لم يبق إلاّ بضعة أسابيع على المعركة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، حيث يتبارى فيها الرئيس الحالي من الحزب الديمقراطي باراك أوباما وينافسه من الحزب الجمهوري ميت رومني . ولاتزال أجهزة قياس الرأي العام والمؤسسات الإعلامية مستغرقة في تقليب الاحتمالات والأرقام من خلال المؤشرات والدلالات، للبرامج والسياسات، لكنّ الوقت مازال مبكراً لمعرفة وجهة الناخبين الأمريكان وتوقيت الساعة الانتخابية وكيف سيتحرّك رقّاصها، حيث لم تبدأ المعركة الانتخابية الحقيقية بعد؟
لم ينزل المتبارون إلى الساحات الرئيسة للمواجهة، على الرغم من المهرجانات والتجمّعات والاحتفالات التي أخذت طريقها إلى التنظيم في العديد من الولايات الأمريكية، لحشد وتعبئة الناخبين، لا سيّما التائهين أو الذين لم يقرّروا وجهتهم بعد، ومن سينتخبون، وهؤلاء يمثلون “منطقة الوسط”، التي تبدو الحاسمة أحياناً، ففي العديد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تتم المنافسة الحقيقية على هذا القطاع الذي يعده بعض خبراء الانتخابات والسياسة الأمريكية لا يتجاوز ال 5% أو أكثر قليلاً، وهو الذي يقرر التصويت في اللحظات الأخيرة، مرجّحاً هذا الرئيس أو منافسه .
وتعتمد الانتخابات في الكثير من الأحيان على المنافسة والمباراة والبراعة التي يتقدّم بها المرشحان المتنافسان، وإضافة إلى هذه العوامل فثمة مقدار مهم لمدى قدرتهما على التقاط بندولية الشارع وتوجهاته، وتحريك عواطفه واندفاعه صوب هذا البرنامج أو ذاك، باختيار ما يعبّر عن طموحه أو ما يدغدغ بعض ما يحلم به أحياناً، من خلال ضخّ إعلامي هائل .
وحسبما يبدو وما هو راشح من أخبار وتعليقات، ستكون المعركة حامية الوطيس، بل وشرسة، حيث يحاول زعماء جناح الصقور في الحزب الجمهوري، التعبير بوضوح عن توجهاتهم، بل وبعض خططهم، ولا سيّما في ال 100 يوم الأولى، فيما إذا وصل ميت رومني إلى البيت الأبيض، خصوصاً في ميدان السياسة الداخلية، ولا سيّما بشأن القطاعين الصحي والتعليمي وغيرهما، حيث يرى الحزب الجمهوري، أن إجراءات حكومة أوباما بشأنهما أسهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية والمالية التي ضربت العالم، وبشكل خاص ما تركته من تأثيرات خطرة على الولايات المتحدة واقتصادها ومستقبلها ونفوذها الدولي .
ولهذا فإن الحزب الجمهوري يتحرك للضغط باتجاهين: الأول ضد برنامج الرعاية الاجتماعية، لاسيما الصحية، الذي يعدّ أهم مكتسبات الرئيس أوباما، ويحاول التيار المحافظ في الحزب الجمهوري، العمل على إلغائه حيث كان نقطة جذب وشدّ قوية لكثير من الفئات المتضررة والمنتفعة منه على حد سواء . والثاني يتعلق بإعادة النظر بموضوع الضرائب التصاعدية التي فرضها الرئيس أوباما على الأغنياء، في محاولة منه لتعديل ميزان الضرائب الاجتماعي، آخذاً في الحسبان مصالح الشرائح الطبقية الأكثر فقراً، خصوصاً الفئات الضعيفة وأصحاب الدخل المحدود، بل إن هناك ملايين عدة يُعَدّون تحت خطّ الفقر، الأمر الذي حاول به أوباما والحزب الديمقراطي كسب هذه الفئات من السكان، في حين أن الحزب الجمهوري يعمل للتخفيف من الضغوط التي تعرّضت لها الرأسمالية الأمريكية، وبشكل خاص فئاتها العليا حيث فرضت عليها الضرائب التصاعدية، داعياً إلى إعادة النظر بتلك الإجراءات .
المسألتان تشكّلان محورين لمعركتين فاصلتين، لاسيما أن كلتيهما وبشكل خاص موضوع الضرائب، له علاقة بتخفيض النفقات الحربية، حيث ينصبّ اتهام الجمهوريين للرئيس أوباما على تخفيضه النفقات الدفاعية بنحو 500 مليار دولار، وهو خفض يمتد لمدّة عشر سنوات اعتباراً من العام المقبل 2013 وبمعدّل 50 ملياراً سنوياً . ويرون أن سياسة أوباما تهاونت في موقعين رئيسين: الاضطرار إلى الانسحاب من العراق وعدم الحزم إزاء الملف النووي الإيراني، وهم يوجهون انتقادات شديدة إلى سياسته، لاسيما من جانب الجماعات الموالية ل”إسرائيل” واللوبي الصهيوني، ومن طرف المجمّع الحربي – الصناعي!
ويحاول الجمهوريون لفت الانتباه أيضاً إلى المشكلات الخارجية، رابطين إياها بالنهج العام لسياسة أوباما داخلياً وخارجياً، وهم يركّزون على المديونية وعجز الموازنة العامة ونقد الإجراءات بخصوص نظام الضمان الصحي، وصولاً إلى إعادة تسخين الحرب الباردة مع روسيا العدو التقليدي، كما جاء في خطاب رومني في وارسو، ومروراً بالتصدي لمحاولات الرئيس الروسي بوتين العودة بالدب القطبي ليلعب دور الاتحاد السوفييتي القديم، وإن كان الأمر بعيداً عن الاعتبار الأيديولوجي، ولكن المصالح هي ذاتها، سواء اختلفت روسيا مع الصين كما في السابق أو اتفقت معها كما تحاول اليوم، وظهر الأمر جلياً بالتنسيق في مواقفهما بشأن الأزمة السورية في مجلس الأمن وخارجه .
ولكي تظهر واشنطن سطوتها حسب الحزب الجمهوري، فإن سياسته ستقوم على تشجيع الحصول على عقود تسليح وعقود تجارية، خصوصاً للسلع والبضائع التي تحدث فوارق في ميزان المدفوعات والموازين التجارية، مثل الطائرات غير الحربية (التجارية) وتكنولوجيا محطات الطاقة وتوليدها واستخدام الألواح الشمسية وغير ذلك .
أما بصدد الموقف من “إسرائيل” فإنه يمكن القول بغض النظر عن التفاوت بين أوباما ورومني بشأن دعم “إسرائيل” وتشجيعها على المضي في مشروعها، لاسيما بخصوص القدس “العاصمة الموحدة والأبدية”، فيمكن اعتباره موقفاً أمريكياً، إلاّ أنه يلتقي في نهاية المطاف عند ثوابت محدّدة، قوامها حماية “إسرائيل” والدعوة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وفقاً لمشروع الدولتين الذي سبق أن طرحه الرئيس الأمريكي كلينتون وتبنّاه الرئيس جورج بوش الابن في السنتين الأخيرتين من الدورة الثانية لرئاسته، والذي استمر على حاله في رئاسة أوباما .
وسواء فاز أوباما أو رومني، فالمشروع بخطوطه العامة سيبقى يراوح في مكانه طالما تستمر “إسرائيل” في مواقفها المتعنتة إزاء القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة قابلة للبقاء والعيش، ورفضها حل مشكلة اللاجئين وحقهم في العودة والتعويض، وامتناعها عن هدم جدار الفصل العنصري وعدم قبول ترسيم الحدود والعودة إلى حدود العام 1967 بما فيها القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية، وعدم التوّقف عن بناء المستوطنات أو تفكيكها .
وتلك مطالب تمثّل الحد الأدنى وهي جميعها تقريباً، إضافة إلى قضايا أخرى، تندرج في إطار ما يسمى بالشرعية الدولية، لاسيما القرار 181 لعام 1947 المعروف بقرار التقسيم، إضافة إلى قرارات مجلس الأمن 242 لعام 1967 و338 لعام 1973 والقرار 425 بخصوص لبنان والقرار الخاص بعدم شرعية ضم القدس من جانب الكنيست “الإسرائيلي” لعام 1980 والقرار الخاص بعدم شرعية ضم الجولان لعام 1981 وغيرها من القرارات .
ولهذا فإن فوز أوباما أو رومني سوف لا يغيّر كثيراً من الموقف الأمريكي إزاء القضية الفلسطينية، وسيلعب كل منهما الدور المطلوب من جانب اللوبي الصهيوني الذي سيكون عاملاً مهماً في وصوله إلى سدة الرئاسة، خصوصاً أن هذه المرحلة تتطلب الضغط على مصر لكي تستمر سياساتها بشأن اتفاقيات كامب ديفيد مع “إسرائيل” 1978-،1979 وكي لا تتحول موجة الربيع العربي إلى عامل ضغط شعبي لإلغائها أو تعديلها، ولهذا سارعت قيادة أوباما إلى إقامة علاقات مع الحكم الجديد في مصر وتونس وليبيا واليمن، واستمرت تلوّح بالقروض الأمريكية لمصر، خصوصاً في هذا الظرف بالذات حيث يعاني الاقتصاد المصري من تصدعات خطرة، بسبب الفساد المالي والإداري المزمنين، فضلاً عن نهب المال العام والفوضى التي أعقبت نجاح الثورة، وعن عمليات التخريب المعلنة وغير المعلنة .
وإذا كان اللوبي الصهيوني فاعلاً، فللأسف الشديد، هناك غياب لأي لوبي عربي، كما أن البلدان العربية بما تملكه من إمكانات هائلة مالية واقتصادية وموارد طبيعية وسيولة نقدية، مجتمعة أو منفردة، لم تلعب الدور الذي يمكن أن يؤثر لمصلحة القضايا العربية ومنها القضية الفلسطينية، والأمر ينسحب أيضاً على البلدان الإسلامية، حتى إذا ما واجهت إحداها مشكلة ما هرعت للبحث عن تضامن ودعم يكون وقته متأخراً أو غير مناسب . علينا معرفة بندول الساعة الانتخابية ومواقيت دقّها، لكي يتم التحرك بالاتجاه الصحيح دبلوماسياً وقانونياً واقتصادياً وسياسياً، وإلاّ فإن قضايانا ستستمر إلى ما لا نهاية من دون حسم ومن دون حلول، بل ستزداد تعقيداً وتراجعاً سواء بقي أوباما أو جاء رومني .