حياتنا العربية موغلة في التعميم وهذا سبب بلوانا، كل الأمور تعمم على الجميع دونما استثناء فتكون النتائج مريعة تماما، فليس ثمة اعتبار للفوارق الشخصية بين شخص وآخر.
ماذا أفعل بالصحة المكتملة عندما أتخلى بأمر الطبيب عن جزء كبير من حريتي؟ كيف أرى نفسي وهي سجينة أغلال وقيود لا أملك معها التنفس وإطلاق آهة حرّى أو ضحكة مديدة؟ كيف أجهش ببكائي وأنا أرى أحوال أوطاننا المريعة؟ كيف أواصل الكتابة وأنا رهينة أغلال؟
مررت طوال عمري بتجارب شتّى ومواقف عسيرة وآلام غربة ومواجهة أخطار وبحثت في معتقلات المدن عن معتقلين من أهلي في بغداد ومدن أخرى، وواجهت في بلاد كانت تسمّى وطنا مواقف تحدّيتها بالاصطبار والإرادة وعندما لم يعد بوسعي مواصلة التحدي كنت أبكي وأنكفئ على ظلالي وأستسلم لصمتي ثم لا ألبث أن أستعيد همتي تحسبا لفقداني حرية الفكر والقول والحركة إن فقدت قدرتي على المقاومة.
غادرت بغداد وغادرت مدنا أخرى وجدتها تنال من حريتي، ولم آبه لما أخسره فكل خسران يهون أمام خسران نعمة الحرية..
حياتنا العربية موغلة في التعميم وهذا سبب بلوانا، كل الأمور تعمم على الجميع دونما استثناء فتكون النتائج مريعة تماما، فليس ثمة اعتبار للفوارق الشخصية بين شخص وآخر، الأطباء يفعلون ذلك ومثلهم الساسة ومنتجو الشعارات الحماسية والمشعوذون والسحرة الذين يقدمون خلطات الأعشاب والتعاويذ ذاتها لجميع المهمومين.
قال الطبيب وهو يشرح لي صورة الرنين المغناطيسي ويتحدث عن الحبل الشوكي وفقراتي الموجوعة “سترتدين هذا المشد طوال الوقت على مدى شهر كامل في نومك ويقظتك ولا تخلعيه إلا عند الاستحمام وتوقفي عن المشي والحركة”.
خلت نفسي وكأنني أدخلت في قالب حديدي وسأمضي ما تبقى من حياتي في هذا القفص اللعين، كنت أرى المشهد في المرآة على نحو هزلي، وممرضة تشبه السجانات تواصل ربطي بالأغلال وأنا أضحك على نحو هستيري، وحين أتمت الممرضة ربط شرائط المشد بقوة على الجانبين وأحكمت توثيقه بكلاليب معدنية من الأمام وعندما أمعنت في الشد وربط الأشرطة بقوة قاهرة بدأت أفقد القدرة على التنفس وغامت عيناي وتحولت إلى مومياء محنطة.
غادرت عيادة الطبيب وأنا أسيرة المشدّ المدجج بالدعامات والأربطة، حاولت الممرضة أن تضفي أهمية علمية على المشد القاتل وكررت على مسامعي “هذا المشد من تصميم الدكتور، هو من ابتكره لعلاج الديسك”.
كنت أنظر إلى ملامحها المحايدة وهي تحكم تكبيلي بالقيود ولاحت أمامي صورة الرسامة المكسيكية فريدا كالو التي أمضت سنوات شبابها سجينة قفص حديدي بعد حادث اصطدام الحافلة الذي سبب لها عاهات مستديمة.
أحسست ساعتها بمدى عذاباتها الطويلة وهي ترقد على ظهرها في السرير، ومصادفة كنت قد شاهدت مجموعة أفلام وثائقية قبل أيام عن حياة تلك الرسامة العظيمة فريدا كالو التي كانت مجنونة بالفن والحياة والعشق. أحببت هذه المرأة المسكونة بالشغف والمهووسة بالألوان والحيوانات والطيور والثياب الغريبة، فتنتني رؤيتها الصاخبة لسريالية الحياة واحتفائها بالقرود والزهور والقلائد والأساور.
تقبلت فريدا كالو قفصها الحديدي وهي شابة تتفجر بالحياة والطموح وواصلت الرسم وهي مستلقية على ظهرها وأنتجت لوحات سريالية مدهشة، فماذا عنّي وكيف سأتقبل الأغلال في عمري هذا؟
حين وصلت إلى البيت كنت موشكة على الاختناق وفقدان الوعي والقيود تضغط على القلب والأنفاس ووجدتني عاجزة عن الحركة والاستزادة من الهواء، صرخت “اللعنة، فلأتحمل الألم ما تبقى من حياتي ولن أفرّط في حريتي”، فككت القيود وتحررت، ولدهشتي تراجع الألم في الأيام التالية إلى مستوى لم أعهده منذ شهور وتمشّيت لساعتين، ساندتني فكرة تحدي القيود في تخفيف الألم واستنهضت همتي، استعدت حريتي وهمست لنفسي “حياة بلا حرية هي والموت سواء”.
نقلا عن العرب