إنَّ الأخلاق الرَّفيعة جزءٌ مهمٌّ من العقيدة؛ فالعقيدة الصَّحيحة لا تكون بغير خلقٍ، وقد ربَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق، بأساليب متنوعةٍ، وكان صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم ما ينزل من قرآن، فإذا سمعوه، وتدبَّروه؛ عملوا بتوجيهاته.
والمتدبِّر للقرآن المكِّيِّ يجده مليئاً بالحثِّ على مكارم الأخلاق، وعلى تنقية الرُّوح، وتصفيتها، من كلِّ ما يعوق سيرها إلى الله تعالى، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم القدوة الكاملة، والمربِّي النَّاصح للأمَّة كان على خلقٍ عظيمٍ؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4] ومعنى الآية واضحٌ، أي: ما كان يأمر به من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله، والمعنى: إنَّك لعلى الخلق الَّذي اثرك الله به في القرآن.
وعن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: «إنَّ خُلُقَ نَبِـيِّ الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن » [ مسلم (746) وأحمد (6/54) وأبو داود (1342)] . وقد جمع الله تعالى لنبيِّنا مكارم الأخلاق في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199] .
قال مجاهد في معنى الآية: يعني : خذ العفو من أخلاق النَّاس ، وأعمالهم من غير تخسيسٍ ، مثل قبول الأعذار، والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، والتَّفتيش عن حقائق بواطنهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وهو كلُّ ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾، وأعْرَفُهُ التَّوحيدُ، ثُمَّ حقوق العبوديَّة، وحقوق العبيد، ثمَّ قال تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾، يعني: إذا سفه عليك الجاهل، فلا تقابله بالسَّفه، كقوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا ﴾ [الفرقان: 63]، وهكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم ؛ «كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسنَ النَّاس خُلُقاً» [البخاري (6203) ومسلم (659)].
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يربِّي أصحابه على حسن الخُلُق، ويحثُّهم عليه، فعن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق، وإنَّ الله تعالى لَيُبْغِض الفاحشَ البذيءَ» [أبو داود (4799) والترمذي (2002) وابن حبان (476)].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل النَّاس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسنُ الخلق»، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناسَ النار؟ فقال: «الفمُ، والفرجُ» [أحمد (2/392) والترمذي (2004) وابن ماجه (4246) وابن حبان (476) والبخاري في الأدب الفرد (289 و294)]، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم لأصحابه عظم ثواب حُسْنِ الخُلُق، فقال: «إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم منِّي مجلساً يوم القيامة أحاسِنَكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة، الثَّرْثارون، والمتشدِّقونَ، والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله! قد علمنا (الثرثارون، والمتشدِّقون)، فما المتفيهقون؟ قال: «المُتكبِّرون» [الترمذي (2018)].
الثَّرثار: هو كثير الكلام بغير فائدةٍ دينيَّةٍ. والمتشدِّق: المتكلِّم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً، وتطاولاً، وإظهاراً لفضله على غيره، والمتفيهق: هو الَّذي يتوسَّع في الكلام، ويفتح به فاهه، وأصله: من الْفَهْقِ، وهو الامتلاء.
لقد سار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على المنهج القرآنيِّ في تربية أصحابه على الأخلاق الكريمة، وكانت الأخلاق تعرض مع العبادة، والعقائد في وقتٍ واحدٍ؛ لأنَّ العلاقة بين الأخلاق والعقيدة واضحةٌ في كتاب الله تعالى، وقد بيَّن سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وللمسلمين، الأخلاقيات الإيمانيَّة الَّتي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ (لا إله إلا الله)، والأخلاقيات الجاهليَّة الَّتي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة: أنَّ التَّنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللَّحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوُّراتهم الاعتقاديَّة، واستمرَّ معه حتَّى النِّهاية.
إنَّ الأخلاق ليست شيئاً ثانوياً في هذا الدِّين، وليست محصورةً في نطاقٍ معيَّنٍ من نُطُقِ السُّلوك البشريِّ؛ إنَّما هي ركيزةٌ من ركائزه، كما أنَّها شاملةٌ للسُّلوك البشريِّ كلِّه، كما أنَّ المظاهر السُّلوكيَّة كلَّها ذات الصِّبغة الخلقيَّة الواضحة، هي التَّرجمة العمليَّة للاعتقاد، والإيمان الصَّحيح؛ لأنَّ الإيمان ليس مشاعر مكنونةً في داخل الضَّمير فحسبٍ؛ إنَّما هو عملٌ سلوكيٌّ ظاهرٌ كذلك، بحيث يحقُّ لنا حين لا نرى ذلك السُّلوك العمليَّ، أو حين نرى عكسه أن نتساءل: أين الإيمان إذاً؟ وما قيمته إذا لم يتحوَّل إلى سلوكٍ؟!
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطاً قويّاً، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ؛ منها:
قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 – 11] ؛ فالسورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التَّوكيد: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾، ثُمَّ تصف هؤلاء المؤمنين بذلك الوصف المطوَّل المفصَّل، الذي يُعْنَى بإِبراز الجانب الخلقي لأولئك المؤمنين، موحياً إيحاءً واضحاً أنَّ هذه الأخلاقيات – من جهةٍ – هي ثمرة الإيمان، وأنَّ الإيمان – من جهةٍ أخرى – هو سلوكٌ ملموسٌ يُترجِم عن العقيدة المكنونة.
إنَّهم بادئ ذي بدء خاشعون في صلاتهم، فذلك أوَّل مظهرٍ للمؤمن الصَّادق: أن تكون صلاتُه – وهي اللَّحظة التي يقف فيها متعبِّداً لربِّه، ذاكراً له في قلبه، متَّصلاً به بروحه – صلاةً خاشعةً بما ينبئ عن صدق الصِّلة باللهِ؛ الَّتي يرتفع نبضها وحرارتها في أثناء الصَّلاة، ثمَّ تثنِّي السُّورة بصفة سلوكيَّة أخرى ذات دَلالةٍ، هي: أنَّهم عن اللغو معرضون؛ فاللَّغو لا ينبئ عن نفسٍ جادَّةٍ، والإيمان الصَّحيح يورث النَّفس الجدَّ بما يشعرها من ثقل التَّكاليف، وجدِّيتها، والجدُّ ليس تقطيباً دائماً ولا عبوساً، ولكنَّ اللَّغو – من جانبٍ آخر – لا يستقيم مع جدِّية الشُّعور بعظم الأمانة؛ التي يحملها الإنسان أمام خالقه، ثمَّ إنَّ هؤلاء المؤمنين لابدَّ أن تكون في قلوبهم الحساسية لحقِّ الله في أموالهم، وهو الزَّكاة.
ولابدَّ أن يكونوا ملتزمين بأوامر الله في علاقات الجنس؛ فلا يتعدَّون حدود الله، وملتزمين بأوامره في علاقتهم الاجتماعيَّة؛ فيحفظون الأمانة، ويرعون العهد، وبهذا نفهم فَهْم الصَّحابة للأخلاق، فهي ثمرةٌ طبيعيَّةٌ للعقيدة الصَّحيحة، وكذلك العبادة الحيَّة الخاشعة لله، هكذا تعلَّموا من القرآن الكريم، ومن هدي حبيبهم الصَّادق الأمين صلى الله عليه وسلم .
لقد رسم القرآن الكريم لهم صورةً تفصيليَّةً للشَّخصيَّة المؤمنة، فكانت العبادة أوَّل مَعْلَمٍ واضح فيها؛ فنظروا كيف جعل الله في أوصاف المؤمنين أول وصفٍ لهم الخشوعَ في الصَّلاة، وآخر أوصافهم المحافظة عليها، ووصفهم بفعل الزَّكاة، وهي عبادةٌ، مع الفضائل الخلقيَّة الأخرى.
إنَّ القرآن الكريم يبرز جانب العبادة أحياناً، وجانب الأخلاق أحياناً أخرى؛ لمناسباتٍ واعتباراتٍ توجب هذا الإبراز، ففي سورة الذَّاريات كانت العناية بالعبادة في وصف المتقين: ﴿آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [الذاريات: 16 – 19] .
وفي سورة الرَّعد كانت العناية بالجانب الأخلاقيِّ في وصف أصحاب العقول، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ *وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ *وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 19 – 22].
ومع أنَّ معظم الأوصاف هنا أخلاقيَّةٌ – لمناسبة أولي الألباب – مثل الوفاء والصِّلة، والصَّبر، والإنفاق؛ لكنَّ الملحوظ فيها أنَّها ليست مجرَّد أخلاقٍ (مدنيَّة)، وإنَّما هي أخلاقٌ ربَّانيَّة، أخلاقٌ فيها معنى العبادة، والتَّقوى، فهم إنَّما يوفون (بعهد الله)، وإنما يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهم إنَّما يفعلون ويتركون؛ لأنَّهم ﴿وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾، وهم إنَّما يصبرون؛ فهم في كلِّ أخلاقهم وسلوكهم يرجون ﴿ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾، ويرجون اليوم الآخر.
لقد تربَّى الصَّحابة رضي الله عنهم على أنَّ العبادة نوعٌ من الأخلاق؛ لأنَّها من باب الوفاء لله، والشُّكر للنِّعمة، والاعتراف بالجميل، والتَّوقير لمن هو أهل التَّوقير، والتَّعظيم، وكلُّها من مكارم الأخلاق، كانت أخلاقُ الصَّحابة ربَّانيَّة، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرَّجاء في الآخرة، وغرضها رضوان الله، ومثوبته، فكانوا يصدقون في الحديث، ويؤدُّون الأمانة، ويوفون بالعهود، ويصبرون في البأساء والضَّرَّاء، وحين البأس، ويغيثون الملهوف، ويرحمون الصَّغير، ويوقِّرون الكبير، ويرعون الفضيلة في سلوكهم؛ كلُّ ذلك ابتغاء وجه الله، وطلباً لما عنده تعالى؛ فقد كانت بواعثهم وطوايا نفوسهم، كما قال تعالى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا *وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11 – 12].
إنَّ أخلاق المؤمن عبادةٌ؛ لأنَّ مقياسه في الفضيلة، والرَّذيلة، ومرجعه فيما يأخذ وما يدع، هو أمر الله ونهيه؛ بالضَّمير وحدَه ليس بمعصومٍ، وكم من أفرادٍ وجماعاتٍ رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال!.
والعقل وحده ليس بمأمونٍ؛ لأنَّه محدودٌ بالبيئة والظُّروف، ومتأثِّرٌ بالأهواء والنِّزاعات، وفي الاختلاف الشَّاسع للفلاسفة الأخلاقيِّين في مقياس الحكم الخلقيِّ، دليلٌ واضحٌ على ذلك، والعرف لا ثبات له، ولا عموم؛ لأنَّه يتغيَّر من جيلٍ إلى جيل، وفي الجيل الواحد من بلدٍ إلى بلدٍ، وفي البلد الواحد من إقليمٍ إلى إقليم؛ ولذلك التجأ المؤمن إلى المصدر المعصوم المأمون الَّذي لا يضلُّ، ولا ينسى، ولا يتأثَّر، ولا يجور.
إنَّ الأخلاق في التَّربية النَّبويَّة شيءٌ شاملٌ، يعمُّ كلَّ تصرُّفات الإنسان، وكلَّ أحاسيسه، ومشاعره، وتفكيره؛ فالصَّلاة لها أخلاقٌ هي الخشوع، والكلام له أخلاقٌ هي الإعراض عن اللَّغو، والجنس له أخلاق هي الالتزام بحدود الله، وحرماته، والتَّعامل مع الآخرين له أخلاقٌ هي التوسُّط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعيَّة لها أخلاقٌ، هي أن يكون الأمر شورى بين النَّاس، والغضب له أخلاقٌ هي العفو والصَّفح، ووقوع العدوان من الأعداء تستتبعه أخلاقٌ هي الانتصار – أي: ردُّ العدوان – وهكذا لا يوجد شيءٌ واحدٌ في حياة المسلم ليست له أخلاق تُكيِّفه، ولا شيءٌ واحدٌ ليست له دَلالةٌ أخلاقيَّةٌ مصاحبةٌ.
هذا أمر، والأمر الآخر – وهو الأهمُّ – أنَّ الأخلاق في المفهوم القرآني هي لله، وليست للبشر، ولا لأحدٍ غير الله؛ فالصِّدق لله، والوفاء بالعهد للهِ، واتِّقاء المحرَّمات في علاقات الجنس لله، والعفو، والصَّفح لله، والانتصار من الظُّلم لله، وإتقان العمل لله، كلُّها عبادةٌ لله، تُقَدَّمُ لله وحدَه؛ خشيةً لله، وتقوى، وتطلُّعَاً إلى رضاه، إنَّها ليست صفقةً بشريَّةً للكسب، والخسارة، إنَّما هي صفقةٌ تُعقد مع الله.
قال تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 151 – 153]. ذلك هو الميثاق الأخلاقيُّ الشَّامل الَّذي التزم به الصَّحابة، ومَنْ سار على هديهم؛ اتِّباعاً لصراط الله المستقيم، فهو – إذاً – من العقيدة مرتبطٌ بها ارتباطاً أساسية، لا ينفصل عنها بحالٍ.
إنَّ الأعمال الخلقيَّة تدخل في جميع الجوانب، ويرتقي بها الوحي الإلهيُّ إلى ذروةٍ متفرِّدة حين يجعلها ديناً، وعبادةً ومحلاً لثواب الله تعالى، أو عقابه الأليم عند المخالفة، وإذا تأمَّلنا في الآيات السَّابقة من سورة الأنعام، نجدها قد اشتملت على العناية بالضَّروريات الخمس، وهي: «ما لابدَّ منها في قيام مصالح الدِّين، والدُّنيا؛ حيث إنَّها إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدُّنيا على استقامةٍ، بل على فسادٍ، وتهارجٍ وفوت حياةٍ، وفي الأخرى فوت النَّجاة والنَّعيم، والرُّجوع بالخسران المبين» إنَّ دعوة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من أهدافها إرجاع النَّاس إلى مقاصد الشَّريعة، والَّتي من ضمنها المحافظة على الضَّروريات الخمس، فقد اشتملت الآيات الكريمة السَّابقة على العناية بالضَّروريات، وهي:
أ – حفظ الدِّين: وذلك في قوله تعالى: ﴿أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وفي قوله تعالى: لأنَّه ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ يستقيم دينٌ مع الشِّرك بالله تعالى، فأمَرَ سبحانه عباده أن يوحِّدوه بالعبادة، وأن يتَّبعوا صراطه المستقيم، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ونهاهم عن اتِّباع سُبُل الشيطان؛ فإنَّها غيٌّ وضلالٌ، وفي سلوكها إعراضٌ عن دين الحقِّ، واتِّباعٌ لأهواء النفوس، ووسواس الشَّيطان، وقد قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمحافظة على الدِّين من خلال العمل به، والجهاد من أجله، والدَّعوة إليه، والحكم به، وردِّ كلِّ ما يخالفه.
ب – حفظ النَّفس: في قوله تعالى: وقوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ﴾ وقد وضعت الشَّريعة الوسائلَ الكفيلةَ ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ بإذن اللهَّ – بحفظ النَّفس من التَّعدِّي عليها، ومن هذه الوسائل: تحريمُ الاعتداء عليها، وسدُّ الذَّرائع المؤدِّية إلى القتل، كالقِصاص، وضرورةُ إقامة البيِّنة في قتل النَّفس، وضمان النَّفس، وتأخير تنفيذ القِصاص؛ بحيث إذا خشيَ مِنْ قَتْلِ غير القاتل؛ وجب عليه العفو، وكذلك إباحة المحظورات حالَ الضَّرورة.
ج – حفظ النَّسل: في قوله تعالى: ومن أعظم الفواحش الزِّنى؛ الَّذي وصفه الله تعالى في ايةٍ أخرى بأنَّه ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً ﴾ [الإسراء: 32] .
إنَّ حفظ النَّسل من الركائز الأساسية في الحياة، ومن أسباب عمارة الأرض، وفيه تكمن قوَّة الأمَّة، وبه تكون مرهوبة الجانب، عزيزة القدر، تحمي دينها، وتحفظ نفسها، وتصون عرضها، ومالها؛ ولذلك عُنِيَت الشَّريعة بحماية النَّسل، ومنع كلِّ ما من شأنه أن يقف في طريق سلامته، ووضعت ضوابط، وأصولاً شرعيَّةً مهمَّةً في هذا الباب.
د – حفظ المال: في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ﴾ وقوله: . ومن وسائل حفظ المال في الشَّريعة: تحريم الاعتداء ﴿أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾، وتحريم إضاعة المال، وما شُرِعَ من الحدود في العهد المدنيِّ؛ كحدِّ السَّرقة، وحدِّ الحرابة، وضمان المتلفات، ومشروعيَّة الدِّفاع عن المال، وتوثيق الدُّيون والإشهاد عليها، وتعريف اللُّقَطَة، وما يتبعه.
هـ حفظ العقل: وأمَّا حفظ العقل، فمطلوب أيضاً؛ لأنَّ التَّكليف بهذه الأمور لا يكون إلا لمن سلم عقله، ولا يقوم بها فاسد العقل، وفي قوله تعالى: إشارةٌ إلى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، والله أعلم، وقد حرَّم الإسلام كلَّ ما من شأنه إفساد العقل، وإدخال الخَلل عليه.
وهكذا القرآن الكريم يعلم، ويربِّي الصَّحابة على العقائد، والعبادة، والأخلاق، ومقاصد الشَّريعة في وقتٍ واحدٍ، إنَّ الأخلاق الرَّبَّانيَّة تصدر من القرآن الكريم بتقرير التَّوحيد، والعبودية لله تعالى، وهذا بدوره تأكيدٌ أساسيٌّ على حقائق وأصول هذا المنهج القرآنيِّ، الَّتي تتبع جميعها هذا المدخل التَّأسيسي، وبذلك يتقرَّر:
1 – أنَّ الله تعالى هو وحده مصدر الشَّرائع جميعاً، وهو شارع القيم، والمعايير الأخلاقية؛ الَّتي تنسجم مع الفطرة، وتوافق العقل السَّليم.
2 – أنَّ الأخلاق دينٌ ملتزمٌ به، بل هي أصلٌ من أصول المنهج الرَّبانيِّ، وليست مجرَّد فضائل فرديَّةٍ، أو آداب اجتماعيَّةٍ، أو أذواقٍ حضاريَّةٍ.
3 – أنَّ الأخلاق قيمٌ أساسية في حياة البشر، ينبغي أن تحظى بالثَّبات والاستقرار، وبالتَّالي يمنع الطَّواغيت من التلاعب بها، أو تشكيلها حسب المصالح والأهواء.
وقد احتوى القرآن الكريم على العديد من الآداب الفذَّة، الَّتي تعطي أسمى التَّوجيهات في باب الفضائل، والآداب الفرديَّة، والاجتماعيَّة، ففي سورة الإسراء جاءت آيات كريمةٌ هي من أجمع الآيات؛ للحثِّ على الخُلُق المحمود، والتَّنفير من الخُلُق المذموم.
قال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا *وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا *رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا *وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا *إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيْاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا *وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا *وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا *إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا *وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيرًا *وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلاً *وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا *وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً *وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً *كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ [الإسراء: 23 – 38].
إنَّ الله – سبحانه وتعالى – قد جعل التَّوحيد – أي: إفراد الله بالعبادة – على رأس هذا المنهج الخُلقيِّ؛ الَّذي رسمته الآيات مدحاً، وذماً؛ لأنَّ التَّوحيد له في الحقيقة جانبٌ أخلاقي أصيل؛ إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل، والإنصاف، والصِّدق مع النَّفس، كما أنَّ الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأوَّل، مثل الكِبْر، عن قبول الحقِّ، والاستكبار عن اتِّباع الرُّسل غروراً، وأَنَفَةً، أو الولوع بالمِراء والجدل بالباطل مغالبةً، وتطلُّعاً للظُّهور، أو تقليداً وجموداً على الإلف، والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلُّها – وأمثالها – أخلاق سوء تُهلك أصحابها، وتصدُّهم عن الحقِّ بعدما تبيَّن، وعن سعادة الدَّارين، مع استيقان أنفسهم بأنَّ طريق الرُّسل هو السَّبيل إليها.
والآيات بعد ذلك تذكر أنماطاً خُلُقيَّةً متعدِّدة الجوانب في شؤون الأسرة؛ مثل برِّ الوالدين، وما جاء فيه من وصايا غايةً في السُّموِّ، والإحسان، والوفاء بالجميل، ومثل برِّ الأقارب، والضعفاء، وفي شؤون المال، والإنفاق بالنَّهي عن التبذير، والأمر بالاعتدال بين الشُّحِّ المُطْبق، والبسط المستغرق، وقد نفَّر الله تعالى من التَّبذير بإضافته إلى شرِّ الخلق: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيْاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 27]. ونفَّر من الحرص، والإمساك عن الإنفاق بتصويره على أبشع مثالٍ: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾
وتأمر الآيات الكريمة بخلقٍ جميلٍ غايةً في السُّموِّ، وهو الحرص على الكلمة الطَّيبة، إذا لم يجد الإنسان من المال ما يَسَعُ به النَّاس: ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ﴾ وهي وصيَّـةٌ ذات أثرٍ بالغٍ في إحسان العلائق بين ﴿رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا ﴾، بل ربَّما فضَّلوها على العطاء المادِّيِّ؛ خاصَّةً إذا اقترن بالمنِّ، والأذى، ثمَّ تتحدَّث الآيات عن سوء الخلق بالبغي والاستطاعة، وقساوة القلب، وجفافه من الرَّحمة، وجمود العاطفة الكريمة، ويتمثَّل ذلك في مظهره الجنائيِّ، وهو القتل، وخاصَّةً قتل الابنة الصَّغيرة.
نعم، القتل جريمةٌ جنائيَّةٌ تسلك في قانون العقوبات القصاصيَّة، ولكنَّها هنا تُعالَج من زاويتها الأخلاقيَّة؛ التي تستهدف الوقاية، وتعمل على تغيير الإرادة، وتوجيهها وجهةً صالحةً لتحريم الفعل، وتجريمه، وإصلاح عقيدة صاحبه: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾، وبهدم القيم الاجتماعيَّة الجائرة الَّتي صنعت هذا المنكر، وسوَّغته بلا نكيرٍ، وتنهى الآيات عن الزِّنى، وهو بالمقياس نفسه جريمةٌ خلقيَّةٌ أساسها البغي، والاستطالة على الأعراض، والحرمات، وإهدار العفاف، والشَّرف، والاستهانة بكلِّ كريمٍ من القيم الإنسانيَّة العليا، وتأمر الآيات، وتنهى عن أمورٍ مردُّها إلى خلق الأمانة أو الخيانة، والجدِّ أو العبث، والتَّواضع العزيز أو الكبر، والغرور؛ فمن الأمانة حفظ مال اليتيم حتَّى يبلغ أشدَّه، والوفاء بالعهد، وتوفية الكيل والميزان، والخيانة أضدادها، ومن الجدِّ اشتغال الإنسان بما ينفعه، وعدم تتبُّعه ما ليس به شأنٌ، ولا علمٌ: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36] والعبث كلُّ العبث اشتغال الإنسان بما نُهِيَ عنه، ومن التَّواضع العزيز شعور الإنسان بحدوده، ومعرفتُه قدر نفسه، فيضعها في مواضعها الصَّحيحة، ومن الكبر والغرور ذلك التَّطاول المبنيُّ على الجهل، والطيش، والحماقة ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ [الإسراء: 37] .
ولأنَّ هذه الوصايا جامعةٌ لك ما يصلح شأن الإنسان ختمها الله تعالى بقوله الحكيم: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخر﴾ [الإسراء: 39].
فسمَّاها حكمةً، وختمها بالدَّعوة إلى التوحيد، والنَّهي عن الشِّرك كما بدأها؛ لأنَّ الإيمان بالله تعالى مِفْتَاحُ كلِّ خيرٍ، وحافظُه، وحارسُه، والكفر به مفتاحُ كلِّ شرٍّ وباعثُه.
هكذا كانت تربية القرآن الكريم للصَّف المؤمن، فقد كانت قائمةً على التخلُّق بمحاسن الأخلاق، ونَبْذِ سيِّئها.
المصادر والمراجع:
ابن القيِّم، تهذيب مدارج السَّالكين، هذَّبه عبد المنعم صالح العلي العزِّي، مؤسَّسة الرِّسالة، الطَّبعة الثالثة، 1409هـ 1989م. (2/653).
د. أنس أحمد كرزون، منهج الإسلام في تزكية النَّفس، دار نور المكتبات، دار ابن حزم، الطَّبعة الثانية 141 هـ 1997 م. (1/331).
د. علي الصلاَّبي:
فقه التَّمكين في القران الكريم، (ص 354).
السيرة النبوية، ص 192-200.
د. عليٌّ العليانيُّ، أهمِّية الجهاد في نشر الدَّعوة، دار طيبة، الطَّبعة الأولى، 1405 هـ 1985م.
ص 64 ، 65.
محمَّد قطب، دراساتٌ قرآنيَّة دار الشُّروق، الطَّبعة الخامسة، 1408هـ 1988م.ص 130.
يوسف القرضاوي العبادة في الإسلام ، مؤسَّسة الرِّسالة – بيروت، الطَّبعة الثانية عشرة 1405هـ 1985م. ص 123.