مما تعودت عليه منذ صباي في العراق هو مشاركة أخوتنا المسيحيين أعيادهم وأحتفالاتهم الدينية , كما كنت أشارك أخوتنا من المذهب الجعفري بطقوس عاشوراء وذكرى واقعة الطف وبما لا يتعارض مع الشريعة الأسلامية والسنة النبوية , فنقوم بزيارة مراقد آل البيت وقراءة الفاتحة لهم والدعاء لأل البيت عليهم السلام , بالرحمة والمغفرة , وليس باللطم والتطبير وشق الرؤوس وفتح الصدور , رغم أننا كنا نحضر ( التشابيه ) ونتمتع بالعرض البانورامي لواقعة الطف المأساوية , كما وأنني كنت أرى أن توزيع الأكل ونصب الموائد في محرم هي حالة صحية وما زالت , لأنها جزء من التكافل الأجتماعي بين الناس , حيث يأكل الفقير يومها ويكتفي عياله عن السؤال , وأذكر أن جارتنا المسيحية كانت تذهب مع والدتي الى المراقد المقدسة وهي ترتدي عبائتها المستعارة من والدتي , فيؤدون مناسك الزيارة للأمام الكاظم عليه السلام ومرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس سره الشريف , بنفس اليوم , علمآ أن بقية جيراننا لا يعلمون من أي مذهب نحن , أسنة نحن أم شيعة , وبعد سنوات عدة توفيت جدتي لوالدتي , ودفنت في مقبرة الغزالي بوسط بغداد , فسألت أحدى جاراتنا والدتي هل أنتم سنة وبتعجب , فقالت والدتي أننا مسلمون …!
أن طقوس مشاركتي الأخرين هي بالتربية الصادقة لكل أهل العراق سواء البيتية أو المجتمعية آنذك , فترى المسلم أسنيآ كان أم جعفريآ يشارك جاره المسيحي أعياده والعكس كذلك , يشارك المسيحي معنا المولد النبوي الشريف والأحتفالات الرائعة من ساحة عنتر وحتى مرقد الأمام الأعظم بالأعظمية , كما وأننا نشارك بأحياء مراسيم عاشوراء وعرس القاسم وليلة المحيا , حتى نصبح جميعآ ونحن نوزع القيمة والتمن على كل المحلة وبيوتاتها , وقبلها نرى أمهاتنا وأخواتنا يتقافزن من بيت لبيت على مدى عشرة أيام محرم الحرام وهن يشتركن ( بالقرايات ) من بيت أبو علي الى بيت أم عباس وهكذا , وملاية المحلة أم ضياء رحمها الله تقرأ وتشجن بصوتها وتتألق بقراءة المقتل الحسيني .
أن مشاركتنا هي أيمانآ منا بأن كل الديانات والعبادات والمذاهب الفقهية واللاهوتية تشترك بالأنسانية والتوحيد, وأن دور العبادة للديانات السماوية هي مما يذكر فيها أسم الله ,وقد أستمريت بحضور قداس الميلاد سنويآ في الكنيسة في بغداد وبعدها في لندن , وقبل عامين أخذت عائلتي الى كنيسة كنغستون ليلة 24-25 ديسمير لغرض حضور القداس ومشاركة أخوتنا المسيحيين أحتفالاتهم باعياد الميلاد , وكانت الساعة الحادية عشر ليلآ , وقد دخلت الكنيسة وأستأذنت رئيس القساوسة فيها للمشاركة معهم قداسهم , وعرفته بنفسي وأنني مسلم , وأرغب مشاركتهم للقداس والدعاء , وأبلغته ماوددت أن أعلمه برسالتنا الأنسانية كمسلمين , وأننا مؤمنيين بكل الديانات السماوية وأن أنبيائهم هم أخوة نبينا وأن أيماننا بهم جميعآ هو أيمان عقائدي ومن أصول الدين الأسلامي الحنيف , حيث أن الأيمان بالله وبرسله وكتبه واليوم الأخر هي من أساسيات ديننا , وقلت له , ليعلم الأخوة المسيحيين أن الأسلام ليس بأرهاب كما يوصف بالأعلام الغربي , وأنما هو دين الأخلاق والسماحة والأخوة بالأنسانية , ولا أستطيع أن أوصف مدى فرحة كبير القساوسة وهو يستمع لي بهذه الكلمات , وقد رحب بنا ترحيبآ كبيرآ , وأبلغ الجميع بمشاركتنا لهم القداس , وكان نصف وقت القداس هو بالكلام عن موقفنا الأنساني معهم , وأستمر القداس لما بعد منتصف الليل , وقدمنا لهم التهاني والتبريكات , وغادرنا الكنيسة , وكان الجو باردآ جدآ , والثلوج بدأت تتساقط , وأثناء مسيرنا في الشارع ليلآ وبهذا الجو الشتوي القارص , كانت أمرأة أنكليزية وبنتها الصغيرة ذات الخمسة او الستة أعوام معها , تسيران أمامنا وهي تحمل معها مجموعة من الأكياس , ويبدو فيها أكل وشرب وغير ذلك , وكانت تقدم هذه الأكياس لبعض (( المشردين )) الذين يفترشون الأرض , (علمآ أن في بريطانيا نظام أجتماعي يكاد يمحي ظاهرة التشرد , ففيها ملكة لا يظلم عندها أحد , ولا ينام أنسان في الشارع أو ينام دون عشاء ) , وكانت هذه المرأة الأنكليزية تقول لأبنتها وهي تقدم كيس الطعام للمشرد , أريدك أن تحمدي الله على نعمته لأننا لدينا بيت وسقف ننام تحته ولدينا مؤونة تكفينا , وعلينا مساعدة الأخرين المحتاجين , لأن الله يرانا , أستمعت لها وأنا أسير خلفها , وهي لم تنتبه لوجودنا , لأنشغالها بتوزيع الطعام , وعرفت أنها تقوم بهذا العمل دون رياء أو مبالغة لكي يراها الأخرون , وكما يحلو للبعض منا عندما يقوم بأي عمل خيري فأنه يبتغي علم الناس أولآ به ليقولوا أنه من الخيرين ..! أو بعضهم يجعل المنة للفقراء بوسائل الأعلام والفضائيات , لأنني شاهدت بالأمس أحد رجال الأعمال العراقيين يوزع الهبات على المحتاجين ويصر على تصويرها والتأكيد على أقيامها , وانزالها على اليوتيوب , وكأنه لا يبتغي من ذلك مرضاة الله بل عباده , حتى توصله أعمال الرياء هذه الى مقعد بالبرلمان أو يحصل على وزارة .
خلاصة القول أن الأنسان يجب أن يشترك مع أخيه الأنسان بأفراحه وأعياده وأحزانه , ولا فرق بين الديانات السماوية لأنها توحد الله , ولا فرق بين المذاهب والمشارب الفقهية والفكرية , لأننا قد نختلف شكلآ ولكن متفقين مضمونآ , فكلنا نولد من بطون أمهاتنا بالأرحام ونأتي الأرض عراة , دون شهادة أو عمامة أو جلباب , ونذهب من الدنيا عراة دون شهادة أو عمامة أو جلباب , ألا بالعمل الصالح والتقوى , فما وجدت الديانات والمذاهب ألا للرحمة بين الناس , وليس لتفرقهم وأقتتالهم , فأن أشتركنا بالقواسم الأنسانية لبعضنا البعض ستجعلنا خلفاء نجباء لتعمير الأرض بالعلم والعمل , وليس بالجهل والخرافة , ولا نسفك الدماء لأختلاف تفسيرنا الديني أو المذهبي , فللدماء حرمة أعلى مرتبة من حرمة الكعبة , وهي بيت الله في الأرض , وخير ماعمر ببكة , فهل نتعض ونعطي لدمائنا وأعراضنا وحرماتنا حرمة شرعية وأنسانية.