آثرتُ خوض غمار الكتابة مـُجبراً لأسباب لعل ما يُمكنني ذكره منها هو تبيان حقائق ووقائع واضحة لكل ذي عينين لكن يبدو أن البعض لا يريد أن يـُبصر ؛ فهم بحاجة لصعقات توقضهم من أحلامهم الخيالية التي نسجها لهم من يتربص بهم الدوائر و هم على حين غرة منها …
والذي دفعني لهذا المقال ، هو أنني لاحظت وجود تيار في أوساط مجتمعنا يحاول أن يثير الغبار و الضوضاء بالأسلوب الغوغائي حول مواقف سماحة السيّد الصدر (دام ظلّه) بحجة أنها غير مألوفة لديه ، فهو بمجرد أن يطرق سمعه موقف ما – أيّ موقف كان – يقذف سماحته بالإستحسان و القياس من دون أن يتتبع و يتثبت .
هذا بالإضافة إلى دخول أجهزة المخابرات المركزية على الخط حيث رفعت راية الدفاع عن أهل البيت (ع) و مذهبهم في آخر الزمان و أصبحت تزايد حتى على علماء الشيعة و رموزهم و أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم .
و من الظريف في هذا المجال أن أحدهم كان يستنكر على سماحة السيّد الصدر قبل أيام قائلاً أنه أتى بما لم يأتِ بـه السابقون و المتأخرون من مواقف و تصريحات ، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت ، و أن تفضح فإفتضحت ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه و لا مرتباً بيقينه
و في الواقع أن هذا التيار ليس وليد هذه الفترة الزمنية المعاصرة – وإن كان بدأ ينمو أخيراً – فهناك جماعة من المعاصرين لشيخ الطائفة ( الطوسي ) رضوان الله تعالى عليه ممن كانوا يثيرون الضجيج حول كل شيء لم يألفوه ، على قاعدة : لكل إمرئٍ من دهره ما تعوّدا .
كما تعرض رئيس المذهب الشيخ الصدوق (رض) لحملات ظالمة من هؤلاء الذين تطاولوا على ساحته الشريفة ، بل وصل الأمر بالبعض إلى تفسيق أقطاب المذهب ، بل إن البعض صدر منه ما هو أشنع من ذلك ، حيث كفر الأكثرية الساحقة من علمائنا الأجلاء لأنهم يقولون بطهارة المسلمين ، فكيف بمن يطالب بحقوقهم و يُناصرهم في مطالبهم و تظاهراتهم و يقول كلمة الحق فيهم ؟ !!
و لستُ هنا في مقام توجيه حفنة من الشتائم و الإتهامات لهذه الفئة ، فليس ذلك من دأب البحث العلمي الموضوعي ، و لكنني في مقام عرض بعض الخلفيات و الأسس و السمات التي تظهر جلياً على هذه الفئة .
فمن الواضح أن الصفة الرئيسية التي تميّز هذا الإتجاه هي التظاهر بالقداسة و التباكي على مكتسبات المذهب ، و هذا ما عبّر عنه جلياً السيّد الإمام الخُميني (رض) حينما وصف هذا الإتجاه بقوله : ( إن بعض الرجعيين المتظاهرين بالقدسية يعتبرون كل شيء حراماً ) .
و لعل هذا الوصف الذي أطلقه السيّد الخميني (رض) يمثل أدق وصف يلقي الضوء على هذا الإتجاه و المنحى المتحجر و الذي يرفض النقاش العلمي الهادئ و يفضّل لغة التسقيط و التشهير و الشتائم و القذف بالخروج من الدين أو المذهب من دون أية قدرة على الجدال و النقاش العلمي المتوازن .
وهو في الوقت ذاته متظاهرٌ بالقداسة لأنه يريد أن يوحي للناس بأنه يمثل الإتجاه الذي يريد الحفاظ على الإسلام و حماية الحدود و الأحكام و المواقف من الإنحراف ناسياً أو متناسياً حرية الحراك الفكري ما دام لم يخرج عن دائرة الإيمان بأصول الدين و فروعه و العمل بهما .
و في التأريخ شواهد على هذه الحالة ؛ فكم من المؤمنين المخلصين و المجاهدين وقفوا بوجه القوى الجائرة الظالمة و جندوا قواهم لإحياء الدين ، و كم من العلماء و المتنورين من طلاب الحقيقة هبوا لمحاربة الخرافات و العادات المنبوذة و النظرات الضيقة التي أقصت الدين عن الحياة و عطلّت قدراته ، لكنهم وجدوا أنفسهم بسبب إبلائهم في الدفاع عن الحق ، محل تفسيق الجهلة المتنسكين أو أدعياء العلم من عملاء القوى الشيطانية .
ثم إن هؤلاء في الوقت الذي نراهم يتظاهرون بالقداسة يمارسون أبشع أنواع المحرمات و هو التهجم على العلماء و القادة العدول الأتقياء – خاصة المجاهدين منهم – و محاولة التسقيط و البهتان و التشهير ، و لا حاجة لذكر أسماءهم فهم مجرد صبية أُلبسوا قطعة قماش سوداء أو قطعة قماش بيضاء كما عبّر عنهم أحد كبار محققي علمائنا المعاصرين .
و مما يؤكد أن عقدة الإستغراب و التهويل لديهم ليست منطلقة من أسس عقلائية و إنما من عوامل نفسية هو أن هؤلاء لا يتعرضون لمن يؤمنون بأحقية إتباعه دينياً و سياسياً بالإنتقاد مع أن لكل واحد منهم آراء يتفرد بها و لكنهم إذا لاحظوا قائداً كبيراً أو رمزاً دينياً أو زعيماً سياسياً تجمعت له بعض هذه الآراء تعرضوا له ، مع أن المبدأ واحد ، و الحاصل أن هذه المواقف إذا لم تكن خطأً فلا يضر لو إجتمع بعضها لدى هذا الرمز أو ذاك الزعيم و القائد ، و هل أن تفريقها بين الرموز و القادة يجعل الخطأ صواباً ؟ !
و مما يؤكد صحة المنهج الذي إتبعه السيّد الصدر (حفظهُ الله) في مواقفه و آرائه هو تطابقها مع الكثير من مواقف و آراء علمائنا الأعلام السابقين و اللاحقين ، بل مطابقتها لما ورد عن أئمة أهل البيت (ع) من تعليمات و إرشادات وجهوا بها أتباعهم و محبيهم ، و سأقتصر على ما قرأته في الجزء الثاني من كتاب أصول الكافي ، عن هشام الكندي قال : سمعتُ أبا عبْد الله (ع) يقول : (( إياكم أنْ تـعْمَلوا عَمَلاً يُعَيِّرونا به ، فإنَّ ولَد السوْء يُعيِّرُ والدهُ بعَمَله ، كُونوا لِمَن إنقَطَعْتُم إليه زَيْناً و لا تَكُونوا عَليْه شَيْناً ، صَلُّوا في عَشائِرهِمْ ، و عُودُوا مَرْضاهُمْ ، و إشْهَدُوا جَنائِزهُمْ ، و لا يَسْبقونَكُمْ إلى شَيْءٍ مِنَ الخَيْر فأنْتُمْ أوْلى به مِنْهُمْ )) .
و لكن وبعد كل هذا ، نؤكد أننا لم نتأثر بشيء و لم نتألم على آخر بقدر ما آلمنا تعرض ذوى القربى لنا من إتهام و تشكيك و تخوين فضلاً عن الإنتقاد الجارح الهدّام لا البّناء ، و بشتى أنواعه و صنوفه ، حيث لم نُحمل على محمل حَسن من العالم منهم قبل الجاهل ، و لا أقصد بالعالم ( مراجع الدين الأعلام ) بل أقصد من إرتدى العمة و هو لا يزال في بواكير مشواره العلمي لكني أطلق عليه بـ ( العالم ) لأنه لا كعوام الناس ، و لأنه يملك شيئاً من العلم ، يستطيع معه قراءة المواقف جيداً قبل إطلاق ما أطلق من كلمات جارحات ، تبتعد عن الورع و التقوى و كل مفاهيم الأخلاق التي يدرسونها في ( مكارم الأخلاق ) و ( جامع السعادات ) و ( مقامات القلب ) و غير ذلك من كتب الأخلاق ، بـُعد السماء عن الأرض .
و أختم قائلاً : و لعلّي هنا أتجاوز حدي و قــَدري و ليس لي ذلك لأنه من إختصاص قيادة الخط الشريف و على رأسها سماحة السيّد القائد الصـَّـــدر ( دامت إفاضاته ) و لكنه من باب الإيضاح لمن لهم قلوب لا يفقهون بها – إننا كنا على بيّنة من أمرنا فيما قلنا و أبدينا من مواقف و آراء في الخط الصدري المـُبارك فيما يخص الأحداث الأخيرة في العراق و خارجه ، و هذه البيّنة كانت دينية و شرعية قبل أن تكون سياسية ، و إذا قدّر الله تعالى أن يتمتع هؤلاء المنتقدون ببعض العلم و الموضوعية في الحوار ووفق الدليل و البرهان ، فنحن جاهزون دوماً لئن نبيّن لهم طبيعة مواقفنا و على أيّ حجة إستندت و على أيّ برهان قامت ، و سنصبح و تصبحون ، إن موعدنا الصُبح ، أليس الصُبح بقريب ؟ و في هذا كفاية لمن له من الله هداية .