يغفل الكثير من المفكرين والباحثين دور الكراسي في السلوك الإجتماعي والسياسي وفي مسيرة الصراعات البشرية , ويتوهمون بالشعارات المضللة التي تطرحها الكراسي من أجل تحقيق غاياتها وطموحاتها.
مما ألجأهم لصياغة نظريات إجتماعية ترتبط بالتغييرات والتطورات , ولها علاقة بالعوامل البيئية القائمة.
فهناك نظرية البداوة وعدم المرور بدور الزراعة , وغيرها نظريات أخرى متنوعة تحاول تفسير السلوك السياسي وسلوك التخريب والعدوان في المجتمع.
وهي بالتأكيد نظريات مفيدة في مساعدتنا على فهم السلوك بصورة عامة , لكنها لا تعطي تفسيرا مقنعا للعديد من السلوكيات التي نقف إزاءها حائرين واجمين.
وعن جميع تلك النظريات وغيرها غاب دور الكرسي في تقرير السلوك , وسبب الغياب قوة كامنة في أعماقنا تمنعنا من الخوض في هذا الشأن , لأن الكرسي لرمزيته قد يصل إلى غريزة بشرية دفينة وحاجة ملحة تستدعي الإرضاء!
فالكرسي رمز السلطة والقوة والتمكن , وتقرير مصير الآخرين , وإحكام القبضة على المجموعة البشرية , التي عليها أن تطيعه وتخضع لإرادته , وإلا يتم إقصاءها وتدميرها , وهو تعبير عن كوامن التأسد والتوحش السلوكي لدى البشر.
وصارت القوة مقرونة في لا وعينا بالكرسي.
وقد يكون في معظم الأحيان الطاقة الجوهرية في شخصيتنا.
وقد لعب الكرسي دورا هاما في حياة البشر , ومنذ أول ظهور للمجتمعات , عندما قرر البشر أن يعيش مع بعضه , من أجل تحقيق الأمن والأمان والتطور والتفاعل ومجابهة الأعداء.
وقد نجحت المجتمعات في هذه الخطوة , والدليل على ذلك إستمرار النوع البشري وسيادته على الأرض.
لكن البشر بعد أن قضى على أعدائه من الأنواع الأخرى وأقصاها أو جعلها طعاما له- وفي مسيرة التفاعل المحتدمة – حوّل عدوانيته , التي كانت ضد الأنواع الأخرى , والتي ساهمت في ديمومة نوعه , إلى صراعات داخل النوع الواحد.
فابتدأ بالقتل الفردي ومن ثم بين مجموعات صغيرة , ومن بعدها صارت المجاميع المتقاتلة في تنامي حتى غدت شعوبا وأمما.
والدافع الأساسي ومنذ فجر عصر الجريمة وحروبها التدميرية , هو السيطرة والإمتلاك والإستئثار بالقوة وممارسة الفتك المطلق.
ولكي يتحقق ذلك وُجد الكرسي.
كرسي القوة والسلطة وتقرير مصير الآخرين.
فلا بد من الكرسي لحشد الصراع النوعي بين البشر , ولكي يتم صناعة أنواع بشرية متباينة لتحقيق رغباتها العدوانية والوحشية.
وهكذا بدأت بكرسي العشيرة والقبيلة والمدينة ومن ثم الوطن والأمة.
وصارت الأرض في عز الوطيس الدامي , وهي تخوض معارك الكراسي الساعية إلى المزيد من شهوة الإمتلاك والتسلط والإستبداد , متسترة تحت لافتات وشعارات نبيلة إلى أبعد ما يكون عليه النبل والسماحة والعدل.
وبسبب هذا ما هدأت المعارك الأرضية ليوم واحد على سطحها الناري.
فخاضت البشرية حروب الاسكندر الكبير الذي أراد بابل.
وهولاكو الذي جاء إلى بابل ومعارك الحربين العالميتين , وغيرها حروب لا تعد ولا تحصى.
ولا زالت البشرية في معاركها المتواصلة المتصاعدة , والغاية الأساسية من ورائها هي أن يزداد الكرسي عند القوة الطامحة قوة وبأسا وبطشا.
وعلة الأرض ومصيبة العراق الكبرى , هي إذا أردت أن تحكم قبضتك على الأرض عليك أن تسيطر على بلاد الرافدين , وتدوس بسنابكك على أرض بابل.
وهذه العلة تكمن في أعماق اللاوعي البشري , الذي يمتلك القدرة على القبض على عنق ورأس الأرض , لأن عنقها ورأسها هو العراق!
هذا على مستوى الوجود الأرضي.
أما على مستوى الوجود الوطني والمجتمعي, فأن الكرسي له دوره المقرر لمصير الحياة , والمؤثر في مسيرة أبناء البلاد وتفاعلاتهم وصراعاتهم.
وقد أدركت الدول المتطورة أو المتحضرة الدور السلبي للكرسي في الحياة ودماراتها, فقررت أن تلجمه وتضعه تحت طائلة الدستور والقانون , لتمنع الفرد من الجلوس عليه لمدة تزيد عن الفترة الصحية اللازمة للجلوس.
لأن أي جلوس أطول مما يجب, يعني أن الجالس سيُصاب بأمراض الكرسي , وسيؤثر سلبا في الحياة من حوله ويقرر الكثير من نتائجها.
ويبدو من خلال إستقراء التأريخ , أن الفترة المثلى للجلوس على الكرسي هي أربعة سنوات, وإن زادت على ذلك تتسبب بعثرات وسيئات في المجتمع.
أما إذا تعدت الثماني سنوات فأنها ستحقق كل السيئات.
لأن الجالس على الكرسي سيصاب بجميع أمراض الكرسي , وسيقضي عليه الكرسي بأوبئته الكامنة فيه, بل أنه سيتعفن ويتفسخ فيه.
إن إختيار فترة الأربع سنوات ليست إعتباطية, وإنما مبنية على نتائج وتجارب تأريخية مؤلمة , مرت بها البشرية عبر مسيرتها السياسية والعسكرية المروعة.
وهذه الفترة تتناسب مع قابلية البشر النفسية على تحمل أعباء تلك المسؤولية , بكفاءة ذات قدر ما من الفائدة للآخرين.
فلكي نحمي المجتمع من سيئات الكرسي , لا بد أن يجلس الشخص عليه لمدة أربعة سنوات , وإن زادت فما أفادت وما جاءت بجديد.
أما بعض الشعوب التي إرتأت فترة أطول منها , فأنها تحكم سلوك الجالس على الكرسي بقانون ثقيل يقيّد إنفلاته وتمركز القوة والسلطة عنده , لتحميه من الإصابة بأمراض الكرسي العديدة.
إنّ دور الكرسي لا يمكن إغفاله في حياة الأمم والشعوب مهما كانت , خصوصا الأبوية , التي لا تعرف إلا الطاعة أو العصيان الذي يأتي بالنبذ والقهر والويلات.
وغياب دور الكرسي في الدراسات الإجتماعية , يتسبب بنقص مهم للعوامل التي يترتب عليها فهم أي سلوك إجتماعي.
ولكي تتعلم المجتمعات الحديثة العهد بالديمقراطية السلوك المُعبر عنها , عليها أن لا تسمح في البداية للشخص أن يكون في الكرسي لأكثر من سنتين , وبعد أن تتهذب وتتعلم يمكنها أن تزيد من فترة المكوث في الكرسي لتصل إلى الأربعة سنوات , وبعد ترسيخ ضوابط ومعايير وتقاليد السلوك الديمقراطي يحق لها أن تشرّع تكرارها لدورتين إنتخابيتين فقط , أما أن تسمح بتجسيد نزق الكرسي وتعزيزه وتسويغه وتأييده , فأنها لا يمكنها أن تؤسس لمجتمع ديمقراطي يفهم في معاني التطور والتفاعل والتقدم والعزة والكرامة والسيادة والنماء.
فهل سنمتلك قدرات بناء الدولة , لا تكريس السلطة؟!!