18 ديسمبر، 2024 6:13 م

أمي تشبه الموناليزا

أمي تشبه الموناليزا

تشبه أمي وأمهاتكم ابتسامة الجوكاندا الطيبة، أمهاتنا موناليزا كل العصور، ابتسامتهن تتبعك من جميع الزوايا، تضحك بقلبها في اللمسة الأولى لصغار يتدثرون بلفافة بيضاء.

رعشة يديها وهي تمسك بكوب الماء لتتناول حبة الدواء أيقظتني على خطوط الزمن وتعاريجه تسكن الجلد العجوز وتعلن أن تجاعيد الزمن والوجه تسيران في خطين متوازيين.

هل أصبحت أمي الشابة الفتية، الجميلة، رائعة الابتسامة عجوزا في السبعين؟ هل يسير العمر بخطى عجولة نحو اللارؤية واللاحضن؟ هل أستيقظ يوما ما لأتحدث عن أمي بصيغة الماضي؟

رباه تلطف بي، أيا ملائكة السماء رفقا بقلبي فلا تغلقوا علي باب الجنة، يا ملاك الموت تشفع لي عند ربك بأن يمهلني سنوات أرتشف فيها من حضن أمي، وأنهل من عطر قلبها الحاني.

ما أقسى قلبي، كيف يطاوعني أن أبتعد باسم العمل تارة، والأولاد تارة أخرى، وها أنا ذا أمارس حياتي كما يروقني، عمل وكتابات، مشاغل، بيت وأبناء، أزور أمي في فائض وقتي، أقتطع القليل من أجل من أعطتني عمرها راضية، أمي التي كانت تدخرني وأخوتي عكازا لزمن تحتاج فيه من يسند عودها الضعيف، ويرحم امرأة كانت سندا لجميع أبنائها.

انحناءة ظهرها، فاتورة تسددها وحدها لخدمتنا، قانعة أمي، وأمهاتكم جميعا بما يدفعنه من أعمارهن، تغير مقاس عدسة نظاراتها الطبية يأكل من عمرها الكثير، عامودها الفقري ينبئ كم كانت حانية تظلل على صغارها من عثرات الزمن، كغصن محمل بالثمرات والخيرات، انحناءته قدر الأغصان الولودة المثمرة.

تشبه أمي وأمهاتكم ابتسامة الجوكاندا الطيبة، أمهاتنا موناليزا كل العصور، ابتسامتهن تتبعك من جميع الزوايا، تضحك بقلبها في اللمسة الأولى لصغار يتدثرون بلفافة بيضاء. يرجون لنا الحياة وينتظرن قدومنا إليها، ونحن بقسوة، أو بمعرفة مسبقة وتقدير لمتوالية الموت والحياة، ننتظر رحيلهن.

يا لقسوتي، كيف أجلس على رصيف الزمن صامتة، معصوبة العينين، أنتظر لحظة النهاية أو أتوقعها، لا فرق، كيف لا أستطيع تمسيد تراب الزمن تحت قدمي أمي؟ من باب رد الجميل، أو الحب الذي أتغنى به لها يوم عيدها ثم أتلهى عنها 364 يوما لاهثة خلف مشاغلي.

على الجانب الآخر من الحياة لا أرى شاطئا ولا بادرة نجاة من طوفان الحياة إلا عيني أمي “سفينة نوح” نجاتي، تتلقفني على متنها لأستشعر الراحة والأمان.

أصابعك المرتعشة تحتضن يدي الطريتين الغنيتين بلحم رعاه عرقك وسهرك، تشعرني بدنو الأجل الذي أرجوه ابتعادا يمنحني مزيدا من دعوات تغسلني بها أمي من غبار البشر والزمن، أن تمنحني أمي حبا يفرش طريقي بصلوات تحفظني.

بحة صوتها الموجوع بسنوات التعب وعنادي وعناد إخوتي تقتل إحساسها بالأمان، كيف لقلوبنا الغافلة أن تطاوعنا في الخصام والبعد يقضم من أعمارنا، هل لي من قرض من الأيام أقضيها في بؤبؤ العين قبل الرحيل.

عيد الأم ليس مجرد ذكرى سنوية نقذف فيها هدايا قيمة، وحفنة نقود في أيادي أمهاتنا، ولكنها منحة تتجدد كل عام قبل أن يسحبنا الغياب تحت عباءته، هدية إلهية كموج بحر كريم يفيض علينا بماء وفير، علينا الاستفادة منها وهدهدتها قدر استطاعتنا، فلا الفرص تتكرر ولا القدر يتمهل، قد يأتي علينا يوم ننادي “يا أمي” فيرتد لنا الصوت صدى.

نحن نرحل والأمهات كذلك يرحلن، ليس لنا من ضمانة من يرحل أولا، فالضمان الوحيد هو فعل الرحيل ذاته، وعلينا أن نفكر مليا.

لماذا لا نجعل عيد الأم هذا العام بداية جديدة لحب يتنفس بعمق وروية، إعادة إنتاج لعلاقتنا بأمهاتنا عسى أن تمنحنا الحياة فرصة عظيمة في تصحيح أخطاء العمر الماضي.

نقلا عن العرب