18 ديسمبر، 2024 7:07 م

اتصفح ما يكتبه الأصدقاء من أعمدة في الصحف والمجلات، وأجدني معهم حائراً فيما سأكتب اليوم أو في الغد، وهي لعمري مهنة شاقة، شاقة لشاعر، عُرفَ على أنه يكتب الشعر، ليس غير الشعر. في الحيز الضيّق هذا، “ضيّق الله في أرزاقهم” برواية الغلمان والجواري لسيدنا الجاحظ، أجدني طائعاً لمقولة آرثور رامبو: الشاعر آخر، أنا الآخر، المقولة التي ذكرنا بها، الرائي الأكبر سعدي يوسف، وإذا كنت اختلفتُ مع الاخضر بن يوسف في بعض ما ذهب اليه، إلا أنني معه في أنا الآخر، نعم، الشاعر مختلف، هو خارجٌ من ما توافق عليه الجميع، إلى ما اختلف وشذَّ وتعاظم في سماء اليقين، ومثل “عارف انفرطت مفاصله” بحسب وصف عبد الرحمن طهمازي، أجدني منحازاً الى أناي، تلك التي خُلقت لكي تكون شاعرة.

متى كان الشاعر مستكيناً، قابلاً لما يُملى عليه؟ وهو الخرق والرفض والنفور، وهو الركب منتهَباً مالاً وألقاً وعنفواناً، وهو الصارخ في برية الآخرين: “خذاني فجراني” بتعبير ابن الريب. هكذا، أجدني ابناً رافضاً لما يجده الآخرون نعيماً، قابلاً بما يتصوره البعض جحيماً، “أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن”. أقرأ في بيسوا، هذا البرتغالي، ذو الأنداد الثلاثة، حيث نشر جملة من قصائده تحت اسم ريكاردو رييس، ولم يكتف بذلك، فنشر قصائد أخرى باسم شاعرين آخرين، هما البيرتو كاييرو والبارو دي كامبوس، هكذا أراد أن يتخفى في أنداده الشعراء، الذين خلقهم لذاته، لكنه أصرَّ على أن يكون كتابه” اللاطمأنينة” كتبه هو، فرننادو بيسوا.هذا الذي ظل مواظباً يذهب للوظيفة كل يوم، ويعود لشقته في الطابق الثالث في شارع دوس دورادوس بلشبونة، معاون المحاسب، الشاعر، الذي يكره مديره فاسكيز لكنه الأمين على يومياته، يكتبها شعراً لم ينشره في حياته.
ليس بمقدور أحد أن يكون مثلما كان بيسوا (1888- 1935) أنا محال على التقاعد منذ عقد ونصف، كنت أعتقد بأنني سأكون وفياً للشعر أكثر من أيّ يوم آخر، لذا استعجلت ترك الوظيفة، عملاً بنصيحة العظيم محمود البريكان:” الشعر يجب أن تكرس له حياة كاملة” لكنَّ ظل البريكان مدرساً في معهد إعداد المعلمين أكثر من ثلاثين سنة، قبل أن يتقاعد، وقد أكلت الوظيفة أكثر من نصف عمره، مثلما أكلت وتاكل اعمار الشعراء والكتاب في العراق وبلاد العربية كلها. في الشرق المريض هذا تتناهب جسد الشاعر جملة قوانين، ليس آخرها الأسرة، وليس أقل منها المجتمع.
كنت نشرت على صفحتي في الفيس بوك، صور أربع زجاجات نبيذ، تمكنت من تمريرها على اكثر من عشر نقاط للتفتيش، على الطريق بين بغداد والبصرة، كانت سعادتي بها لا توصف، السعادة، هي أن تُري الآخرين سعادتك، لكنًّها لن تبلغ كمالها مع عدد المعترضين، القائلين بوجوب حذفها، فأنت رجل في الستين، ولم يقولوا شاعراً.
تغلق الباب عليك وأنت تكتب الشعر، وتتخذ ركناً من البيت وأنت ترد على مكالمة صديقة لك، تبحث عن لفظ سليم ونقي وأنت تستشيط غضباً مما يفعله جارك، تكتب تقريظاً لكتاب لم تكمل قراءته، ذلك لأن كاتبه صديق لك، وعاتب عليك صمتك عن ما يكتب، تحترم خطيب المسجد، لا لأنه يستحق لكنْ، لأنَّ أباك كان يصلي خلفه، تلجأ الى مسح كل مقاطع الفيديو(غير المحتشمة) خشية أن يقع هاتفك الذكي بيد اللص الذي يتعقبك في الليل والنهار !! عن أي حياة نتحدث، أي شعر يليق ببغضائك صديقي الشاعر، أنت يامن حدثتني عن أندادك العشرين.

نقلا عن الحياة