23 ديسمبر، 2024 12:23 م

ورث الشعب العراقي تركة من التخلف والتعصب الديني ، هذه التركة تتغير وتتمدد وتتقلص حسب الظروف والمناخ الذي يمرُ بها
 
اروي هذه القصة الحقيقية التي تعكس التخلف والجهل الطائفي  لدى البعض من افراد الشعب العراقي وفي وقت او فترة كانت من اجمل وأهدأ الفترات الزمنية التي مرّ بها الشعب العراقي ، وتسمى بالفترة الذهبية .
 
في مدينة الناصرية ، توجد محلة للصابئة وتطل على نهر الفرات ، وسميت بمحلة الصابئة لكثرة ساكنيها من الصابئة ومنذُ القدم ، كانت تتصف بجاملها وطبيعتها ويحدها نهر الفرات من الغرب  والبساتين من الجنوب  وعلى امتداد ضفاف النهر، تكثر فيها اشجار النخيل والسدر ( النبق ) وبعض اشجار الفاكهة داخل البيوت ، وفي ليالي الصيف تهب عليها انسام عذبة وباردة نتيجة موقعها الجميل الذي تحيطه البساتين  والمياه .
 
  ويحاذي محلة الصابئة (كورنيش الصابئة ) الذي يـطـلُّ علىـيـهِ  بيت الشيخ دخيل الشيخ عيدان رئيس طائفة الصابئة المندائيين للفترة منذُ اواخر القرن الثامن عشر  وحتى سنة 1964 ،  وقد اصبح مركزاً دينياً لأبناء الطائفة ، اضافة الى ذلك كان مكاناً تجمعياً يلتقي امامه معظم ابناء المحلةِ من صابئة ومسلمين ومن مختلف الديانات الاخرى ، فهنالك توجد ( مُسَناةْ ) وهو جدار ارتفاعه بحدود  الـمـتر وهو من الطابوق والاسمنت ، شُيد  للوقاية من الفيضان ، كان يستغل للجلوس عليه من قبل سكنة ابناء المحلة وخاصة صباحاً ومساءاً  ، وعلى امتداد النهر الذي يحـاذي ا لمحلة  .
 
امام بيت الشيخ دخيل توجد  فتحة للمُسناة  وهي( مدرجات )  تنحدرمن الكورنيش الى شاطئ النهر ومن ثم الى النهر، وأخرى ثانية ، طالب بها الشيخ دخيل بلدية الناصرية ، من اجل تسهيل الصعود والنزول الى النهر لِغرض إِجراء الطقوس الدينية لأبناء الطائفة ولخدمة ابناء المحلة واصحاب الزوارق وعلى اختلاف انواعها بشكل عام .
 
اطلق على المكان الذي تُجرى   فـيـه الطقوس الدينية  بشريعة الشيخ دخيل   وهذه التسمية تزامنت  مع وجود بيت الشيخ دخيل  ، هذه الشِّريعَةِ اصبحت مركزا مهما لتجمع الكثير من ابناء المحلة ومركزاً للتسوق ، حيث كان يلتقي  عندها اصحاب الزوارق النهرية  من صيادي الاسماك والمزارعين الذين  يسوقون منتجاتهم الزراعية من خضروات
 وفواكه وتمور ورطب وعلف للحيوات والطيور البرية وبعض السلع الاخرى من قصبٍ وبردي وبُواري وغيرها من المواد . كان معظم ابناء  محلة الصابئة والمحلات المجاورةِ لها يفضلون شراء هذه المنتجات من هذه الشريعة ،فهي طازجة واسعارها ارخص من باقي الاسواق الاخرى في المدينة ، هذا النشاط في الشريعة يبدأ منذّ  الصباح ولغاية منتصف النهار يوميا ، ومن تبقى لديهم من منتجات ، ينقلونها الى السوق المركزي للمدينة ( الصُفاة )  بعد ان يتركوا زوارقهم مربوطة في شريعة شيخ دخيل .
كانت مدينة الناصرية تمثل التاريخ الديني لمختلف الحضارات المتعاقبة ، فقد عاش فيها المسلمون وعلى اختلاف طوائفهم ومذاهبهم والصابئة واليهود و  المسيحيون ومختلف الديانات الاخرى ، وكان لعشيرة السعدون دوراً مهماً في الحفاظ على هذا التنوع من الثقافات والمذاهب .
في احد الايام اراد احد الاخوان  ويدعى (ابو ياسر ) ان يشتري سمكاً من شريعة شيخ دخيل  وقال لصديق له ،الا ترغب بالذهاب الى شريعة شيخ دخيل غدا ، لشراء سمك وخضرة ورطب  من هناك ، وبالتالي اتفق الاثنان للذهاب وهم من عشيرة آل السعدون ( سنّه )
كان الزي الذي يرتدونه ابناء عشيرة آل ا لسعدون نفس زي ابناء الصابئة ، فهم يرتدون الزي العربي والكوفية الحمراء والعقال ، وبالتالي يختلفون عن الباقين من الاخوة المسلمين (الشيعة )  بلون الكوفية فقط
وفي صباح اليوم التالي ذهبا ابو ياسر وصديقه الى شريعة  شيخ دخيل ، واخذوا يتجولون لشراء السمك من البائعات اللواتي يجلسن على الرصيف لبيع السمك ، ووقفـا امام أمرأَةٍ كبيرة السن (عجوز ) وكان لديها سمك تازة .
 
ابو ياسر مدّ يده وأراد بأصبعه ان يؤشر على سمكةٍ مستفسرا عن سعرها …. فَصاحت به العجوز .. لا ..لا   اتجيس ( تمسك ) السمچ  ….
رد عليها ابو ياسر ….ليش ؟؟؟
ردت عليه وقالت ….ما ابيعكم ….روحوا  من جـدّامي ( من أَمامي )
انتم صبّه…
رد عليها  ابو ياسر وصديقهُ ….يابه والله احنا مو صبّه….
اشلون إِنتم  مو  صبّه … ؟ !
 
مو لابسين دشاديش بيض  وچفافي  حمر وبشريعة شيخ داخل ( شريعة الصبّه )….؟
رد عليها ابو ياسر…
أحنا سنّه ….مو صبّه…واذا ما اتصدكين  نحلفلچ بيش ما تردين
ردت عليه العجوز بائعة السمچ  ،
    وقالت … أنجَـس … وانـجـسين . 
 
هذه الرواية كانت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي
هذه العجوز معذورة ،بسبب جهلها والتربية التي تربت عليها دينيا  ، وهذه الحالة لم تشكل ظاهرة واسعة فغالبية الاخوة من ابناء الطوائف المسلمة وعلى اختلاف مذاهبهم  قد تجاوزوا هذه النظرة  المتخلفة التي تميز وتفرق الاخرين  ، وللأسف الشديد في ظل هذه الاوضاع الملتهبة الآن ازدادت النعرات الطائفية والدينية ،نتيجة ما يخطط  لها ، لتمزيق النسيج العراقي  الذي ظلّ ولا يزال صامدا امام هذه المحاولات البائسة  والفاشلة  ، وذلك بوعي ووحدة ابناء العراق  بكل قومياته ومكوناته  .