23 ديسمبر، 2024 5:13 ص

أهلاً ذكرى… وداعاً عبعوب

أهلاً ذكرى… وداعاً عبعوب

فجأة حطتْ حمامة جميلة فاتنة على مشارف بغداد وحاراتها وشوارعها وإستداراتها بعد أن عصفت بمدينتنا رياح سوداء غطتها كل أنواع الطيور الجارحة داكنة اللون. اليوم عند الفجر أو عند ساعات الصباح ألأولى جلستُ متثاقلاً مهموماً لاأطيق حتى صوت البلابل الشجية على شجرة السيسبان العملاقة التي تحتضن تاريخي الطويل. على حين غرّة , سقطت عيناي المرهقتان من طول الترقب والتحسب وألأنتظار, سقطت على وجهٍ جميل يشبه كل النساء المنتميات الى أرض الحب والحنان وتربة ألأرض الطيبة.  أمضيتُ لحظات ليست بالقصيرة وأنا أدقق النظر في تقاسيم الوجه الجميل أستذكر تاريخاً عاصفاً مرَّ بمدينتي بغداد وجميع المدن البعيدة النازفة فقراً وقاذورات وحاجات وطرقات غير معبدة  وحارات كثيرة تشتاق الى زهور وعطور وسرور . جسورُ جرداء نُزعت عنها – غطائها- وظلت تبكي دموعاً على مدار الساعات. شوارع عملاقة تخترق العاصمة تئن من ألمٍ ليس له دواء ..أصابها الفناء تستنجد بكلِ من لديهِ نفوذ أن لايتركها هكذا كعذراء إُغْتُصِبَتْ في ليلةِ زفافها . وأطفالٌ يحلمون بملعبٍ صغير يشبه ملاعب ألأطفال هناك خلف البحار. ..
وطفلٌ صغير يستجدينني أن أمنحهُ كرةً مطاطية- من حانوتي الذي فرغ من كل شيء سوى آلامٌ مرسومة على وجهي ليلاً ونهاراً-  لايستطيع دفع ثمنها وجلس عند حافة الشارع ينظر بحسرة لأطفالٍ رفضوا ان يشركوه في كرتهم المصنوعة من جاروبٍ قديم . راح عبعوب وحمل معه مليارات الدنانير في كيسٍ أسود مكتوب عليه –  ليس من واجبي أن أمنح أطفال بلادي كراتٍ أو ساحات تصلح أن تكون سعادةٍ لاتنتهي لكل أطفال العراق…هناك سأبني ملاعب في جزيرة أسبانية أو رومانية تدر عليّ مليارات ومليارات – . إنتهى تاريخٌ أسود وظلت بغداد تتحسر أن تكون مثل دبي وتقبل أن تكون – زرق ورق- بأبراجها العملاقة وشوارعها التي تشبه الحرير. وجاءت – ذكرى- وأعادت الى ذاكرتي جمال بغداد في السبعينات وماقبلها. هل ستكون – ذكرى- سبباً لمحو كل الذكريات ألأليمة التي مرت  بها بغداد وهي تعاني آلام المخاض من جراء تلك – الصخرة – العملاقة المحشورة المطمورة في مجاريها أم  ستسير على خارطة ألأخرين الذين سبقوها وتنشغل في زياراتٍ ورحلاتٍ الى أفخر ألأسواق كي تقتني ما تحتاجه النساء ؟ كلما دققتُ النظر الى إبتسامتها – في الصورة المنشورة في كتابات- عادت الى ذاكرتي ذكرى الفتاة الجميلة التي تربعت على عرش قلبي قبل أربعين عاما ..رسمنا معاً أحلاماً وأحلام لكن عواصف الدهر وظروف الخوف ألقت بها خلف المحيطات وسافرت خوفاً من كل شيء يقترب منها وعائلتها وتركتني أعيش مع ذكريات  لاتنتهي. كان إسمها – ذكرى- هي ألأخرى. أي تصادفٌ هذا وأي تشابهٌ في ألأسماء. أربعين عاماً ولازالت – ذكرى- تكتب لي وتذكرني بمنتزه الزوراء وكيف كنا نعشق ألأرض ونفترش العشب ونرسم أحلاماً لم  تعد إلا – ذكرى- . أمينة بغداد – قبل أن تبدأ  عملها- جعلتني اذرفُ الدموع فأسمها هيج ذكريات وذكريات إنها – ذكرى – ذلك التاريخ البعيد الموسوم بضحكات وبسمات عند الصباح والمساء. هل ستعيد لي – ذكرى- الجديدة بسمة إختفت منذ أن جاء التغيير؟
هل ستبني ملاعب للأطفال ؟ هل ستعبد كل الشوارع وتزرع ألأشجار؟ هل ستختفي القاذورات من شارعنا والنفايات المكدسة عند ضفاف ألأنهار؟  واجبٌ كبير ينتظر – ذكرى – الجديدة- ساعات عملٍ لاتنتهي أم انها ستفضل الجلوس في المكتب الفخم وتستعد لمليْ – الكيس ألأسود- وتترك الصخرة العملاقة في مكانها ترقد في حفرة المجاري وتطير الى جزيرة خلف البحار كما فعل ألآخرون؟ أهلاً – ذكرى…وداعاً عبعوب.

[email protected]