23 ديسمبر، 2024 8:38 ص

“أمير اللواء الركن عمر علي باشا” يروي: لماذا وكيف إندلعت حرب فلسطين (1948)؟؟؟؟

“أمير اللواء الركن عمر علي باشا” يروي: لماذا وكيف إندلعت حرب فلسطين (1948)؟؟؟؟

كلمة لا بدّ منها
لقد ترَدَّدتُ في تسطير أيّ شيء لا عن حرب فلسطين (1948) ولا عن “معركة جَنين” وقائدها “المقدم الركن عمر علي” وقتما كان آمراً للفوج الثاني من اللواء الجبلي الخامس، ولم تَطُلْ سوى يومَي (3، 4/حزيران/1948) خلال تلك الحرب، فقد نُشِرَ عنهما العديد من الكتب والبحوث والدراسات والمقالات، وتردَّد إسمهما في معظم المناسبات الوطنية والعسكرية بداعٍ ومن دونه، فضلاً عن عدم عثوري -في حينه ولغاية يومنا الراهن- على قاعدة مادية رصينة وموثّقة ونبذة رسمية عن “معركة جنين” وخطّتها وتفاصيل تنفيذها وإحراز ذلك النصر الناجز فيها.
ولكن العديد من الأصدقاء والمتابعين أصروا على ضرورة نشر ما إمتلكه -على تواضعها- ما دمتُ قد إستقيتُها في أواسط الستينيات على لسان العم “اللواء الركن المتقاعد عمر علي” من معلومات -ولو كانت عابرة- جعلني أخوض هذه المقالات التي أستشعر بها ضعيفة وغير وافية ولا تشفي طموحي، رغم صَقلي لرواية “الباشا” بالإعتماد على روايات كل من:-
الزعيم (العميد) الركن الدكتور شكري محمود نديم- أحد ضباط ركن القيادة العراقية خلال حرب فلسطين.
العميد “شاكر محمود السامرائي”- أحد ضباط الفوج/2- اللواء الجبلي/5 الخائض لـ”معركة جنين” مع آمره “المقدم الركن عمر علي”.
مذكرات “أمير اللواء الركن حسين مكي خماس” عن حرب فلسطين، والتي حققها وأصدرها نجله “اللواء الركن علاء الدين”.
موسوعة تأريخ القوات العراقية المسلّحة -الجزء الثالث- الصادرة من وزارة الدفاع، للفترة (3/10/1932- 14/7/1958).
حضوري في مقام العم “عمر علي”
منذ أواسط الخمسينيات كنتُ صبياً يصطحبني والدي -الموظف لدى مديرية النفط العامة- وإبن عمّه “العقيد مصطفى عبدالقادر آل يحيى بك” في البعض من زياراتهما لـ”أمير اللواء الركن عمر علي باشا” وقتما عُيِّنَ متصرفاً (محافظاً) للواء (محافظة) السليمانية… ولكن زياراتي الشخصية -بمعدلات شبه شهرية- تكررت لمقامه بمسكنه في حيّ “الوزيرية-بغداد” حينما غدوتُ ضابطاً بالحرس الجمهوري منذ (1964)، وبالأخص لـمّا إستشعرتُ بإرتياحه وسرد أحاديثه على مسامعي من دون تحفّظ يُذكَر.
كنتُ توّاقاً لسماع أمور كثيرة عن هذا “الرجل-الرجل” الذي ترك بصماته ضابطاً لامعاً تدرَّجَ في الرتب والمناصب بشكل مثالي منذ عام (1931) حتى أمسى قائداً للفرقة الأولى من الجيش العراقي يُشار له بالبنان في أوساطه وكل أرجاء وطنه.
وقد سجّلتُ الكثير مما رواه وسط أجنداتي السنوية -التي نصَحَني هو بذلك- كي لا أنسى الأحداث بإنقضاء الزمن، مكرراً ندَمَه الشديد لعدم تسجيلها وقائع (29) عاماً قضاها بالخدمة العسكرية لغاية يوم (14/تموز/1958) وما تلاه من مهازل محاكمته أمام “المحكمة العُليا الخاصة” برئاسة “العقيد فاضل عباس المهداوي” وحكم الإعدام -المتعجرف واللامَعقول- الذي صدر بحقه عام (1959) قبل إطلاق سراحه بعد (سنتين ونصف) قضاها بـ”السجن رقم/1″.
تفاقم الأمور نحو الحرب
رجوتُ من “العم عمر” أن يخصص لي بضع ساعات من وقته ليتحدث عن “معركة جنين” التي طالما طرَقَت أسماعنا منذ إلتحاقنا تلاميذ بالدورة/41 في الكلية العسكرية، فلبّى ذلك في أمسية ما بعد صلاة التراويح مساء ذلك اليوم الرمضاني المبارك الذي توافق (الثلاثاء-12/1/1965) وبين يديّ قلم وأوراق لأسطّر رؤوس نقاط عن أهم ساعاتها، قبل أن أعود إلى “تشريفات القصر الجمهوري” في تلك الليلة وأسهر حتى السحور لأحوّلها إلى شبه مقالة:-
عمر باشا:- لماذا تصرّ -يا ولدي- على معركة جنين؟؟
أنـا:- أطمح في سماع وقائعها من مقامك العالي دون غيرك، ففي الكلية العسكرية كان معلّمونا يستجلبون إسم “معركة جنين” مرادفاً لإسمك من دون أن يُفَصّلوها، وبعد التخرّج نسمع بها كثيراً وكأنها “جناق قلعة”… فما الحقيقة؟؟؟
عمر باشا:- لمعلّميكم الحقّ في ذلك، فـ”معركة جنين” -رغم إعتزازي بها والشهرة التي إكتسبتُها فيما بعد- لم تكن بمقام معركة كبيرة خُطِّطَت لها وحُشِّدَت قطعات من أجلها المشاة والمدفعية والهندسة وخُصِّصَت لها الطائرات، بل كانت أشبه بـ”معركة هجومية تصادفية” وعلى شكل ((فَزعَة عشائرية)) خاضها فوج مشاة جبليّ واحد لم تُسنِدُه حتى المدافع، وأحرز إنتصاراً سريعاً خلال يومَين فقط من القتال… فشتان بينها ومعارك “جناق قلعة” -التي طالت (7) أشهر متلاحقات وخاضتها أعتى أساطيل العالم المتقدم وتشكيلات جيوشها في حينه- فالبَونُ بينهما شاسع لا يتقبّل المقارنة.
أنـا:- عجيب ما أسمعه منك يا عمّ… أرجو تنويري.
تقسيم فلسطين إلى دولتَين
عمر باشا:- قبل الخوض في “معركة جنين” لا بدّ أن أُلخّص لك كيفية إندلاع حرب فلسطين عام (1948) كي تكون ببعض الصورة:-
عقود سبقت الحرب:- على إثر وعد وزير الخارجية البريطانية “آرثر جيمس بلفور” لليهود عام (1917) لتأسيس كيان لهم في “فلسطين”، والذي أصدره قبل (خمسة) أيام فقط من إستكمال البريطانيين -بالتعاون مع من سمّوا أنفسهم بـ”الثوار العرب” منذ (1916)- الإستحواذ عليها من أيدي العثمانيين الذين أبَوا تركَها رغم مُغرَيات أعاظم الدول وضغوط كبرَياتها ولم ينسحبوا منها إلاّ بعد (3) سنوات من القتال العنيف، فقد أسرع اليهود المتشرذمون من معظم أرجاء العالم بتحقيق هجرات مُخَطَّط لها ومُنسّقة إلى “فلسطين” -التي غدت مستعمَرة بريطانية- تدعمهم دول عظمى وتموّلهم مؤسسات رؤوس أموال صهيونية كبرى وتسلّحهم وتُنشِئ لهم مآوٍ ومساكن لائقة لترغيب أقرانهم في اللحاق بهم بـ”أرض الميعاد”، حتى إنبثقت في ربوعها منظمات مسلّحة سُمّيَت (عصابات) -بمباركة الإنكليز الذين غضّوا الطَرفَ عن بناء المئات من المستوطنات المُحصَّنة في ربوع أصحابها بشتى أساليب الترغيب قبل الترهيب، حتى قويت شوكة الصهاينة بإنقضاء الأعوام حتى باتوا مؤثرين في ميادين المال والسياسة والقوة المسلّحة.
ترك الإنكليز لفلسطين:- وفي ظلّ تلكم المواقف وسواها وتحت ذرائع مُعلَنة بعدم تمكّن “بريطانيا” بعظمتها وأساليبها فرض الأمن على هذه البلد الصغير جغرافياً!!! وعجزها في تقريب وجهات نظر الطَرَفَين المتخاصمَين قُبَيلَ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في (20/11/1947) القاضي بتقسيم “فلسطين” المُنتَدَبة إلى دولة عربية وأخرى يهودية.
وأكبر الظن أن قادة اليهود قد فرشوا خريطة “فلسطين” مع البريطانيين وإنتقوا موانئ مطلّة على البحر الأبيض ومرتفعات ومدناً وأماكن جميلة كما شاؤوا، قبل أن يقرر الإنكليز إنهاء إنتدابهم وسحب قواتهم ودوائرهم الإدارية من هذه البلاد يوم (15/5/1948) رغم يقينهم من ريح هوجاء ستعصف بها… وليكن ما يكون.
مواقف قُبَيلَ الحرب
القادة العرب:- من دون الخوض في تفاصيل المواقف المترددة والـمُخزِية للقادة العرب وجامعتهم -التي لم تجمعهم- وقراراتهم الـمُخجِلة وجيوشهم المتواضعة وإجتماعاتهم ولجانهم التي لم تتمخض عنها -طيلة أشهر- سوى قرارات بائسة سطّروها على الورق وردّدوها في وسائل إعلامهم وإعلاناتهم، وبعد إخفاقاتهم منذ أوائل (1948) في تشكيل “جيش الإنقاذ” الفلسطيني جراء خلافاتهم مع مفتي فلسطين “الحاج محمد أمين الحُسًيني” -لأسباب معروفة- بدعم منظمته المسمّاة “الجهاد المقدّس”، ناهيك عن ((جَرّ هذا وعَرّ ذاك))، فإنهم لم يتفقوا -حتى قبل شهرين من موعد الإنسحاب البريطاني المُزمَع- على مجرد قرار (وَرَقيّ) لتأسيس “قيادة عامة عربية عسكرية مشتركة” وتحشيد بضعة تشكيلات من جيوشهم النظامية لينقذوا “فلسطين”.
تسابق العراق لإنقاذ فلسطين:- ورغم الأقاويل -الجائرة والظالمة- بعمالة النظام الملكي العراقي لبريطانيا، فقد إنفرد “الأمير عبدالإله-الوصيّ على العرش” بإتخاذ قرارات سبق بها جميع القادة العرب المتاخمين لـ”فلسطين” (لبنان، سوريا، الأردن، السعودية، مصر) لمحاولة منع قيام “دولة إسرائيل”… فقد لَبّى نداء دعم الفلسطينيين والمملكة الأردنية الهاشمية بالأموال والسلاح والخبرة والمَشوَرة، وأسنَدَ قيادة “جيش الإنقاذ الفلسطيني” -المتفَّق تأليفه من متطوعين فلسطينيين وعرب ومسلمين- إلى معاون رئيس أركان الجيش العراقي “أمير اللواء الركن إسماعيل صفوت”… ووافق على إنتداب “العميد (الفريق أول) الركن المتقاعد طه الهاشمي” مفتشاً عاماً لذلك الجيش -المُفتَرَض- للإشراف على تنظيمه وتجهيزه وتدريبه، قبل تنسيبه لـ”الهاشمي” خبيراً عسكرياً للأمين العام للجامعة العربية “عبدالرحمن عزام باشا”، فضلاً عن إيفاده “أمير اللواء الركن المتقاعد نظيف الشاوي” إلى “القاهرة” ليغدو عضواً رئيساً لـ”لجنة فلسطين العليا” لدى الجامعة العربية.
وكان “الوصي عبدالإله” من أكثر الزعماء العرب في جولاته المكوكية بين القادة المعنيين ومن أسرع المندفعين بالإجراءات العسكرية المُنتظَرة وتحقيق إجتماع حاسم لرؤساء أركان الجيوش العربية مع إقتراب الموعد المقرر لترك الإنكليز لـ”فلسطين”… وهو الذي أوعز للبعثة العسكرية البريطانية ورئيسها “الجنرال رنتن” بمغادرة العراق قبل أشهر من الحرب، فيما لعب رئيس أركان الجيش العراقي “الفريق صالح صائب” أعظم الأدوار وأبرزها بين الزعماء العرب في تقريب وجهات النظر وتقادير المواقف مقارنةً مع أقرانه من القادة العسكريين العرب.
وكذلك أوعز في أواخر (نيسان/1948) بتحريك “القوة الآلية” (بمستوى لواء مؤلّف من فوج مشاة آلي وكتيبة مدرعات تسندهما كتيبة مدفعية) خلال (48) ساعة بقيادة “الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي” لتتحشّد في ضواحي مدينة “المفرق” الأردنية -على مبعدة (80) كلم من نهر الأردن”- فتغدو ((أول تشكيل عربي عسكري نظامي)) يغادر أرض وطنه مبكراً قبل أية قوة نظامية عربية، لتمهّد لإستقبال تشكيلات عراقية أخرى.
تتابع التشكيلات العراقية إلى الحرب:- وتحرك من معسكر “المُسَيَّب” جحفل لواء المشاة/1- الفرقة/1 وآمرها “العقيد الركن عباس علي غالب” وبإمرته جحفل الفوج/1-اللواء المشاة/15 من الفرقة ذاتها، وتم إستحداث “مقر خط مواصلات” بإمرة “الزعيم (العميد) الركن أمين خاكي” لتأمين الأمور الإدارية والتموينية، إلى جانب تأسيس “قيادة ميدانية للقوات العراقية” -بمستوى مقر فرقة- وأُنيطت مسؤوليتها لشخص “اللواء الركن نورالدين محمود” قائد الفرقة/1… فيما تم تكليف “اللواء الركن إسماعيل صفوت” ليرضى بالعمل بصفة رئيس لأركان تلك القيادة.
وقد أُلحِقَ العديد من وحدات المخابرة والمدفعية والدفاع الجوي والتموين والنقلية والتصليح والطبابة، ووُضِعَ سرب من طائرات القوة الجوية بإمرته في “مطار المَفرَق”، قبل أن يُتّفَق على إناطة مسؤولية إدارة جميع عمليات القوات العربية النظامية وغير النظامية إلى “اللواء الركن نورالدين”، مُرتَبِطاً بـ”الملك عبدالله بن الحسين” -بصفته القائد الفخري الأعلى للجيوش العربية- حيث كان الـمُفتَرَض أن تُباشر القوات المتحشدة بعملياتها التعرضية بتوقيت واحد مع فجر (15/5/1948) مستهدفةً مدناً وبقاعاً إحتلّها الصهاينة في “فلسطين”.
أنـا:- يا عمّ عمر… كل معلوماتي المتواضعة عن تلك الفترة أن السيد “نورالدين محمود” كان برتبة “فريق أول ركن” ورئيساً لأركان الجيش العراقي.
عمر باشا:- كلاّ مطلقاّ… فـ”نورالدين محمود” في ذلك الحين كان ما زال برتبة “أمير لواء ركن” قائداً للفرقة الأولى ومقره بمعسكر الديوانية… أما رئيس أركان الجيش العراقي -منذ عام (1944) وخلال حرب فلسطين ولغاية (1951) ولسبع سنوات متلاحقات- فقد كان العسكري المُبدِع “العميد (الفريق أول الركن) صالح صائب الجبوري”.
أنـا:- ولكن طالما سمعنا عن كون “اللواء مصطفى راغب باشا” قائداً للقوات العراقية في فلسطين… فما الحقيقة؟؟؟
عمر باشا:- هذا موضوع ثانٍ وشائك ربما سأتطرق له بعدئذٍ… فلا تقطع سلسلة أفكاري.
أنـا:- تأمر باشا… ولكن إسمح لي بسؤال لا أستطيع إرجاءَه:- هل تحركت كل هذه القوات العراقية والعربية لأجل القضاء على ((عصابات صهيونية))؟؟؟!!!
عمر باشا:- أية عصابات يا ولدي؟؟؟ هذه تسمية يرددها الإعلام العربي المخادِع للشعوب إستخفافاً -مُعتاداً في نفوسهم- باليهود وإسرائيل وكل خصومهم، فواقع الحال كان نقيض ذلك.
فقد باشر الصهاينة منذ العشرينيات بتأسيس فصائل مسلّحة بمثابة “جيش شبه نظامي” في أرض “فلسطين” -المحتلّة بريطانياً- بالإفادة من مهاجرين يهود سبق وأن قاتلوا وسط جيوش أوروبية وأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وطوّروا ذلك الجيش بإنضمام ضباط وجنود خبروا قتالات شرسة بأفتك الأسلحة في أعوام الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بل أن “إسرائيل” -فور القرار الدولي على إنبثاقها عام (1947)- بادرت إلى تحويل تلك الفصائل إلى جيش نظامي على شكل (سبعة جحافل ألوية متكاملة تمتاز بسرعة الحركة) تحت قيادة رئيس الأركان “الجنرال يعقوب دوري” الذي أشرف على تجهيزه سراعاً بالهاونات والرشاشات وأسلحة مقاومة الدبابات والدفاع ضد الجو والمعدات الحديثة، وستأتيه عشرات الدبابات والمدرعات والمدافع والطائرات المقاتلة والقاصفة والنقل التي اُغدِقَت عليه -دون مقابل مادي- من أفضل ما إستثمرته “بريطانيا وأمريكا والإتحاد السوفييتي” من سلاح متطور خلال تلك الحرب العظمى، بل وأصروا على تحويل قواتهم من مشاة يسير على قدميه إلى جيش آلي ذي قابلية حركة ميدانية مشهودة، ناهيك عن إستيلائهم على -أو إستلامهم- معسكرات جاهزة ومطارات متكاملة تركتها “بريطانيا” سائبة في أرض “فلسطين”، فأمسى الجيش الإسرائيلي محترفاً ومهنياً يتفوق بقدراته وإمكاناته على أي جيش عربي بمفرده… أما منظماتهم المسلّحة -وبضمنها النساء القادرات على حمل السلاح- فقد أُنيطت إليها مهمات حماية الأمن الداخلي والمباني والدوائر وسط المدن والبلدات وإنشاء نقاط محصّنة بالكونكريت شكّلت خطوطاً متعاقبة لدرء الأخطار عن مستوطناتهم، فيما تحوّل عدد من تلك المنظمات إلى أشبه ما تكون بـ”قوات خاصة” تُغير على الفلسطينيين مراراً وبشراسة فتُرغمهم على هجر منازلهم وقراهم… وقد سعت رئاسة أركانهم لإتباع مبدأ ((المبادأة)) بعمليات تعرضية إبتغاء نقل المعركة إلى أرض العرب وعدم إنتظار هجماتهم المفترضة على اليهود في البقاع المستولى عليها، وقد توفّقوا في ذلك كثيراً فور إندلاع الحرب وخلالها… فلا تصدّق الأقاويل عن كونَهم مجرد ((عصابات)).
أنـا:- وماذا عن جيوش العرب؟؟
عمر باشا:- كانت ضئيلة العَدَد قليلة العُدَد بَخُلَ عليها الزعماء السياسيون لرداءة إقتصاد دولهم.
أنـا:- وكيف تم تحشيد القوات العربية؟؟؟
عمر باشا:- قَدَّرَ رؤساء أركان الجيوش العربية، وأبرزهم “الفريق الركن صالح صائب” -قبل أسابيع من موعد ترك البريطانيين لـ”فلسطين”- أن يتم تحشيد ما لا يقل عن (خمس) فرق نظامية كي تتفوق على العدو بالعَدَد فتقتحم “فلسطين” بعمليات مشتركة سريعة وتحت قيادة مُوحَّدة من جميع المحاور المتاحة لإستحصال الغاية المُرتَجاة وبأسرع وقت ممكن قبل أن يتدخل العالم لصالح اليهود… ولكن الزعماء السياسيين بمجموعهم (عدا العراق) لم يوافقوا على تحشيد ما يزيد على فرقتين قبل (15/5/1948)، على أمل مُضاعفة العدد تباعاً حسب تطورات المواقف.
أنـا:- والآن هل لك -يا عمي العزيز- أن تنوّرني عن الخطة العامة للهجوم العربي على المناطق المستحوَذة عليها يهودياً؟؟
عمر باشا:- من الطبيعي أني لم أطلع على هكذا مستوى في حينه، فقد كنتُ ما زلتُ بمنصب آمر فوج في شمالي الوطن، ولكني علمتُ بها فيما بعد… وملخّصها:-
“الملك عبدالله بن الحسين” القائد العام (الفخري) للقوات العربية.
القائد العراقي “اللواء الركن نورالدين محمود” وكيلاً عن القائد العام في وضع الخطط وتوجيه جميع القوات العربية مع فجر يوم (15/5/1948)، وقد إلتحق تحت إمرته ضابط إرتباط من كل جيش عربي مشارك للتنسيق مع قياداتهم.
خطة المرحلة الأولى
إستهدفت خطة المرحلة الأولى من الحرب تشتيت المستوطنات اليهودية إلى أجزاء وتحريم التعاون فيما بينها تمهيداً للمرحلة اللاحقة لبلوغ “حيفا وتل آبيب”:-
القوات اللبنانية:- (ربما فوج واحد) يتبع محور ساحل البحر الأبيض من “رأس الناقورة” نزولاً نحو “ميناء عكّا”.
القوات السورية (لواء واحد فقط):- يندفع على محورين من مرتفعات “الجولان” بإتجاه مدينتَي “صفد والناصرة”.
القوات العراقية (حوالي فرقة):- تجتاز “نهر الأردن” من قاطع “إربد” مستهدِفةً “قلعة كيشر- كوكب الهوى- مرتفعات العفولة”، والتي عُدَّت الجبهة الأهم والأقرب لبلوغ سواحل البحر الأبيض.
الجزء الأصغر من الجيش الأردني (بمستوى فوج):- يتعاون مع القوات العراقية لدى عبورها “نهر الأردن” نحو “بيسان- العفولة”.
الجزء الأكبر من الجيش الأردني (عدد من الأفواج):- يتوجه من “جنين” مستهدفاً مدينة “العفولة” ليلتقي فيها القوات العراقية.
القوات المصرية (لواء واحد فقط):- يتحرك على محورَي “غزة- عسقَلان” و”بئر السبع- مدينة الخليل”.
أنـا:- وهل طُبِّقَت تلك الخطة؟؟
عمر باشا:- ولا 10%!!!! للأسباب الآتية:-
قبل كل شيء كانت القوات اليهودية قد بادرت للإستيلاء على المعسكرات والأسلحة التي تركها البريطانيون سائبة منذ أواخر (1947) واوائل (1948)، وشنّوا هجمات هنا وهناك وأزعجوا القوات الأردنية التي كانت متمركزة في المدن الفلسطينية، فقرر رئيس أركان الجيش الأردني “الجنرال البريطاني كلوب باشا” سحب القوات الأردنية منها، ما أتاح للصهاينة فرصة ثمينة للإستحواذ على المزيد من المواقع ذات الأهمية، والتجاوز على بقاع كثيرة من حدود الجزء العربي من “فلسطين المقسّمة”، وبضمنها أحياء عربية وسط “القدس”.
وفوق كل ذلك كانت المنظمات اليهودية المسلّحة تتمركز في بقاع عديدة حالما يُفرِغها البريطانيون، ويُنشئون تحصينات على جانبَي الطرق العامة المتشابكة ويزرعون متفجرات لفلق الجسور والقناطر إبتغاء تأخير القوات العربية التي تهدد (إعلامياً) بإسترداد كامل “فلسطين” من أيديهم.
وحسب الخطة المفترضة للعمليات المشتركة، لم تستطع القوة اللبنانية من إجتياز “الناقورة” نحو الجنوب تحت ذريعة شدة المقاومة اليهودية… فيما تقدمت الجيوش العربية الأخريات مجتازة الحدود الفلسطينية بدون تنسيق ولا إلتزام بقرار القيادة الموحدة، فيما لم يندفع الجيش الأردني بإتجاه “بيسان” ولم يتقدم نحو “جنين-العفولة.” ولم ينفّذ “كلوب باشا” إتفاق العودة بقواته إلى “القدس”!!!
كانت وحدات القوة الآلية من الجيش العراقي بقيادة “الزعيم (العميد) طاهر الزبيدي” ((المنفّذة الأفضل)) للخطة العامة بإجتيازها “نهر الأردن” فجر (15/5/1948) إلى غربيّه نحو “قلعة كيشر” بإسناد مدفعي وجوي، تبعها في العبور مساءً فوج من جحفل اللواء/1 الذي هاجم في اليوم التالي (16/5) على تلك القلعة رغم إخفاقه في إقتحامها، في حين عبر جحفل الفوج/1 من اللواء/15 صباح (17/5) نحو مرتفعات تطلّ على “كوكب الهوى” إستعداداً لتعرض وشيك مُدَبَّر لإستردادها.
وفي هذا الشأن العراقي -الذي يشتمل العديد من المواقف الميدانية المتلاحقة، ولا تسعفني ذاكرتي بها- فقد تلمستُ -بعد مرابطتي في ساحة الحرب- ضآلة التَرَوّي في تحريك الوحدات وتبديل محاورها وتكليفها بواجبات مغايرة وإعادتها إلى الخلف ثم دفعها سراعاً إلى الأمام وتغيير الخطط بشكل آني، والتي أثَّرَت سلباً على ثقة آمري الوحدات بالقيادة العامة.
ومع المحاولات الدولية الواضحة لفرض هُدنة وشيكة بين الطرفَين المحاربَين لإفادة الجانب اليهودي، وبينما كانت القيادة العراقية تستحضر لهجوم واسع على “كوكب الهوى” فقد طلبت من مدير الحركات العسكرية بوزارة الدفاع “الزعيم (العميد) الركن حسين مكي خماس”

الإسراع بتحريك جحفل لواء آخر ليَنضَمَّ إلى سابقاته، فقد تقرر -لدواعٍ غامضة- تغيير المحور الرئيس للقوات العراقية من مواقع إنتشارها الراهنة في تلك البقاع لتكون وجهتها نحو “نابلس”؟؟؟!!!
أنـا:- هذه -يا عم- معلومات لم أسمع بها من قبلُ… والآن غدوتُ تواقاً لحركة فوجك الذي يبدو أن دوره قد أتى؟؟؟
عمر باشا:- نعم… ولكني أمسيت مُستَشعِراً بتعب شديد، ولم أعد قادراً على مواصلة الحديث فقد إقترب منتصف الليل… وأنت -ما شاء الله عليك- ليس لديك مانع أن تسهر حتى الصباح، لذا فلنرجئ حركة الفوج ومعركة جنين إلى لقاء قادم بعد أيام، وليكن موعدنا -كما اليوم- بعد صلاة التراويح.