23 ديسمبر، 2024 4:31 ص

– ما أسمكِ ؟
– سدوري
– من أين انتِ ؟
– من الزمن الغابر …
– كم عمركِ ؟
– زاد عن ألفي عام
– بيتكِ ؟
– جاورَ النهرين …
ضحكا حتى الدمع .. وفجأة توقف ليصرخ فيها ..
– أغربي من هنا ..
– ما الذي يبيحُ لكَ طردي ؟
– الرغبة فيك حتى الثمالة .. أنا إنسان .. شهوة ، بل لنسمها كما يقولون ” خطيئة ”
– ومن منا بلا خطيئة ..؟
إذن كلنا شركاء ، رغبتُكَ … وشهواتي … وفضول الناس
– أسكتي لا تزيدي حرفاًً ..
وكان رحيل لا بد منه ، الشوق المستفيض والرغبة المعدومة … دولابان للدوران ..للأستمرار ،
إننا نعيش متاهة نتخبط وندور ونسقط في ذات الأنحناءات لتكون لعبة ، فالحياة كذلك ، وتذكرت
كلماته يوما ، ” إما الربح أو الخسارة في الحياة .. فِلما الألم ؟ كلاهما متوقع ” .
وقفت عند نقطة العبور وتخطيت الشارع ثم تجاوزت نقطة العبور المؤدية الى نصب الجندي المجهول ،
أحسست برغبة جارفة في القفز ، الرقص على صدر دجلة بين أشجاره ، الشاهد الثابت على مسيرة
الخائفين الراغبين ..!! أغنية تصدح تُبِح الحب تُشبع الرغبة ، تُغرق فضاء هذا الساحل المجيد ،
قدماي يثقلهما التعب والعناء من طول فترة التدريب ، المسرحية ستعرض بعد أيام ، تهالك جسمي على المقعد
في الحديقة العامة ، تمنيت لو أستطيع االأستلقاء هنا في هذا الفضاء على العشب الأخضر كما يباح للرجال
في هذه المدينة . أطبقت جفوني لأحمي عيناي من ضراوة النور الساطع ، لفحة من هواء ساخن خدرت جسمي
ليتها تحرقني ، تحيلني رمادا يُذر ، يذوب في هذا النهر الخالد بحكاياته الكثيرة .
هذه هي السنة العاشرة أعيشها تلميذة طائعة على خشبة المسرح ،
– ” دورك ثانوي ” ، قالها لي المشرف على توزيع الأدوار لهذه المسرحية الجديدة ، وأحسست بغصة مُرّة في
داخلي .
– نعم راضية ، قلتها بخنوع ، في ذات اللحظة أحتقرتُ ذاتي ، إنه خنوع مستمر ،
هل الرفض من شيم ونصيب الأبطال فقط ؟
أما كان يمكن أن أعيش الدور الرئيسي مرة ..؟عندها سيشيرون إلي ، البطلة ، المبدعة ، الرائعة …
الرغبة الى الضحك تعدمني ، سيل دافئ يتقطر .. أرتعشت جميع أوصالي ، دموعي تنهمر ،
إنها تبكي بكاء حقيقي ، لقد خلّفت المسرح بين الشوارع الفرعية لتكون هي البطل الحقيقي على هذا المسرح المفتوح
في الهواء الطلق ، ولكن من منا بطل بصدق … معظمنا مزيفون …متصنعون ، نحاول التصاعد بأنفسنا ملء جهدنا
لنثبت خارطة للصعود والسقوط برسم بياني ..
إننا نتأرجح بين العدم والوجود .
– أنت يا كلكامش .. يا باحثا عن الخلود .. هل وجدت أكسير الحياة ، لقد كانت أسطورتك بدعة من صنع الإنسان ،
ليتلهى .. ليفرح .. ليتعذب على الصورة التي يريد ..؟ من لم يعش شوط العذاب … يحمل راية على صدره ( في العذاب
لذة) لو كان قد أصيب فعلا بلهب من جحيم الوعود.
أحتميت تحت ظل أفكار نفضت عن أيامي كل عبث ولهو لطفولة رقصت على صفحات أحلام اليقظة .. طفولة شهدت ومارست
الرقص والتمثيل أمام مرآة دولاب والدتي العتيق ، يومها كنت أُؤدي الأدوار وحدي بعد أن أقفل باب الغرفة علي عندها أجد
الوحدة والخلوة في الدارالتي لا تملك أكثر من غرفتين واحدة لوالديّ والأخرى لي ولأختي الأصغر مني .
أرفع وجهي مغمضة عيناي وشفتاي مطبقتان منتظرة القبلة وعندها أحس ببرودة المرآة .. البطل الحقيقي غائب لا حضور له ،
البرودة تلسع شفتي ، أستفيق من حلمي لأجدني في المرآة ، صوت أمي يناديني ، وقد يكون أبي .. يا الله لماذا يستعبد
الأطفال في سنيهم المبكرة ، حتى أحلامهم تصادر ، آه لو كان والدي قد رآني ، من كان يستطيع أن ينقذني من بين يديه .
– بابا أريد أن أقبلك ، هذا ما طلبت منه أختي الأصغر مني وعمرها ست سنوات والمقربة الى قلبه فمد لها خده وهو يجلس
على جانب اللأريكة ،
– ما هكذا يا والدي
– كيف اذن !؟
أقبلكَ من شفتيك كما تفعل البطلة في الفيلم السينمائي
أهذه هي الحصيلة التي تشترونها ببطاقات عندما تذهبون للسينما ؟؟
هل أدفع لكم لكي تتعلموا الفساد وانتم أطفال من السينما ؟
كلُ همي أن تكونوا المثل الذي أفاخر به – لا سينما بعد اليوم .
أذكر أنني تجرأت بنغمة ضعيفة مرتعشة ، ” كل القوم يذهب إليها يا أبتي ”
كان هذا في منتصف القرن التاسع عشر ، وكان الكثير من الناس في ذلك الزمن متحفظين في كثير من سلوكياتهم ،
ومع أن الأفلام السينمائية حينذاك لا زالت متحفظة في عروضها الأجتماعية والأخلاقية والقبل والممارسات الجنسية
واللغة الحوارية ومناظر العنف والسباب ليس لها ولو مقاربة بسيطة بما نشاهده اليوم على شاشات السينما والتلفزيون
وكان رده … ” كلمتي واحدة لا جدل فيها “.
صمتٌ طويل ينطوي على حزن دفين ورغبة متأججة لا تخمد في أن أرد عليه بكلمة ، لماذا هذه اللا – لا – لا – لا ..؟
هل أتيتم بنا الى هذا العالم لكي تسمعونا هذه النغمة القاسية الفجة ؟؟؟
وهج هذه الكلمة بعثت في نفسي ذكرى لحادثة لا أنساها كان ساعتها والدي محقا وحكيما فيما حدثني به .
يومها كنت أرافقه لزيارة عائلة صديقة ، ودار الحديث عن فتاة مراهقة استغفلت ذويها لتلعب بالهوى كما يحلوا لها مع
شاب مراهق ، المحلة كلها كانت تعرف بتلك العلاقة ” واهل بيتها آخر من كان يعلم ” حسب المثل الشائع ، لأن الأم والأب
لا يملكان الذكاء والسيطرة على أبنتهما كما قالت المرأة المتحدثة ، أهل المحلة كلهم كانوا يشمتون بهم ، أبلغوا بناتهن تجنبها .
و بعد ان تركنا العائلة الصديقة وأصبحنا نسير منفردين في الشارع لمحت الزهو الذي طفح به وجه والدي ، كان ظاهرا
من نبرات صوته .. سألني
– هل رأيت يا أبنتي كيف أن ما تعتقدينه قسوة من جانبي في أصول تربيتي لكما .. هو عين الرحمة ، أذكري كلمتي التي
أقولها لك الآن ” ان الغريب إذا شّك فإنه لا يرحم أما الوالدين فشكهم رحمة ” ، شئ آخر عليك أن تعرفيه ” سمعة الفتاة
كالمصباح المنير إذا تهشم فلا يعود كما كان ” .
وتوقفت الصورة لكلمة الغريب ترقص في ذهني ، رحمك الله يا والدي ، كنت تخاف هذا العالم ، وخوفك أسقطت ظله في
أصول تربيتك علينا ، أي غريب هذا ؟ كلنا غرباء عن بعضنا ما دمنا لا نملك طريقا للصراحة ، ولا نعرف وجهة للصدق ،
الغربة متمثلة في انانية هذا القوم ، معظمهم يبيح لنفسه ما لا يبيح لغيره .
نتنكر لأفعالنا وتجاربنا الخاصة ، نتكلم في توافه الأمور وندفن الحس الحقيقي والشعور الصادق ، نلهي الناس عن أفعالنا
بمراقبة الغير ، نتصرف بمشاعرنا كأننا لصوص ، فكما اللص يمارس فعله على العموم في الظلام ، فنحن نمارس كثيرا من
الأفعال في الأختفاء والتمويه على أنه ستر وحشمة ، والشاطر من لا يعطي مَسكا ، والويل لمن يعلن عما في قلبه .
علينا أن نخفي ونكذب في الكثير من الأمور، وانفلتت ضحكة دون وعي مني ، ساعتها تلفت حوالي لعل من سائر في الدرب
غريب ، لا بد أنه سيظن أنني مجنونة ، تضحك مع نفسها .
يقولون أن في البلاد البعيدة الناس تمارس الصراحة بشكل لا حدود له ، فحياتهم الشخصية ملك لهم وهم أحرار في التصرف
بها ، ماذا لو أمتدت نفحة من الصراحة وعدم الخوف الينا لنعيش بشئ من الوعي الكامل.
ها نحن ننتظر اليوم الذي تحترم فيه حريتنا الشخصية التي يمكننا أن نمارسها بوعينا الكامل من دون خوف أو تردد ، فالحياة
مستمرة بشكل أو بآخر ، لا تهتمي لما يقال ، فأنت ، أنت إنسانة خلقت لتحيى الحياة بكامل صدقها على أن تدركي أن الحرية
تكون مصونة لك من خلال فهمك أن لا تهبي نفسك للذئاب المفترسة وإنما تكون من خلال الصراحة والصدق مع الوالدين
وتعرفيهم الى أين أنت ذاهبة ومع من تلتقين وما هي المناسبة وأين اللقاء لكي يطمأنوا عليك وبالإمكان تقديم أصدقاءك
ليتعرف الوالدين عليهم ليشعروا بالآمان على حياتك ، ويعرفوا أنت مع من تصرفين وقتك وبالخصوص إذا كان الصديق من
الجنس الآخر . متى ما تمت العلاقة بين الوالدين والأبناء على أساس من الصراحة والثقة المتبادلة بأن الأبناء لن يخيبوا
ثقة والديهم بهم وأنهم يستطيعوا أن يسمعوا من أبناءهم كل الأمور التي من الضروري أن يعلموا بها من دون خوف أو
رهبة التي يحسها الأبناء تجاه والديهم فواجب الوالدين فتح صدورهم لأبناءهم ، وعلى الأبناء أحترام نصائح والديهم
وقبولها لأنها من أجل حمايتهم من الهفوات التي قد تحدث بشكل أو آخر .