17 نوفمبر، 2024 12:50 م
Search
Close this search box.

أهرامات مروي..كنوز السودان النفيسة

أهرامات مروي..كنوز السودان النفيسة

لطالما ربط البشر في مخيلتهم (الأهرامات) بأهرامات الجيزة في مصر برغم وجودها في أكثر من بلد کأهرام (تيكال) في غواتيمالا، أو (هرم الشمس) بتيوتيهواكان و(هرم كوكولكان) الملقب أيضاً بهرم تشيتشن إيتزا بالمكسيك، لكننا ننسى أو نجهل أحياناً وجود تاريخ عظيم ومنسي على امتداد بلادنا ومنه أهرامات (مروي) السودانية والتي يعود تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، و(مروي) في الأصل مدينة أثرية ومملكة أسسها (الملك الخمني) تقع في شمال السودان على الضفة الشرقية لنهر النيل، وتبعد حوالي ٦ كيلومترات إلى إتجاه الشمال الشرقي من محطة كانت تتبع للحضارة الكوشية (والتي كانت مروي عاصمتها) بالقرب من مدينة (شندي)، وتبعد حوالي ٢١٠ كيلو متر من العاصمة السودانية الخرطوم، وتحتوي على موقعين كوشيين هامين هما (النقعة و‌المصورات الصفراء)، وتتميز (مروي) بوجود قرابة ٣٠٠ هرم في ثلاث مجموعات كما تضم العديد من المدافن الملكية ما يجعلها أكبر منطقة لتجمع الأهرامات في العالم، وأطلق عليها أيضاً اسم (الأهرامات الكوشية) وهي مبانٍ مميزة من ناحيتي الأحجام والأبعاد، وقد تحطم بعضها على مر العصور تبعاً للظروف البيئية ونهب الكثير منها..

وتتوزع أهرامات النوبة على ثلاث مناطق أساسية تمثلت في الكرو ومروي ونوري، وتحتوي الكرو على قبر (الملك كاشتا) خليفة (الملك ألارا) المصنف كأحد أهم الملوك الكوشيين للنوبة، كما يضم هذا الموقع أيضاً قبور ١٤ ملكة أخرى وعدداً من أحفاد كاشتا، وفي المقابل تحتوي أهرامات منطقة (نوري) على قبور ما يزيد عن ٧٠ ملكًا وملكة وأميراً، كما تتواجد الأهرامات بمنطقة (جبل بركل) لكن شعبيتها أقل بسبب العدد القليل من الأهرامات الموجودة بها والذي لا يزيد عن تسعة..

فخلال الفترة ما بين عامي ٢٥٠٠ و ١٥٠٠ قبل الميلاد كانت مدينة (كرمة) العاصمة ببلاد النوبة قبل أن تنتقل فيما بعد لمدينة (نبتة) ما بين عامي ١٠٠٠ و ٣٠٠ قبل الميلاد، ولاحقاً اعتمدت مدينة (مروي) عاصمةً نوبية، ووفقاً للنصوص المروية التي لم تفك شفرتها كلياً فإن مملكة مروي امتد عمرها من العام ٨٠٠ قبل الميلاد حتي العام ٣٠٠ ميلادية وكان اسمها (ميدوي أو بيدوي) حيث شيّدت في تلك المنطقة (أهرامات النوبة)، وذلك على مدار فترة زمنية امتدت لمئات السنين، وامتازت الأهرام السودانية بقممها الحادة والتي لا يزيد طولها عن ٣٠ متراً كما استخدمت استخداماتٍ عديدة كأضرحة لملوك وملكات وأثرياء مدينتي نبتة ومروي، وذلك بعد تحنيطها ووضعها داخل توابيت تكسى بالمجوهرات والأحجار النفيسة كما وثقتها النقوش التي ترجمتها الأبحاث لاحقاً، وتضم هذه الأهرامات بداخلها غرفاً مقدسة توضع بها الهدايا والأطعمة والقرابين المقدمة للميت، كما أكّد بعض علماء الآثار الذين زاروا أهرامات النوبة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين على وجود أقواسٍ وسهام وأحزمة خيول وصناديق خشبية وفخار وزجاج ملون وأوانٍ معدنية، إضافةً للعديد من المصنوعات اليدوية الأخرى بداخلها، وقد جاءت هذه البضائع الموجودة بداخل الأهرامات والغرف الجنائزية لتثبت وجود حركةٍ تجارية هامة بين بلاد النوبة ومصر والإغريق..

ويعود تطور الثقافة المروية للأسرة الكوشية الخامسة والعشرين التي نشأت في كوش إلى تطور مفهوم الحياة المدنية في (مروي) من خلال نظام (الملك أرككماني) الذي بدأ عام ٢٨٠ قبل الميلاد عندما تم تحويل المدافن الملكية من (جبل البركل) في (نبتة) إلى (مروي)، وبحلول القرن الثالث الميلادي وفي مرحلة نبتة (ما بين عام ٣٠٠ إلى ٧٠٠ قبل الميلاد) طور المرويون أبجدية كتابية جديدة بديلةً عن الهيروغليفية المصرية ومشتقةً منها تتكون من ٢٣ حرفاً واستخدمت لكتابة اللغة المروية في المملكة، ورغم ذلك هنالك دلائل تشير إلى ان الظهور الأول لهذه الأبجدية كان في القرن الثاني الميلادي، ويحتمل أن تكون هذه اللغة استخدمت من قبل الملوك النوبيين المتعاقبين، كما كان للكوشيين في (مروي) إلهٌ خاص واسمه (أباداماك) بجانب الآلهة الفرعونية التي كانت تعبد بدرجةٍ أقل مثل آمون وحورس وايزيس وتحوت وغيرها..

ولم تكن حضارة مروي حضارة عادية أو منكفأة على ذاتها بل قامت على كنف مملكةٍ غنية ومزدهرة من صناعة الحديد والتجارة العالمية مع الهند والصين وقد استقطبت عمال التعدين من كل أنحاء العالم آنذاك، وهذا مادفع المؤرخين لإطلاق اسم (بيرمنغهام إفريقيا) على (مروي) وذلك للإنتاج الهائل ولحجم التجارة الكبير في خام الحديد والحديد المصنع مع إفريقيا وكل مراكز التجارة العالمية في ذلك الوقت، وكان الحديد ينتج بواسطة أفران الصهر والمحارق وكان المرويون أفضل صناع الحديد في العالم، عدا عن تصدير مروي للمنسوجات والمجوهرات فكانت المنسوجات الكوشية من القطن، وبلغت أعلى ازدهارٍ لها عام ٤٠٠ قبل الميلاد، وفضلاً عن ذلك كانت المملكة الكوشية غنيةً بالذهب وكذلك أشتهرت مروي بتجارة الحيوانات النادرة إلى ماهو أبعد من مصر وشمال إفريقيا وكان هذا وجهاً آخراً من أوجه الإقتصاد المروي المتنوع، وقد كانت طبيعة منطقة (مروي) كثيفة الأشجار تجوبها الكثير من الحيوانات مثل الأسود والفهود والفيلة وتحولت هذه الحيوانات إلى معبوداتٍ للسكان حيث تم صنع تماثيل لها..

وقد تم اكتشاف أهرامات مروي عن طريق الرحالة الأوروبيين وأولهم الأسكتلندي (جيمس بروس) عام ١٧٧٢ م، ولكن استكشاف مروي بدقةٍ علمية تم لأول مرة عام ١٨٤٤ م بواسطة العالم (كارل ريتشارد ليبسيس) الذي قام برسم العديد من الخرائط والرسومات والتي أودعها بجانب ما اكتشفه من تماثيل ومجوهرات في متحف برلين أيضاً، كما جرى استكشاف المنطقة مرةً أخرى في الفترة ما بين عامي ١٩٠٢ إلى ١٩٠٥ م بواسطة عالم المصريات والمستشرق الإنجليزي (إي. أ وليامز بدج) وهو الذي اكتشف أجمل وأهم ماعثر عليه في مروي حتى الآن، مثل مجسمات النحت البارز في حوائط المعابد التي تظهر أسماء الملكات وبعض الملوك وبعض فصول كتاب الموتى والمسلات المنقوشة باللغة المروية والأواني المعدنية وأعمال الخزف، وقد تم تفكيك النحوت البارزة حجراً حجراً وتم نقلها إلى المتحف البريطاني وأعيد تجميعها جزئياً، كما تم تجميع الجزء المتبقي في متحف السودان القومي بالخرطوم..

وقد توالى نشر الكثير من الأبحاث والمقالات والتقارير في الكتب والمراجع والمجلات العلمية والتاريخية عن هذه الأهرامات التي أثارت انتباه العالم وأطماعه، فقام الحاكم البريطاني للسودان (ريجنالد ونجت) عام ١٩١٦ بإرسال قواتٍ لشق الطرق الي (أهرامات مروي) وفيما بينها، فتسبب ذلك في غرق العديد من الأعمدة والآثار، وقد دُمرت بعض الأهرامات من طرف بعض الرحالة الذين جاءوا بحثاً عن كنوز ملوكها لنهبها وخاصةً من طرف الإيطالي (جوزيبي فيرليني) عقب معلوماتٍ قدّمها عددٌ من الباحثين الأوروبيين عن هذا الموقع، وأثناء مغامرةٍ جمع خلالها كمياتٍ كبيرة من الكنوز والذهب والفضّة تسبب هذا السارق في تخريب وتدمير ما لا يقل عن ٤٠ من أهرامات النوبة، وبعد محاولاتٍ جاهدة لبيعها في كلٍ من إيطاليا وفرنسا تمكن (فيرليني) من بيع جانبٍ هام من كنوز النوبة التي جمعها لملك بافاريا لودفيغ الأول (وهي ولاية ألمانية)، وحالياً توجد هذه الكنوز النوبية بمتحف المجموعة الوطنية للفن المصري بألمانيا، ويذكر أنه على مدار قرون تعرضت الأهرامات النوبية للنهب والتخريب، وما بين عامي ١٩١٦ و١٩١٩ قاد عالم الآثار الأميركي (جورج أندرو رايسنر) أبحاثا عند (أهرامات نوري) وتمكن من العثور على العديد من الغرف الجنائزية التي احتوت على أماكن دفن ما لا يقل عن ٨٠ فرداً من العائلة الملكية بمملكة كوش..

وقد اختيرت (مروي) في حزيران/يونيو عام ٢٠١١ ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي نظراً لما تملكه من تاريخٍ ومقومات تضعها ضمن أهم وأقدم وأعرق الحضارات في التاريخ الإنساني، والتي لا زالت محل بحث وتنقيب واكتشاف ٍ مستمر حتى اليوم إلى جانب العديد من المواقع الأثرية داخل السودان، ولعل (مروي) بكل ما تحتضنه من كنوز مثالٌ حي عدا عن كثير ٍ من الأمثلة في منطقتنا وبلادنا الزاخرة بإرثٍ عريق على أن التغطية الإعلامية والتعامل مع مختلف القضايا على اختلافها ليس منصفاً أو حيادياً، ويحتاج منا إلى بذل مجهودٍ شخصي كما يحتاج إلى التفكير والبحث والتحري والثقة في ما نملك حتى وإن لم يحظى بدعمٍ يضفي عليه البريق ويكفينا أننا نقدره ونعتز به….

أحدث المقالات