18 ديسمبر، 2024 6:42 م

أنماط الفهم المعاصر للدين (الإسلامي)

أنماط الفهم المعاصر للدين (الإسلامي)

توجد في عصرنا الحاضر أنماط متعددة لفهم الدين عموماً، و الدين الإسلامي خصوصاً. بعض هذه الأنماط، كما سنرى، غربية المنشأ و أُقحِمتْ على المجتمعات العربية و الإسلامية عُنوة من خلال الترجمة و الدعوة و الدعاية الغربية و الغزو و الإحتلال، و أصبحت تحتل جزءً كبيراً من النشاط الفكري و الاجتماعي و السياسي في العالمَين العربي و الإسلامي.

1.    الفهم العِلمي السليم: يقوم على أساس الدليل الفكري العَمَلي المباشر و غير المباشر. و الدين الإسلامي ـ حسب هذا الفهم ـ هو:
أ‌.       التوازن بين الجانب الروحي التأملي و الجانب الطقسي.
ب‌.    التوازن بين العبادات و المعاملات (بتعبير الفقه الإسلامي).
ت‌.    التوازن بين الأمور الدينية و الدنيوية.
ث‌.    التوازن بين العقل المنطقي و العقل العاطفي، و هو الذي يسمى “الحكمة” بالمصطلح القديم ـ الحديث.
ج‌.     التوازن بين حقوق الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد، أي التوازن الطبيعي ـ البيئي. و تعني أيضاً أن يعيش الإنسان منسجماً مع نفسه و طبيعته و بيئته البشرية و اللابشرية.

و على هذا الفهم جزءٌ كبيرٌ من عامة الناس المسلمين و غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى.

2.    الفهم التقليدي المتوارث: يستند إلى محاكاة الموروث من الآباء و الأجداد دون مناقشة و دراسة و تأمل، حسب مبدأ “ما صَلَحَ لهم يَصلَحُ لنا”. يمتاز هذا الفهم بالسهولة و الضعف و القلق و التذبذب. لهذه الأسباب قد يستمر الفرد على هذا الفهم طوال حياته أو قد يتحوّل إلى الفهم الوارد في الفقرة الأولى أو الثالثة.

غالباً ما يتمّ الخلط بين هذا الفهم الخاطئ و بين المحافظة على التراث. و على هذا الفهم جزءٌ من عامة المجتمع الإسلامي و غير الإسلامي.

3.    الفهم المرضي: يقوم على أساس المرض النفسي ـ الاجتماعي المعقّد دون وعي الفرد المُصاب، ثم يكتسب صبغة عقائدية (سياسية أو دينية أو كلاهما). فكما أن الإنسان المصاب بمرض الذُّهان أو الهَوَس (Psychosis) يرى و يسمع و يشم و يتذوّق و يلمس أشياءً غير موجودة لكنها حقيقية واقعية بالنسبة له فقط، فإن الإنسان المصاب بمرض التعصّب (التطرّف أو الطائفية)، ينتابه الذعر الشديد من أشياء كثيرة و من كل إنسان يخالفه. فيلجأ إلى العنف اللفظي و الجسدي لإزالة مصدر الخوف و القلق، و لِتحقيق شعور مؤقت بالارتياح. و بما أن معظم الناس يخالفونه فيما يعتقد و يفعل، فإنه في صراع عنيف مستمر مع نفسه و المجتمع. قد يعيش المُصاب بهذا المرض بشكل انفرادي أو بشكل منظّم في مجموعة إجرامية أو إرهابية، جمعية سرية تخريبية، أو حزب سياسي هدّام. هذه الحالة المرضية تستغلّها بعض القيادات السياسية و الدينية و مخابرات الدول الكبرى لتجنيد أعضاء جدد يخدمونها باستمرار. و هؤلاء لا يمكنك مناقشتهم بطريقة منطقية مهذبة لأنهم سيعتبرونك العدو الخطير الذي يجب القضاء عليه.

على هذا الفهم جزءٌ ضئيل جداً من المجتمع الإسلامي و غير الإسلامي، لكنه خطير و صاخب جداً.

4.    الفهم الصهيوني (المسيحي ـ اليهودي الغربي): و هو فهم يستند أساساً إلى التفاعل الجاد مع الأساطير و الخرافات الإسرائيلية القديمة و الحديثة، و الكراهية العميقة، و التنافس الشديد على السلطة و النفوذ العالمي، و التآمر المستمر ضد أتباع الديانات العربية (أو الشرقية ـ كما يسميها الغربيون)، و هي الديانة الإسلامية و المسيحية و اليهودية و الصابئية و غيرها. تمتاز هذه الديانات بالاعتدال و التسامح و التعايش السلمي و البناء المشترك و التصاهر المستمر. و تُسمّى بالديانات العربية لظهورها و انتشارها في البلاد العربية و إن كانت بلغات أخرى شبه عربية (أو سامية ـ كما يسميها الغربيون). يعتمد الفهم الصهيوني على مبدأ التفوّق العنصري و الفكري و الحضاري على باقي البشر، و يُمارس مبدأ “إعادة كتابة التاريخ” بالطريقة التي تعجبهم. الإسلامَ الذي يعرضه الفهمُ الصهيوني هو: العنف بكافة أشكاله و درجاته، الظلم، التخلف، تبديد الثروات، الفساد، البلاهة، التبلد، الخبث، و السرطان الذي يجب اجتثاثه بسرعة. من الناحية المبدئية، يرى هذا الفهمُ الإسلامَ بأنه مجرد نسخة بشرية محرّفة عن المسيحية و اليهودية، و أن رسول الإسلام هو شخص مسحور، مجنون، ملقَّن، إلخ. ترى هذا الفهم شائعاً في الإعلام و الفكر الغربي المُعادي، و مُجسَّداً في أعمال مؤسسة هوليوود الفنية الأمريكية. لعلّ من بين أهداف هذا الفهم الخاطئ هو جعل المواطن المسيحي الغربي يكره و يخاف الإسلام و المسلمين و العرب و يحتقرهم، و لا يفكّر مطلقاً بالتعرّف على أصول الإسلام خوفاً من اعتناقه. بهذا الفهم استطاعت الدول الغربية إنشاء كيان صهيوني عنصري إسرائيلي يهودي في فلسطين المحتلة. و هو الكيان الذي يمارس جرائم الإبادة البشرية ضد الفلسطينيين بإنتظام. و استطاعت الدول الغربية تجنيد بعض الناطقين بالعربية و المنتسبين للإسلام، من صحفيين و كتاب و سياسيين، ليكونوا دعاة الصهيونية الغربية بين أوساط العرب و المسلمين.

5.    الفهم المادي الغربي: يستند إلى الشيوعية (الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية)، و الاشتراكية، و القومية، و العنصرية، و المادية الرأسمالية، و الوجودية الإلحادية. حسب هذا الفهم الخاطئ فإن الدين عموماً، و كذلك الإسلام، هو “ناتج عرضي لحرب الطبقات” و مجرد وسيلة ابتكرها ذوو السلطة للسيطرة على المجتمع منذ القِدَم، و أنه مرتبط بالتخلف و الظلم و العنف، وغيره. يلتقي الفهم المادي الغربي مع سابقه، الفهم الصهيوني، في معظم جوانبه التطبيقية، و يوجّه إهانات مباشرة للأديان كلِّها و للأنبياء و المرسَلين و أتباع الديانات، و من بينهم المسلمين. و لهذا الفهم أيضاً نظرة استعلاء و تفوّق على باقي البشر الذين لا يتّفقون معه بالتفكير و السلوك. كانت بعض الأنظمة الإستبدادية، قبل سقوطها، مثل الإتحاد السوفيتي الشيوعي و ألمانيا النازية و إيطاليا الفاشية، أقوى الدعاة و الناشرين لهذا الفهم الخاطئ. و في العصر الراهن، تتولى الإمبراطورية الأمريكية و البريطانية نشر الفهم المادي الغربي و الصهيوني بنفس الوقت. تمكّنت هذه الدول، بالغزو و الاحتلال و التوسع العسكري و العنف المفرِط و الإعلام الفعّال المكثّف، مِن بسط سيطرتها على معظم البلدان العربية و الإسلامية بطرقٍ مباشرة و غير مباشرة. كما تمكّنت من تجنيد عددٍ كبير من المواطنين الناطقين بالعربية و المنتسبين للإسلام ليقوموا بالدعوة لفهمهم و الدفاع الفكري عنهم و التجسس لصالحهم.

و بعد أن كانت الإمبراطوريات الأوروبية المسيحية متناحرة بينها إلى درجة الدمار الشامل، كما حدث في الحربَين العالميتَين الأولى و الثانية، تصالحت فيما بينها و ازدهرت، و صدّرت الصراع الفكري و العسكري إلى البلدان العربية و الإسلامية ليعيش مواطنوها بؤساً و شقاءً في عصرنا الراهن. من ثمار التعاون بين الدول الغربية المسيحية و استغلال الفئة ذات الفهم المرضي الواردة في الفقرة الثالثة أعلاه، تشكيل منظمات إرهابية وحشية، مثل تنظيمات القاعدة و ما يُسمّى “الدولة الإسلامية في العراق و الشام” أو “داعش” اختصاراً، لِتعيثَ فساداً في أرض العراق و الشام، و تُغيِّر التركيبة السكانية قسراً، و تُمعِن في الهمجية المطلقة بشكل يُذهل الناس الأسوياء و المجتمع الدولي.

مِمّا تقدّم يتبيّن ما يلي:

إن الفهم الثاني، التقليدي المتوارث، يمارسه كل البشر بدرجات متفاوتة نظراً لسهولته، و يحاربه الإسلام بضراوة ـ حتى لو كان الموروث هو الإسلام نفسه. يعود السبب في ذلك إلى أن الإنسان يقع بسهولة ضحية لتكاسله و اتّكاله على من سبقوه، و سرعان ما تتحوّل الطقوس الدينية الصحيحة إلى وثنية متخلّفة عديمة الجدوى أو ضارة. أما الفهم الثالث، المرضي، فإنه يتعلّق بالجانب السلبي من الطبيعة البشرية، و يظهر في كل المجتمعات و العقائد السياسية و الدينية، قديماً و حديثاً و ربما مستقبلاً أيضاً، لكنه يزداد في عصور الانحطاط و التخلف. مقابل ذلك، من الواضح أن الفهم الرابع و الخامس، الصهيوني و المادي الغربي، هما أساساً بضاعة فاسدة مصدّرة من الدول الغربية إلى البلاد العربية و الإسلامية، و أزهقت أرواح ملايين الناس و بعثرت أموالاً طائلة، و ضيّعت فرصاً ذهبية للتطور و التقدم الإنساني في القرن العشرين و القرن الحادي و العشرين.

و أخيراً، فإنّ الفهم الأول، العِلمي الطبيعي السليم، هو الوحيد الذي نشأ في بلاد العرب قبل غيرها، و تحمّس له الإسلام و المسلمون، و يتميّز بالتسامح و التعايش و السلام و الوعي و الإنسانية و الحضارة الراقية.