22 ديسمبر، 2024 8:37 م

أمي .. الجنة تحت أقدامكِ

أمي .. الجنة تحت أقدامكِ

هادي حسن عليويـ أحبتني منذ لحظة ولادتي حباً أحسدُ عليه.. وبقيت تُحبني.. ولم ترد ليً طلباً أبداً.
ـ علمتني إن: (النظافة من الإيمان).. قولاً وسلوكاً.. مثلما علمتني الأمانة.. والشجاعة.
ـ علمتني.. معنى الحب: ويعني (حب الله.. والوطن.. والعلم.. والخير).
ـ علمتني.. مساعدة الفقراء والمحتاج.. وعلمتني الصداقة الحقيقية.. علمتني الأناقة منذ نعومة أظافري.. مثلما علمتني هي وأبي.. آداب الحديث.. وآداب الطعام.. وآداب الجلوس.. وكيفية احترام الآخرين.
ـ علمتني.. هي وأبي.. أن أقول الحق.. ولن أتنازل عنه.
ـ علمتني.. هي وأبي: أن أقول الصدق.. ولن اكذب أبداً.. فكنتُ عندما تسألني هي أو أبي أو أي أحدٍ.. لن أقول إلا الصدق.. حتى لو كنتُ أنا على خطأ.
ـ علمتني.. هي وأبي عندما أخطأ أعتذر علانية.. وبكل شجاعة.. ولا أكرر نفس خطأ.
ـ لم أسمعهما يوماً.. لا هي ولا أبي.. يصرخان بوجهي أبداَ.. أو في وجوه إخواني وأخواتي.
ـ لم تضربني لا هي ولا أبي في يوم من الأيام.. ولا حتى في ساعة غضب.. مثلما لم تضرب لا هي ولا أبي أياً من أخوتي وأخواتي.. فعندما نخطأ كانت أمي أو أبي يحاوراني بهدوء لأشعر بالخطأ الذي ارتكبته.. وإن لم أشعر بالخطأ يحددان لي خطئي.. وأقتنع بأنه خطأ حتى لا أكرره.
ـ علمتني.. مقولة (الجنة تحت أقدام الأمهات).. وماذا تعني هذه المقولة.. فكانت ثاني مقالة ليً أنشرها في جريدة الحرية في 18 حزيران العام 1961.. بعنوان (أمي.. الجنةُ تحت أقدامكِ).
ـ علمتني.. حب العراق.. وحب الشعب كله.. وعندما أصبحتُ شاباً.. وبدأتُ خوض غمار العمل الوطني والسياسي.. كانت (هي.. وأبي) يراقباني ويتابعاني بشكل دقيق.. ويدفعاني إلى خدمة العراق (وطني).. فمن لا وطن له لا هوية له (المقولة التي كان يرددها أبي).. حتى حفظناه.
ـ عندما أمرضُ كانت لا تنام الليل بطوله.. وهي إلى جانبي يقظةً.. تقدم ليً كل شيء.. وأي شيء من أجل أن أتعافى.. تأخذني منذ الصباح الباكر الى المجيدية (مدينة الطب الحالية).. وتلتزم تماماً بتعليمات الطبيب.
ـ وعندما اعتقلتُ أول مرة خلال التظاهرات التي انطلقت في العراق ضد العدوان الثلاثي على مصر في 29 تشرين الثاني 1956 اتصلت هي فوراً بأبي.. وجاءت مسرعة إلى مركز الشرطة مع أبي.. ولم يخرجا إلا وأخذاني معهما.. بعد مناقشة وحوار جاد مع مدير مركز شرطة السراي.. مؤكدة له إن القانون لا يمنحك حق اعتقال من لم يبلغ ال18 سنة (الرشد) لأسباب التظاهر السلمي.
في تلك اللحظة حضر نوري السعيد رئيس الوزراء لمركز الشرطة.. وأطلق سراحنا نحن الفتية ال (11).
ـ وعندما اعتقلتُ في أوائل تموز العام 1962 كسياسي.. ونقلتُ بعدها إلى سجن نقرة السلمان في صحارى السماوة.. كانت تزورني كل شهر.. ولم تتخلف عن كل زيارة ليً.. برغم كل الظروف المعقدة.. وهكذا كانت تزورني في كل السجون التي انتقلتٌ لها (الرمادي.. بعقوبة.. وسجن بغداد المركزي).
ـ وعندما أطلق سراحي في منتصف العام 1964 كانت أول مشجع ليً بعد أبي للالتحاق بدراستي.. وبعد أن عملتُ.. شجعتني لإكمال كليتي في القسم المسائي.
ـ وبعد تخرجي من الكلية بتفوق أخذت تشجعني للدراسة إثناء العمل.. مؤكدة هي وأبي: إن شهادة البكالوريوس لم تعد نهاية المطاف.. مع تطور الحياة.. ففتحا عينيً لإكمال دراستي العليا.
ـ أمي.. أتذكركِ جيداً عندما كنا نروم الزواج.. لا تنشغلين بأمور المال والعقار.. بل بالعروس بالنسبة لنا نحن أولادكِ.. والعريس بالنسبة لأخواتي.. كنتِ تؤكدين على الأخلاق.. والدراسة.. وسمعة العائلة.. وتكون بنت أو ابن عائلة محترمة.. (فقيرة كانت أم غنية).. ولم تقبلي زواج أي واحدة من أخواتي إلا بعد أكمال دراستهنً الجامعية.. أو يتعهد (هو وهي) إكمال دراستهم.. وكنت تتابعين الأمر.. وتساعديهم إن لزم الأمر ماديا لإكمال الدراسة!!
ـ أمي.. ماذا أقول لك:
اليوم الجهلة في مجلس نوابنا يقدمون قانوناً يجيز زواج البنات من عمر تسع سنوات.. صدقيني يا أمي هذا ما يجري في بلدي اليوم.. المتخلفون والجهلة واللصوص يحكموننا يا أمي!!.
ـ وعندما كبرتُ أنا سألتيني يا أمي: متى ستتزوج؟ هل حان الوقت؟ وابتسمتِ.. وحاولت الهروب.. لكن قلتِ قف.. وسألتني: (كم صديقة عندكَ الآن ؟.. وأردفتِ قائلةً: انتهت مرحلة الشقاوة.. لقد حان الوقت للزواج.. حتى تترك السهر حتى الصباح مع التلفون).. وفعلاً استطعتِ إقناعي.. فكان زواجاً سعيداً.. مادام أنتِ باركتيه.
ـ كنتِ يا أمي صديقة وحبيبة لزوجتي.. فأحبتكِ زوجتي أكثر من أية امرأةٍ أخرى.. بل كانت أمي تقف إلى جانب زوجتي إذا حدث خلاف بيني وبين زوجتي.. وهي إلام الوحيدة التي تجلب لزوجة ابنها أحسن الهدايا.. وأجملها.. وأغلاها.. بمناسبة وبغير مناسبة.
ـ وعندما رزقتُ بأبناء.. وتجدني أغضبُ عليهم تقولين ليً وبحزم: (هكذا ربيناكم هكذا؟).. فأخجلُ من نفسي.. وأطأطئ رأسي.. وهكذا لم اصرخ بوجه أبنائي.. ولم أضرب أحداً منهم.. بل كان الحديث والحوار معهم بمحبة يزيل كل لبس.. أو إشكال.
ـ وخلال الحصار الاقتصادي الظالم على بلدنا كانت كل يوم تأتينا.. وتجلب معها الهدايا لأبنائي وحتى تجلب الطعام.. كانت شجاعة.. وذكية.. ونظيفة القلب.. وحنونة على الفقراء بشكل لا يصدق.. وكانت خلال أيام الحصار الاقتصادي بشكل خاص تؤمن وتطبق الآية القرآنية (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا).
ـ وعندما جاهدتُ جهادي الأكبر.. وذهبتُ إلى ليبيا في أيلول العام 1997 أستاذاً جامعياً.. وتركتُ عائلتي في بيتهم ببغداد.. بقيتْ أمي أسبوعاً مع عائلتي.. برغم مرضها وشيخوختها.. لكي لا يشعروا بغيابي.. كما كانت تأتيهم كل أسبوع أو أقل من أسبوع.. وتتصل هاتفياً بهم يومياً للاطمئنان عليهم.. وكانت في كل زياراتها لا تعرف القيل والقال.. والابتسامة لا تفارقها.. كما كانت كعادتها خفيفة الظل دوماً.
ـ وبعد.. أقولُ: لستُ أنا الابن الوحيد لها.. حتى تقدم كل تلك التضحية ليً.. فهي أمٌ لعشرة أبناء (سبعة ذكور.. وثلاث إناث).. عاملتهم جميعاً نفس هذه المعاملة الراقية.. فتقدموا في الدراسة والحياة.
وفي مثل هذا اليوم.. الثاني والعشرين من أيار العام (1999) أكملتْ رسالتها كأمٍ.. مثلما أراد الله.. وودعتنا.. وهي مطمئنة على أبنائها وأحفادها.
ـ أمي.. لم تعد دنيانا اليوم.. كدنيا الأمس.. مسكينٌ شعبنا.. ففي نيسان 2003 غزا العراق هولاكو الحديث بطائراته ومجنزراته.. وجنوده المارينز.. يدعمهم شذاذ الآفاق.. ليحدث التدمير الكامل للعراق.. وفرهود لكل شي.. شارك فيه المحتلون.. والمسؤولون القدامى والجدد.. وحتى الأغنياء والفقراء.. ولم يبقوا من مؤسسات الدولة التي بناها العراقيون منذ العام 1920 حتى 2003.. سوى الخراب والدمار.
ـ أمي.. كما تعرفين لم نكن نعرف الطائفية أبداً.. ولا العنصرية.. ولا نعرف (هذا شيعي.. وهذا سني).. بل لم نعرف التفرقة.. فكان أصدقائنا في المدرسة.. وفي منطقة سكننا خليط من المسلمين والمسيحيين واليهود.. ومن العرب والأكراد والصابئة.. ولا نعرف هذه التسميات.. وتربينا لا نعرف الطائفية.. ولا العنصرية أبداً.
ـ أمي.. جاءنا المحتل الأمريكي ومن معه.. لينشروا الطائفية في بلدنا بشكل مقيت.. واستكملها الإرهابيون لتندلع الحرب الطائفية في بلدنا يا أماه.. بشكل لا يصدق.. فكان القتل على الهوية.. والدماء تجري بشكل غزير.. وجرى تقطيع مناطق بغداد على أساس طائفي.. وانتقال جماعي للناس لمناطق أخرى لأغراض الحماية.. أمي لا تصديقين ما جرى بنا.. أمي لم تنتهي الطائفية عندنا حتى الآن.. بل خفتت ونارها تحت الرماد.
لتبدأ يا أمي مرحلة الحروب ضد الإرهاب التي لم تبقي ولم تذر.. ثم احتل داعش مدننا ودمرً ما تبقى.. وقتل مئات الآلاف من العراقيين من كل أطيافنا.. وتغير السلوك والتعامل لدى الكثير منا .. ولا أدري هل يمكننا العودة الى أخلاقنا في زمنكم ؟.. أمي أشكُ في ذلك.
ـ أمي تتذكرين ما عمل البعثيون بشعبنا من ويلات في العام 1963.. هؤلاء عملوا عشرات الأضعاف بشعبنا من ظلم.. وقتل.. وسجن.. وسرقة المال العام والخاص.
ـ أمي.. لا تصدقين ما يجري الآن في العراق.. فالغالبية العظمى من المسؤولين كباراً وصغاراً لصوص.. ومزورين.. وغشاشين.. بلا حياء.. ولا شرف.
ـ تغيرت الدنيا.. ليس للسيئ فحسب.. بل لأسفل السافلين!! ويتباهون أنهم سراق.
ـ أخيراً.. أمي.. سرقوا ألاف الأطنان من الحنطة من سايلو مدينة حيدرة الكرار.. وخلال التحقيق معهم يسخرون من المحققين والنزاهة.. ويقولون: (الطيور أكلة آلاف الأطنان من الحنطة).. ولا نجد محققا وقاضيا يحترم نفسه ويعتقلهم.. أقلها بتهمة (الاستهزاء والسخرية بلجنة التحقيق).
أمي.. لا أريد أن أؤلمكِ أكثر.. وسأكمل قصصنا (التي يندى لها الجبين) لأبي في ذكرى رحيله!!
ـ وبعد: ماذا أقولُ لك أيتها الأم الحنونة الطيبة المضحية الصالحة ؟ التي أفنت حياتها في تربية عشرة أبناء.
ـ أمي.. أنا مدينٌ لكِ ولأبي.. بكل ما وصلت إليه.. وما أرجو أن أصل إليه من الرفعة.
ـ إليك يا أمي.. يا ملاكي.. كل الحب وكل الاحترام والتبجيل.. فألأم تظلم نفسها لتنصف أولادها.. ولا أنسى أبي شريكها في السراء والضراء.
ـ أمي.. حينما أنحني لأقبلْ يديكِ.. وأسكب دموع ضعفي فوق صدركِ.. واستجدي نظرات الرضا من عينيكِ.. حينها أشعر باكتمال رجولتي.
ـ أمي .. أنتِ كل شيء في حياتي.. أنتِ التعزية في الحزن.. وأنتِ الرجاء في اليأس.. وأنتِ القوة في الضعف.. وأنتِ الابتسامة في الفرح.
ـ لو خيروني بين العالم كله.. وأمي.. لاخترت أمي.. فمن فقدً أمه.. فقدً أبويه.. فالأم شمعة مقدسة تضئ ليل الحياة.. بتواضع.. ورقة.
ـ وبعد.. يا أمي.. أُمّي .. يا بَحْرَ الخْيرْ وَالوَفَاءْ… يـَا نِعْمَة عَظِيمَة.. مِنْ رَبِ السّمَاءْ.
ـ دُعَائُكِ كانً.. سِرُّ تَوْفِيقِي.. ونجاحي… وَرِضَا الله.. مِنْ رِضَاكِ.
ـ يـَا طَوْقُ نَجَاتِي في الدنيا.. وفي الآخرةِ…وَبأمر الله أنتٍ.. بَوابَـةِ رجائي.. ودُخُولِي إِلَى الجَنَّة.
ـ تبقين سيدتي.. الشمعة التي لا تنطفئ.. وأنتِ في مثواكِ الأخير.. أمي.. وتبقى الجنة تحت أقدامكِ.
ـ وكل عام يا أمي وأنتِ أقرب الى الله.. كل عام يا أمي.. وأنتِ في الجنة خالدةً..إن شاء الله.