكان) ، هذا ما وسعنا استحضاره من هذه المجموعة المهمة المبهجة ، لقاص اخلص في فنه واحبه واستلهم معطياته ، ففتح الفن اسراره , وابقاه قريبا .