منذُ أَنّْ أَوجد الله تعالى الخليقة، ولِدَ الصِّراع بيّْن البشر. إِنَّه صراع المصالح، سواء كانت هذه المصالح، سياسيّة او اقتصاديَّة او آيديولوجيَّة. و اصبح محور الأمن الشخصي و المجتمعي، الصورة التي تعكس حجم أنشطة تلك الصراعات. و اعلان الحرب هي المرحلة الاخيرة لفض الصراعات، بعد أَنّْ تعجز السياسة، من التَّوصل الى حلٍّ يرضي اطراف النزاع. يقول (كلاوزفيتز) وىهو أَحد المُنظّرين في الاستراتيجيّة: (إِنَّ الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل مختلفة)(قصف العقول/د. ديفيد تايلور).
و تًسبق و تَعقب العمليات العسكريَّة، حرب من نوع آخر، إِنَّها الحرب الباردة، او الحرب الناعمة، أو الحرب السياسيَّة، أو الحرب النَّفسية، فكل هذه التسميات تحمل معنىً واحداً، هدفها تدمير أو اضعاف الروح المعنويَّة للخصم. و مثلما تمتلك الحرب العسكريَّة الأَدوات و التقنيّات الخاصَّة بها، كذلك فإِنَّ الحرب النَّفسية، لها أَدواتها و تقنيَّاتها. و لغرض فهم الحرب النفسيَّة، بصورة دقيقة لا بدَّ من معرفة أَدواتها و أَهدافها. و أدواتها هي:
1. الاشاعات بأَنواعها: (الظاهرة و المخفيَّة و القامسة(تظهر و تختفي وهكذا)، و اشاعة الصَّدمة و اشاعة الأَمل و اشاعة الخوّف).
2. الإِعلام بكلّ و سائله، المقروءة و المسموعة و المرئيَّة.
3. الدِّعاية بأَنواعها الصفراء و الرماديَّة.
4. نشر عقائد دينيَّة، في ظاهرها الدعوة الى الحداثة و الاصلاح، بينما هي تستبطن الحثّ على الانحراف عن الدّين القويم.
5. تسّقيط الرموز الوطنيَّة و الدينيَّة عن طريق تزوير الحقائق عنهم.
6. صناعة رموز وطنيَّة او دينيَّة مزيَّفة، تُؤَهَّل لخداع المجتمع و من ثمَّ القيام بتنفيذ، مخططات تدميريَّة في المجتمع.
7. نشر ثقافات خاطئة تخالف الثَّقافات الصحيحة في المجتمع.
8. غسيل الادمغة او ابدال القناعات الشخصية، بقناعات أخرى تخدم أهداف العدو.
9. فرض الحصار الاقتصادي على شعب معيّن لكسر روحه المعنوية.
10. تزييف العملة، لزعزعة ثقة المواطن بالجهاز الرقابي.
11. النكات الفكاهية، التي تستهدف تسقيط الآخر و التقليل من شأنه و مكانته.
12. حرب المعلومات، هدفها سرقة المعلومات المهمة، عن طريق الوسائل الالكترونية، و التصرف بها حسب الحاجة، و تختصّ بها و سائل الاتصال الحديثة.
ان كل ما يندرج تحت هذه العناوين، هو نوع من الأنشطة الاتصاليَّة، هدفها التَّأثير على الرُّوح المعنويَّة للخصم، و اجباره على اتِّباع سلوك، ما كان ينبغي أَنّْ يَتَّبعه، لو تُركت له الحرية باستخدام تفكيره المنطقي، بدون تأثيرات خارجيَّة. و هذا السلوك الذي بُنيَ على تفكير او اعتقاد غير صحيح، من قبل الفرد، او شريحة اجتماعية معيّنة من المجتمع، او عموم المجتمع، له تأثيرات سلوكيَّة، ليّْست في صالح الطَّرف المتأثر بالتفكير الخاطئ. الأَمر الذي سيترك آثاراً سلبية على الحالة النَّفسيَّة، للطرف المستهدَف.
(من الأفضل مهاجمة تفكير العدوّ، بدلاً من البدء بشنِّ الهجوم على مُدُنه المُحَصَّنة)(فن الحرب/صِنّْ تزو)
لقدّْ دُرست الحرب النَّفسيَّة، و وسائلها و أدواتها و تأثيراتها و آثارها، و طرق مكافحتها، بصورة منهجيَّة علميَّة، بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة. و قدّْ ركَّزتُ في هذا المقال، على بحث موضوع الاشاعة، لأَنَّها الوسيلة الأَكثر سرعة في التأثير و الانتشار بيّن الناس، و الأَرخص من حيث الكلفة الماليَّة.
إِنَّ الاشاعة او الشائعة (بمعنى واحد)، قدّ عرّفها الباحثون بصور متعدّدة، لكنّْ كلَّ التعاريف تُجتمع على مبدأ واحد، هو التأثير على الرُّوح المعنوية للجمهور المُستهدف. جاء في كتاب (جان نويل) (الشائعات الوسيلة الاقدم في العالم)، عدة تعاريف للاشاعة منها:
1. عرَّفها الباحثان (الپورت و پوستمان)، بأَنَّها:
(افتراض يرتبط بالاحداث القائمة يراد منه أن يصبح موضع تصديق العامّة، بحيث يتمّ ترويجه من شخص الى آخر مشافهة في العادة، ومن دون أن تتوافر أي ملموسة تسمح باثبات صحته).
2. عرفها الباحث (كناپ Knapp) بأنها:
(تصريح يطلق لتصدقه العامَّة، و يرتبط باحداث الساعة، و ينتشر من دون التَّحقق رسمياً من صحته).
3. عرفها عالم الاجتماع الامريكي (تي شيبوتاني) بأنها:
(اخبار ملفَّقة تتولد من نقاش جماعي). (تتشارك المجموعة في مواردها الفكرية، من أَجل إِيجاد تفسير مُرضٍ للحدث). واستطاع (شيبوتاني) أَنّْ يضعَ قانوناً للاشاعة هو :
قوّة الاشاعة = الأَهمَّية(أَهميَّة موضوع الاشاعة) X الالتباس(الغموض في موضوعها).
و حسّْب هذا القانون، تكون الاشاعة قويَّة، كلَّما كان موضوعها مهمَّاً. كما تكون الاشاعة قويَّة، كلَّما كانت المعلومات عن موضوعها غامضةً. و هذه العلاقة الطَّرديَّة بيّْن هذين العاملين، و عامل قوَّة الاشاعة، يُفسِّر لنا تأثير سبب ترويج الاشاعات، بالوقت الّذي تتصدى فيها قواتنا المسلحة الباسلة، و التي تساندها قوات الحشّْد الشعبي المغوارة، لمحاربة عصابات داعش في محافظتي تكريت و الانبار.
فمن حيّْث الأَهمية فالموضوع متعلق بمصير وطن. و من حيث الالتباس أو الغموض، فان الموقف في جبهات القتال، تنقله القنوات التلفزيونيَّة بشكل متضارب، مما يزيد الأَمر تعقيداً و غموضاً، وتبعاً لذلك تزداد و تتعاظم قوّة الاشاعة بين أَفراد المجتمع، و نتيجة لذلك، تتعرَّض الرُّوح المعنويَّة للفرد و المجموع، للضَّغط النَّفسي السلبي. هذا الضَّغط النَّفسي يضرُّ كثيراً بأَمننا الوطني، خصوصاً الأَخبار، التي تُوحي او تُصرّح بوجود هزيمة، بين صفوف قطعاتنا العسكريَّة.
إِنَّ الاعلام الوطني الموجَّه بشكل علمي و مهني، يُشكلّ أَحدّْ أَمضى الأَسلحة، التي تَقضي على الاشاعات، بشكل سريع و فاعل. و من خلال التَّجربة العمليَّة، فقدّْ أَثبت الإِعلام الوطني، فاعليَّة منقطعة النَّظير، في التواصل مع الجماهير، إِبَّانَ تحرير مناطق من محافظة ديالى،و منطقة جرف الصخر، و مناطق حزام بغداد و الدّجيل، و محيط سامراء، و أَخيراً تحرير محافظة صلاح الدّْين.
(إنه مبدأ التزام الإِعلام الوطني بوعي و صرامة، بمصالح الدَّولة و قوَّاتها المسلحة، على أَساس عدم القيام بنشر أَيّ معلومات، أَو آراء تضرُّ بالأَمن القومي للدَّولة و للمجتمع، و على أَساس أَلّا تَمنع الأَجهزة الرقابيَّة الإِعلام الوطني، من حقوق المتابعة و نقل الحقائق الى الرأي العام، الّذي يتحمل في النهاية، أَعباء و تبعات الحرب، و يتمتع بمكاسبها الماديَّة أو المعنوية.)(انتهى)(قصف العقول/د. فيليب تايلور).
أَخطاء يجب عدم تكرارها بالمرّة.
قبل كل عملية عسكرية، تبدأْ موّْجة من بثّ التَّصريحات لبعض المسؤولين، هذه التَّصريحات غيّر المنضَّبطة، و غيّر المسؤولة أَيضاً، تظهر على العديد من القنوات الفضائيَّة، حتّى المشبوهة منها. و هذه التصريحات غير الواعية، يقوم أَعداء العراق و شعبه، بتسجيلها و اخضاعها لعمليَّة تحليل و مُقارنة، و من ثمَ يستنتجون منها الكثير من المعلومات، التي يُمكن توظيفها لصالحهم. كما أَنَّ هناك نقاط أُخرى، يجب على المسؤولين في الحكومة العراقيَّة، الالتفات اليها بجَدٍّ؛ هي:
1. منع التِّقاء مراسلي القنوات الفضائيَّة، مع أَيّ شخص في ساحة العمليَّات، و أَخذ التصريحات منه، و التقاط صور و تسجيلات فلميَّة، في مواقع العمليَّات العسكريَّة.
2. أَنّْ تُحصر لقاءآت القنوات الفضائية، بممثل المكتب الاعلامي للعمليّات، حيث يكون هذا المكتب، هو الجهة المركزيّة المخوَّلة الوحيّدة، لاعطاء التَّصريحات حول نتائج العمليَّات العسكريَّة.
3. الغاء وظيفة (الناطق الرسمي)، هذه الوظيفة التي تعدَّدت شخصياتها، مثلما تعدَّدت الجهات الرسميَّة المسؤولة عنها. و حصّْر الموضوع كما جاء بالفقرة أعلاه. و الله تعالى من وراء القصّد.