لمْ يحظَ مرشح مكلف برئاسة وزراء العراق منذ عام 2004 وحتى الآن بمثل ما حظي به الدكتور حيدر العبادي، ابن طبيب الأعصاب البغدادي المعروف، واذا كانت الامثال تضرب ولا تقاس، فإنه يبدو بحاجة الى خبرة والده في جراحة الدماغ المعقدة لرسم خطواته الواثقة نحو تشكيل حكومة اجماع وطني على مشروع إعادة بناء الدولة لتعمير ما سبق وان خربته تطبيقات المحاصصة الطائفية والقومية التي تجذرت خلال عهدي رئيس الوزراء المنقضية ولايته نوري المالكي..
السؤال المطروح بقوة على مواقع التواصل الاجتماعي يدور حول الآليات التي يمكن ان يبتدعها العبادي في هذا السياق، وجميع الرسائل القصيرة التي بعثت على هذه الصفحات تتحدث عن ضرورة الاجماع الوطني والاخذ بناصية الكفاءات وفرز العناصر الخبيثة التي دخلت جسم الدولة من خلال المحاصصة او من خلال المحسوبية العائلية والحزبية، والصحيح عندي ان اخراج هذا الكم الهائل من عديمي الكفاءة الذين عرفوا بالإفساد والفساد لأمر صعب ويحتاج الى دراية ومعرفة وثقة تتطلب نوعا من الاجماع الوطني الذي لا يتوفر بسهولة الا من خلال مساومات كبيرة، تفرز هذا النوع من الاجماع الوطني.
المثير للجدل في كل تشكيل وزاري جديد، تغليب الكتل البرلمانية المصالح الحزبية على مصلحة الناخبين، واغفال حقيقة ان النظام البرلماني يعني تمثيل الشعب وليس الأحزاب، اليوم يظهر من جديد هذا النمط من التجاوز على المصلحة العامة بما يثبت ان نظرية الاواني المستطرقة هي من تتحكم بالعملية السياسية وليس المصلحة العامة للشعب ككل، بما يجعل مكتب رئيس الوزراء المكلف يسرب خبرا بأنه يفضل الغاء التكليف وكشف محصلة مفاوضاته مع الكتل البرلمانية على الإعلان عن حكومة تحمل بذور الخلافات مرة أخرى وإعادة الكرة الى مجلس النواب لحسم هذه الخلافات.
القراءة الإعلامية الموضوعية لهذا «التصريح» الإعلامي تؤكد ان الحالة الانتقالية ما زالت قائمة في بلد يراد له ان يستجمع قواه الاجتماعية لمحاربة غول الإرهاب تحت ضغوط دولية متفاقمة من جانب، وضياع اكثر من ثلث «الوطن» بيد ما يعرف اليوم بدولة العراق والشام الإسلامية.
فالحديث عن وثيقة العهد الوطني التي أجمعت مطالب هذه الكتل في برنامج حكومة العبادي الموضوع وفق توقيتات للتنفيذ من جانب، والموثقة عند المحكمة الاتحادية وبعثة يونامي الممثلة للأمم المتحدة من جانب آخر، لم تحقق ذلك الاشباع للنزوات الحزبية، بل عادت من جديد الى نموذج المحاصصة باعتبار ان حق الترشيح للحقائب الوزارية مكفول لقيادات هذه الأحزاب حتى وان كان مرشحوها لا نتطبق عليهم المواصفات التي أعلنها العبادي.
ويبدو ان التلاسن بين قيادات الأحزاب يدور على خلفية تمسك بعض قيادات التحالف الوطني الشيعي بهذه المحاصصة لاسيما قيادات دولة القانون التي ترى ان لها الأكثرية البرلمانية التي بإمكانها القفز على نموذج حكومة الاجماع الوطني والعودة بها الى نموذج الأغلبية البرلمانية التي لا ترضي بقية الأطراف، لكنها تعيد سيطرة دولة القانون على الحكومة الجديدة.
هذا التنازع ما بين دولة القانون وبقية الكتل البرلمانية هو ما جعل مكتب العبادي ينشر خبره المسرب بأنه على استعداد لرفض التكليف في حالة إصرار بقية الكتل على عدم الاستجابة لمواصفاته في المرشحين، فضلا عن رفض كتلة اتحاد القوى العراقية السنية عدم تسمية وزراء جدد للحقائب التي خصصت لهم، وتكرار ترشيح ذات الوزراء في حكومة المالكي السابقة لمناصب جديدة في حكومة العبادي، ناهيك عن رغبة التحالف الكردستاني بذات الشيء باعتبار ان الجميع يرشح الوزراء القدامى لمناصب جديدة فتأتي حكومة العبادي بذات الوجوه القديمة لكن بحقائب جديدة.. فما حدا مما بدا؟
ويؤشر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ابرز التغيرات ما بين حكومتي رئيس الوزراء السباق نوري المالكي وحكومة العبادي المنتظرة في:
* اتصال محدود بإيران: على عكس المالكي وغيره من كبار المعارضين في «حزب الدعوة»، قضى حيدر العبادي عقوداً في المنفى في المملكة المتحدة بشكل حصري تقريباً وليس في إيران أو سوريا أو لبنان. ففي الوقت الذي هرب فيه العديد من المعارضين الشيعة إلى إيران في أوائل الثمانينيات، توجه العبادي مباشرة إلى بريطانيا في عام 1977. ويُقال إن علاقاته مع إيران محدودة جداً، وإنه لم يزر الجمهورية الإسلامية في السنوات التي تلت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.
* الانفتاح على السنّة: على الرغم من أن العبادي قد فقد شقيقين له على يد نظام صدام حسين، إلا أنه أظهر انفتاحاً نسبياً تجاه السنّة في العراق. فبعد التفافه حول الجوانب الأشد صعوبة من السياسة المعارضة، يتمتع الآن بنظرة أقل صرامة وقسوة من تلك التي مثّلها نوري المالكي. وبالإضافة إلى ذلك، لدى العبادي أرضية أيديولوجية مشتركة مع العديد من القوميين العرب السنّة كما أنه يفهم أيضاً مستويات التسامح الشيعي والكردي حول إعادة تأهيل البعثيين السابقين.
* تركيز أوسع يتخطى الجانب الأمني: قضى حيدر العبادي أكثر من عشرين عاماً في القطاع الخاص في بريطانيا أدار خلالها مشاريع استشارية وهندسية ناجحة. لذا فهو مهتم عملياً بكل جانب من جوانب التنمية الاقتصادية والبشرية في العراق ولكنه لا يتمتع بسجل طويل في مجال الأمن. وهذا يجعله نقيضاً للمالكي الذي لم يكن مهتماً بمعظم جوانب الحكومة وركز الكثير من وقته بقصر نظر على الشؤون الأمنية. وفي ظل حكم العبادي سيتحول موضوع الأمن من عمل فردي إلى جهد جماعي، مع كل ما يحمله ذلك من الإيجابيات والسلبيات.
* متحدث طلق بالإنكليزية: مرت ثماني سنوات منذ أن قاد العراق رئيس وزراء قادر على التحدث باللغة الإنكليزية. فقد تمتع رئيس الوزراء السابق المالكي بقدرة خاصة باللغة العربية تجلّت من خلال كلماته، وكان مشهوراً بحبه للمحادثة. وبالتالي فإن حاجز اللغة قد أبعده عن القادة الأمريكيين وجعله غامضاً بشكل شخصي، ولن يكون حيدر العبادي أبداً كذلك. وقد يتزعم العراق الآن رئيس وزراء قادر على تكوين علاقات مع كبار القادة في الولايات المتحدة والعالم.
ويرى مايكل نايتس الخبير في المعهد في دراسته تحت عنوان «مساعدة رئيس الوزراء العراقي القادم على اغتنام الفرصة» ان اولويات انخراط الولايات المتحدة انه نظراً لاحتمال المصادقة على تعيين حيدر العبادي، يتعيّن على الولايات المتحدة الشروع معه بأعمال دبلوماسية تحضيرية قدر المستطاع. من هنا، لا بد من إطلاق مبادرات ملموسة للإشارة إلى النية الحسنة للحكومة التي يقودها الشيعة تجاه الأكراد والعرب السنة باتجاه بناء حكومة جديدة من خلال مساعدته على ان يصبح رئيساً للوزراء، لذا قد يساعد دعمه في الوقت الراهن على تجنب الزلّات السياسية، ويطرح مثالا على ذلك بدعم سرعة تشكيل حكومته دون ان تستغرق وقتا طويلا سيسمح لـ»الدولة الإسلامية» بتوطيد قبضتها على شمال العراق. وحتى لو تمت المصادقة على تعيينه بسرعة، فإن الحكومة الجديدة ستكون متصدعة وتعاني من عيوب قد تؤدي إلى إضعاف أدائها أو انهيارها في وقت لاحق. لذا، يجب على الولايات المتحدة مساعدة العبادي على اغتنام هذه الفرصة والعمل بسرعة على بناء حكومة في إطار روح من الجهود الوطنية ضد «داعش».
وينصح نايتس إدارة الرئيس ابارك أوباما بدعم ما يصفه بـ»الإصلاح الأمني» علناً لإعادة تنظيم القطاع الأمني في العراق بغية منح الأطراف المحلية الأولوية في التوظيف والسيطرة العملياتية لقوات الأمن، مع توفير الحكومة الاتحادية للموارد المالية والدعم عند الحاجة، إن هذه المعادلة التي تقوم على إبقاء الجيش العراقي إلى حد كبير خارج المجتمعات العربية السنّية تشكل أفضل فرصة لدحر تنظيم «الدولة الإسلامية» كما تفسح المجال للحصول على دعم عراقي من الحكومة الاتحادية فضلاً عن دعم دولي أوسع لقوات «حكومة إقليم كردستان».
ويضيف نايتس في دراسته «ينبغي تشجيع العبادي على الاستفادة من الدروس السابقة حول الإصلاح الأمني من السنوات الأخيرة للوجود العسكري الأمريكي في العراق. على سبيل المثال، يمكنه دعم إعادة هيكلة القيادة العسكرية على المستوى الرفيع والمتوسط بناءً على الجدارة، فضلاً عن دمج السنّة في الهياكل الأمنية المحلية».
وفي ذات السياق، يتطلب من العبادي العمل على ما يصفه الباحث الأميركي بـ»الإصلاح القضائي» بقوله «ستستغرق مختلف الإصلاحات القضائية والأمنية التي طالب بها السنّة وقتاً لتنفيذها، لذا يجدر بالعبادي أن يبعث برسائل مبكرة تشير إلى أن حكومته ستتبع نهجاً مختلفاً عن ذلك الذي اتبعته بغداد سابقاً من حيث الاستهداف السياسي لهذه الفئة».
مشيرا الى ان «المثال الأفظع عن هذه السياسة هو توجيه تُهم الإرهاب إلى وزير المالية السني رافع العيساوي في كانون الأول 2012».
منوها الى اعتراض الولايات المتحدة علناً في ذلك الوقت على تلك الاتهامات وينبغي عليها القيام بذلك مرة أخرى. فإلى جانب كونه أحد السياسيين السنّة الأكثر شعبية في العراق وضحية رمزية لحكومة نوري المالكي، يلقى العيساوي دعماً قوياً من تركيا والأردن ودول الخليج العربي. وبالتالي، من خلال رفع التهم الموجهة إليه وإعادته إلى منصب وزاري بارز، ستبعث بغداد برسالة هامة إلى السنّة في العراق وأماكن أخرى. وبدوره، يمكن أن يساعد ذلك على إعادة بناء ثقة السنّة بالحكومة وتعزيز مشاركتهم في الحرب ضد داعش.
كل ما تقدم في دراسة معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تؤكد على مطالب تجسير الثقة بين العرب السنة وحكومة العبادي المرتقبة، لا اعتقد بان أي مرشح لرئاسة الوزراء العبادي او سواه بقادر على الاتيان بالكثير من الإنجازات المطلوبة، لكن المهم ان العبادي لم يكثر من الوعود بالقدر الذي دعا فيه الجميع الى فتح صفحة جديدة بأيدٍ ممدودة نحو العمل الصحيح من اجل العراق الجديد، ويأتي تصريح الدكتور إبراهيم بحر العلوم، القيادي في التحالف الوطني، بان ترشيح العبادي إعادة دورة الزمن السياسي الى ما قبل احداث العاشر من حزيران حينما سقطت الموصل بيد الدواعش، بما يؤكد ان فرضيات صحيحة اخذت مجراها كمدخلات مناسبة بانتظار التوافق السياسي حول مخرجات دستورية ربما تكون الكابينة الوزارية المقبلة الأكثر قدرة على الإيفاء بها امام جمهور الناخبين.
كل ما تقدم يبقى بحاجة الى تلك اللمسات الشفافة والدراية السياسية والحنكة في الإدارة، بما يؤهل المكلف برئاسة الوزراء لإنجاز ما ينتظره من الشعب، فهل سيكون قادرا على تلبية الكثير من المطالب الشعبية باستعادة المناطق المغتصبة من الدواعش؟ وهل بإمكانه حل الخلافات مع حكومة إقليم كردستان؟ وهل سيكون قادرا على رسم خارطة طريق للوحة الوطنية وحل مطالب ساحات الاعتصام في المحافظات المنتفضة ضد سياسات حكومة المالكي؟ ربما تكون هناك تطبيقات وسطى يأتي بها العبادي عبر حكومته المنتظرة تكون اقرب الى الفدرلة لصلاحيات المحافظات غير المرتبطة بإقليم والانتهاء من قوانين فيدرالية مهمة لعل قانون النفط والغاز ومجلس الاتحاد والمحكمة الاتحادية في اولوياتها، وهي ذات المنطلقات التي حثت المرجعية الدينية في خطب الجمعة مجلس النواب العراقي على تسريع تشريعها، الجميع بالانتظار عسى ولعل ان يكون المقبل خيرا.
*[email protected]