17 نوفمبر، 2024 12:24 م
Search
Close this search box.

أه يا نهر خريسان

أه يا نهر خريسان

(فصل من رواية قد تجد لها طريقا للنشر)
سكن الليل وخلا المكان الاّ من بقايا مقهى اُغلقت أبوابه قبل قليل، مبقية على بضعة ارآئك مترامية، متباعدة، أخذت من نهر خريسان المقابل مستقراً ووجهة لها، لم يلحق ولم يستطع صاحبها جمع كل ألوان العبث التي أحدثها رواده. بساطة المكان وعفويته ربما كانا عاملين مساعدين ودافعين كذلك لقضاء ماتبقى من يومهم، بعد فترة عمل مضني لشغيلة أو موظفين صغار، وجدوا ضالتهم في هذا المكان القريب والذي يسمونه بإسم حيّهم. يشعرون بالطمأنينة حين يتبادولون الاحاديث وآخر المستجدات وخاصة السياسية منها، وبحرية تامة ومن غير رقيب أو حسيب. أحياناً بل في أكثر الاحيان يكررون ذات الأحاديث كل يوم، ولكن بصيغ وأشكال مختلفة، تريح متحدثها وتشعره بالفخر وبالقليل من الغرور، وخاصة حينما ينصت الأخرون اليه أو هذا ما يوحى له.
هنا في هذا المكان وفي هذا المقهى تحديدا، اعتاد حميد الخياط أن يقضي أوقاته الملاح بعد منتصف الليل، حيث يتجه صوبها ومن معه، وحديث العشق وقصائد ابن الفارض تكون حاضرة اينما حلَّ وارتحل. صاحب الذكر، كثيرا ماترميه الذاكرة الى تلك الليالي الجميلة واُماسي الشعر. ما ميَّز حميد الخياط عن سواه في مرحلة الفتينة من العمر هي نظارة طلعته وبمواهبه المتعددة، حتى بدا واثقاً من المسك بالحاضر وبالمستقبل معاً.
قدرته على حلو الكلام دفعته الى الواجهة ليكون نقطة جذب واستقطاب وحَسدُ من قبل أبناء جيله. لم تمسّ حافظته من الشعر أي شوائب أو زحافات في الوزن والقافية، ولم تضعف قواه وملكاته في التذكر وفي إستحضار الماضي عوامل الدَّهر رغم توالي المحن، فتراه كمن إختص وأرتضى لنفسه أن يكون سيداً للقوافي، وكان حقاً أهلا لها ومن غير أن ينازعه أحداً من أصدقائه ومعارفه في ذلك.
وبعد أن يملأ الرأس بأقداح من المسرات وأحاديث الهوى، يبدأ وبتحريض وتشجيع من أصدقائه بقراءة بعض من خمريات أبو نؤاس، التي تطيب لها النفوس وتفتح شهية الجلاّس، بجمال القول وبترديد أعذب الشعر وأرقّهُ. ومن يستمع الى طريقة القاء حميد الخياط، يَظنّه قد قدِمَ تواً من ذلك الزمان، فيبدو كمن يتبارى مع كبار شعار القوم في سوق عكاظ أو المربد أو نحوهما. هكذا كانت جلسات الخياط حميد وهكذا استمرت معه وبقي محافظاً عليها حتى فترات لاحقة متأخرة، رغم خطوط الشيب التي تسللت وتوزعت بغير هدى على شعر رأسه، والتي يصفها بأنها زادته وقاراً على وقار.
في تلك الليلة التي احتفى بها وعلى نحو بهي بختان إبن شقيقته، أحسَّ أصدقائه بأن صاحبهم ربما صدمته حميّا الكأس مبكراً، أو فاض به الهمُّ، أو تراه ينام على جرح ظلَّ كاتما عليه لإعتبارات يجهلونها. ولربما شعر أيضاً بحيف وقع عليه ولا زال، لأسباب كثيرة وقد يكون من بينها غدر الزمان ومآلاته، على ما يسره للخاصة من أصدقائه. فمن كان يلتقيه وقبل بضعة سنين وقبل حدوث بعض المنعطفات في سيرة حياته، كان لابد له من أن يرسم مستقبلا زاهراً سيكون بإنتظاره بكل تأكيد، وشأنا لايدانيه شأن.
غير ان الخياط في ذلك اليوم أصرَّ وعلى غير العادة، وبما لا يتلائم وطباعه التي أعتاد الناس أن يرونه فيها، حيث خرج عن السياق الطبيعي لشخصيته، فراح يرقص ويغني ويلقي أعذب الشعر وفي مختلف ألوانه وأغراضه، مارّا بأفحل الشعراء وبأجمل المعلقات، غير أن مسحة الحزن والألم كانت ولمّا تزل تغطي سحنة وجهه، على الرغم من محاولاته المتكررة في سبيل تجاوز هذه الحالة، والتي رافقته بل لازمته طوال وقت السهرة.
لذلك غلب على أمسيتهم هذه جواً من النكد، غريباً وطارئاً عليهم، لم يكن لهم قد ألفوه من قبل، وليأتي على العكس من تلك الأماسي التي كانت تميز جلسلتهم. حاول البعض التفاعل مع تلك الإنفعالات التي طغت على سلوك وتصرفات حميد الخياط، وعلى قاعدة الإستجابة والمشاركة، في محاولة منهم على مقاسمته ما يحمله من هموم قدر المستطاع. غير انهم فشلوا في ثنيه عما هو ماض اليه، وفشلوا كذلك في وضع حد لتلك الاندفاعة المفاجئة وتلك النشوة التي أتت سريعاً وعلى غير ما عهدوه منه.
في كل الأحوال ورغم كل الأساليب والطرق التي اُتبعتْ معه، فإنهم لم يفلحوا في إستيعابه وفي إمتصاص الحالة التي يمر بها، وربما يعود ذلك الى صفة العناد التي طبعت شخصيته وخاصة أثناء تناوله الخمر. لذلك لم يخرج حميد الخياط مما يعاني منه الاّ بعد أن فسحوا له في المجال، أو لنقل الاّ بعد أن لبّوا رغبته الملحة في قراءة تلك اللازمة الشعرية التي عادة ما يختتم بها اُماسيهم. فكان له ما أراد وراح ينشد قصيدته المفضلة لإبن الفارض، والذي يُطلق عليه بسيد العاشقين، وبطريقة بدت للسامعين كما الذي ينوح على عزيز كان قد فقده من غير ميعاد وعلى حين غفلة، أو لِسرِّ لا يستطيع البوح به:
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرفِ
لم أقض حق هواك إن كنت الذي
لم أقض فيه أسى ومثلي من يفي
ما لي سوى روحي، وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
فلئن رضيت بها، فقد أسعفتني،
يا خيبة المسعى إذا لم تسعف
يا مانعي طيب المنام، ومانحي
ثوب السقام به ووجدي المتلف
عطفا على رمقي، وما أبقيت لي
من جسمي المضنى، وقلبي المدنف
فالوجد باق، والوصال مماطلي،
والصبر فان، واللقاء مسوفي

اختلط تهدّجه بلوعته حتى اكتمال القصيدة، ليزيل عنه ذلك التوتر والانفعال اللذان نزلا عليه وحلاّ به دون إرادته، ولأسباب ظلَّت مجهولة ومكتوم عليها، وربما سببت له حرجاً عظيما أمام أصدقائه، حتى وان كانوا من أقرب المقربين اليه ومن الذين ألفوا شطحاته في ساعات الخمر. لم يكن حميد الخياط راغبا في إهتزاز صورته، وهو المتماسك القادر على الثبات بوجه الكثير من المصائب والمصاعب، غير ان عاطفته غلبته.
تداخلَ ضوء القمر الذي أوشك على الرحيل بأنبلاج لحظات الفجر ألاولى. مضى حميد الخياط وحيداً الى غايته، ومضى الآخرون كذلك ليحملوا معهم سوء طالعهم على تلك السهرة غير المباركة، متهامسين فيما بينهم: هذا هو حميد الخياط وهذا بعض من شخصيته، فكما به من أسباب تدفع للمدح وهي الغالبة، فبه كذلك بعض من الزلل.
لذا ليس مستبعداً أن يلومه في اليوم التالي أحد أصدقائه ممن كان برفقته، عما حدث له في الليلة الفائتة، وما كان قد بدر منه من سوء تصرف. وقد يقول له آخر وفي لحظة من الصحو، انَّ ما حصل ليلة البارحة لهوَ أمر طبيعي، ولا غرابة في ذلك، فنحن كذلك خطاءون كباقي الخلق، وقد نكون أكثر تحسساً من غيرنا ونأنُّ لجراح ليست جراحنا، وربما تكون أكتافنا قد حُمِّلتْ ما لم يستطع على حمله غيرنا.

أحدث المقالات