يوم الاثنين الماضي أوصل إلي أحد الأصدقاء خبر اعتقال الصديق المفكر أحمد القبانجي من قبل السلطات الإيرانية، وبالتحديد من قبل جهاز (الاطلاعات) سيئ الصيت.
ما أن تحققت من صحة الخبر، حتى أرسلت بنص مقترح مني لـ(حملة مطالبة بإطلاق سراح المفكر أحمد القبانجي)، إلى (الحوار المتمدن)، فسارع الصديق رزﮔار عقراوي بوضعها على الصفحة الرئيسة للحوار، فوصل عدد الموقعين حتى هذه الساعة 1200 متضامن مع القبانجي، وهو ما يتناسب مع أهمية القضية، فنأمل أن تصل أعداد الموقعين على البيان أضعاف أضعاف ما وصلت إليه، وإن كانت التواقيع ذات قيمة نوعية، لما اشتملت عليه من أسماء لامعة في عالمي الثقافة والسياسة.
لا أدري ما هو السبب الذي جعلني لا أكتب شيئا حتى الآن، باستثناء اقتراحي لنص الحملة المذكورة آنفا. فقد وضعت عنوانا للمقالة «انقذوا حياة المفكر العراقي أحمد القبانجي»، لكني كلما فتحت الملف، لم تسعفني الكلمات التي أراها مناسبة لمثل هذا الحدث.
لكني شعرت اليوم بأن مسؤولية الصداقة، ومسؤولية الانتصار للحرية، ومسؤولية الحرص على حياة إنسان، تنبع حرمتها من كونها حياة إنسان أولا ، ولأنه مفكر ثانيا، ولأنه حُرّ ثالثا، ولأنه عراقي رابعا، ولأنه صديق قبل كل ذلك.
لا يهمني سواء آمن بما آمن به القبانجي، أو كفر بما كفر، لا يهمني سواء اتفقنا في أشياء، أو اختلفنا في أشياء، المقدس عندي يبقى الإنسان، والحرية، والحياة، والفكر، وتبقى لأحمد القبانجي قيمته ووزنه ودوره الرائد وشجاعته وقلق البحث والتصحيح عنده.
والذين يخشون من فكر القبانجي، ويطالبون السلطة الثيوقراطية المتخلفة والمستبدة فيما يسمى بالجمهورية الإسلامية بإنزال العقاب بصديقنا المفكر الشجاع، لا يمكن أن يكونوا مؤمنين بما يؤمنون به، ويتعصبون له، ويقتلون أو يحثون على القتل من أجله. إنهم شاكّون بدينهم ومذهبهم وعقائدهم شكّا كبيرا، ولكنهم يكابرون عن الاعتراف بشكّهم هذا.
سيقال لي هل دخلت في قلوبهم لتتعرف على شكّهم؟ طبعا لا، لكن انظروا، هؤلاء لو كانوا متيقنين من إلهية مصدر ما يؤمنون به، لما عاشوا هذا الهلع والفزع والرعب والخوف من الكلمة الحرة، لأن كلمة الكفر – حسب رؤيتهم – لا يمكن أن يكون بمقدورها الانتصار على كلمة الله ودحضها. المؤمن بإلهية ما يؤمن به لا يمكن أن يخاف من نقد ودحض هذا الذي يؤمن به. إذن يمكن القول: «من المتدينين من يقول آمنا بالدين والمذهب، وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا بدينهم ومذهبهم، كما يخادعون الذين لم يؤمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون».
عندما كنت مهووسا بخمينيتي في الثمانينيات، وكنت أتبرك بالذهاب إلى ما كنا نسميها بـ(إيران الإسلام)، وأزور قم، رأيت مرة مجموعة من الشباب الذين كانوا يقاتلون على الجبهات مع الإيرانيين، ظنا منهم ومنا آنذاك أن هذا القتال جهاد في سبيل الله، ودفاع عن دولة الإسلام في حرب الكفر العالمي على يد ممثله صدام ضدها، وظنا منهم أنهم بمشاركتهم في القتال إنما يُسرّعون من خلاص الشعب العراقي من ديكتاتورية صدام، وكان أكثرهم لا يريد القضاء على صدام من أجل إقامة ديمقراطية في العراق، بقدر ما كنا بجنوننا وعتهنا وتخلفنا نحلم بدولة إسلامية على غرار جمهورية إيران الإسلامية، وتحت وصاية وبالتالي ديكتاتورية الولي الفقيه، وقى الله العراق شرها. عندها أتذكر ذلك الشاب بعمته وعباءته السوداوين، ودشداشته البيضاء، أحمد القبانجي، ضمن شباب الحوزة العراقيين في قم آنذاك. فحزب الدعوة على سبيل المثال كان يرجح لشبابه في حال عدم ذهابهم إلى الجبهات أن يتوجهوا إلى الحوزة العلمية، لتخرّج المخرِّفين. لكن أمثال أحمد الذي يعيش شجاعة التمرد، وهم ليسوا قليلين، ممن تمردوا على الحوزة، لا يمكن إلا ينقادوا بالنتيجة إلى العقل، وليس إلى الكتب الساذجة والسطحية التي تدرس في الحوزة.
لم أكن أعرف أحمد القبانجي معرفة شخصية، لكني عندما التقيته في بغداد، لا أعرف كيف حضرت أمامي صورته، وهو شاب يافع مع مجموعة من شباب الحوزة العراقيين، بصورته التي ذكرتها آنفا.
وقبل أن ألتقيه في بغداد، كنت قد قرأت لأول مرة كتابا له، وهو (الإسلام المدني)، فأعجبت به كثيرا، حيث يشقق ويميز بين ثلاثة إسلامات، إسلام مدني يدعو له، وإسلام سياسي، وإسلام سلفي، ويعني به الإسلام التقليدي المحافظ غير المسيس، سواء كان سنيا أو شيعيا.
لست مدافعا عنه، كوننا نحمل فكرا متطابقا، فنحن لا نتطابق في التفاصيل، وهذا أمر طبيعي، فالذيين يعتمدون مرجعية العقل، وبما أن نتائج النشاط العقلي الإنساني نسبية، ولا يعتمدون المسلمات والنهائيات واللامسموح مناقشته والتشكيك به، فمن الطبيعي ألا تتطابق رؤاهم الفكرية في كل التفاصيل، لأنهم لا يريدون أن يؤسسوا لدين جديد بديل، بل يريدون أن يفكّوا أسر العقل من زنزانة النصوص (المقدسة) لينطلق في فضاءات العقل، فيصيب حيث يصيب، ولا قداسة لصوابه، ويخطئ حيث يخطئ، ولا إثم عليه في خطئه.
المهم هو حرية الفكر، والمهم، شجاعة اقتحام المحظور، والمهم هو الجهد الصادق في تصحيح ما يجد المصحح وجوب تصحيحه. فالقبانجي يعتمد على سبيل المثال الإيمان الوجداني، بينما أعتمد أنا الإيمان الفلسفي، بما أسميه بلاهوت التنزيه.
ولكن ليس المهم أن نتفق أو نختلف، بل المهم الدفاع عن قيمة الحرية كحرية، والمهم الدفاع عن الفكر كقيمة إنسانية، لأن الفكر هو أرقى أنواع النشاط الإنساني في تقديري، والمهم الدفاع عن كرامة الإنسان، وأمنه وحياته وحريته.
عندما قرأت تحريض إخوة المفكر السجين، وعندما قرأت تحريض أحد ممثلي الحوزة في النجف، وعندما قرأت خبر تلبيس سجيننا ومفكرنا وشجاعنا القبانجي جريمة التجسس لصالح إسرائيل، زاد قلقي على حياة حبيبنا السيد أحمد القبانجي.
وأخيرا أرجو ألا يتحقق توقعنا في عدم اكتراث الحكومة العراقية، وبالنتيجة مشاركتها في مسؤولية ما سيلحق بأحمدنا القبانجي، بل أن تضطلع بمسؤوليتها تجاه مواطن عراقي، مهدد بحياته، لتثبت أنها تحترم ولو بدرجة ما ما أقر في الدستور من حريات وحقوق، وإلا فنحملها المسؤولية الأخلاقية عن مصير المفكر العراقي السجين في أحد سجون الولي الفقيه.
الحرية لأحمد القبانجي.
الحرية للفكر.
ولتتكسر القضبان، ولتتهدم الجدران، ولتسقط الأصنام والأوثان.
[email protected]
www.nasmaa.org