23 ديسمبر، 2024 3:19 ص

أموال العتبات المقدسة شتات في زمن الفوضى

أموال العتبات المقدسة شتات في زمن الفوضى

سبق وكتبت في مطلع سنة 2008 مقالتين مطولتين عن حقيقة الأموال العائدة للعتبات المقدسة في العراق ، الحاصلة من السياحة الدينية ، ومن الحقوق الشرعية المستحصلة تحت عنوان ( الخمس ) ورغم رأينا العقلاني والشرعي والديني في موضوع الخمس الذي ذكر بسورة الأنفال مرة واحدة بسياق الحديث عن غنائم معركة بدر الكبرى ، ولا أرغب بالخوض في هذه النقطة بالذات بالوقت الحاضر ، ولكن هناك حقائق تتراكم مع مضي الأيام والسنين ، ولا نجد من يتصدى لكشف ما وراء الستار ، خشية من ردة الفعل العنيفة التي ستأتي بالتأكيد من جهات مستفيدة ومتنعمة منذ عقود متوارثة محمية بما يسمى تقديس شيء ما من دون الاعتماد على قاعدة علمية أو فقهية تتطرق إلى أدق التفاصيل .

إن حجم وكم الأموال المستحصلة من النذور في شبابيك الأئمة الأطهار عليهم السلام ، ومبالغ الحقوق الشرعية للخمس ، تقدر بميزانيات دول مهمة ، يتم جمعها على مدار السنة ، في الماضي وقبل المتغيرات التي حصلت سنة 2003 كانت الحكومة تجمع كل يوم خميس المبالغ التي تتجمع من النذور في شبابيك المراقد ، تحت إشراف لجنة متخصصة من وزارة الأوقاف الدينية ، وتودع بخزينة الدولة ، تحت أشراف وزارة المالية ، وبالمقابل كانت تتعهد الدولة بجميع أعمال الترميم والتطوير والتوسع لجميع المراقد ، وبدفع رواتب العاملين والسدنة ، وإن كانت ليست بالمستوى المطلوب ، ولكن الأمر كان يجري بشكل واضح ومنتظم ، أما بالنسبة للحقوق الشرعية من الخمس فكانت تمر بالصورة المعتادة ولم تتدخل بها الدولة أو الحكومة في حينها وطيلة سنين مضت ، وبعد المتغيرات السياسية التي حلت بالبلاد ، أختلف الأمر تماماً خاصة بفترة حكومتي المالكي السابقتين ، حيث سلمت العتبات ومن دون أي أتفاق وأصبحت عائديتها تتبع مباشرة لسلطة مكتب السيستاني وهو من يتحكم بجميع الأموال ، سواء أموال النذور المستحصلة من شبابيك المراقد ، أو الأموال الشرعية الخاصة بالخمس ، ولكن بقي أمر ترميم وتوسعة المراقد وصحونها ومنشئاتها على عاتق الدولة ، بل أصبح الأمر مبالغاً به من خلال زيادة عدد وقيمة الرواتب الشهرية لكافة المنتسبين من خدام المراقد والعاملين بكافة أنواع درجاتهم ومناصبهم ، إضافة إلى القيام بأعمال صيانة وتوسعة كبيرة جداً ولا زالت مستمرة ولم تتوقف ، فيما قامت بعض العتبات بتوسعة المساحات المحيطة بتلك المراقد ، من خلال شراء الأراضي القريبة ، والتي سبق وشيدت عليها فنادق ومطاعم ومقاهي وحسينيات ومساجد ، قامت الدولة بدفع تعويض مادي كبير جداً لأصحاب هذه المنشئات .

وكلما يجري هو أمر مفرح يساهم في خدمة الزائرين ، وخاصة المنشئات التي بنيت في مدخل مدينة كربلاء المسماة ( مدينة الزائرين ) هذه التجربة التي يروم أصحابها بتوسعتها لتشمل بناء مدن للزائرين بين المحافظات تعوض عن البناء العشوائي الذي يقوم به بعض الأفراد والجماعات تحت عنوان المواكب ، التي تقدم خدمات للزائرين اللذين يسيرون على الأقدام في بعض المناسبات الدينية .

ولكن السؤال الذي يجب أن يطرح ويناقش بشفافية وصدق وإخلاص ، إن من حق المواطن العراقي أن يحرص على أمواله ويحاسب القائمين عليها بغض النظر عن وضعهم ومنزلتهم

الدينية أو الرسمية ، خاصة وإن تلك الأموال كبيرة وضخمة ، ولم يلمس المواطن البسيط والمحتاج أي ثمار من نتائج جنيها عبر سنين كثيرة ، بل الأدهى من ذلك ، أن تذهب تلك الأموال لتتحول إلى مشاريع أسكانية وصروح بأسماء أبناء لبعض رجالات الدين من المتسلطين على جمع تلك الأموال ، بينما لم يفكر إي شخص من هؤلاء من إنشاء مستشفيات خيرية ، أو دور للأيتام أو الأرامل ، داخل العراق ، وكنا نتمنى أن يتحلى رجال الدين اللذين يمارسون هذه الأدوار منذ عقود مرت بتجربة السيد حسين فضل الله في لبنان حينما فتح مؤسسة أسماها(مؤسسة المبرات الشرعية ) حينما وضف أموال الحقوق الشرعية في مشاريع منتجة مثل إنشاء محطات الوقود والمطاعم الخمسة نجوم ، والمستشفيات الخيرية ، وبعض الفنادق المحترمة ، والتي أصبح لها ريعاً مادياً جيداً ، تحول هذا الريع مباشرة ، لفتح دور لكفالة الأيتام حتى بلوغهم الجامعات ، وفتح دور للمسنين ورعايتهم بكرامة وتقدير ، وكفالة الشباب الراغبين بالزواج ، ولم يتمكنوا من توفير الأموال المطلوبة ، وغيرها من المشاريع الخيرية التي أصبح لها بصمة واضحة في لبنان ، هذا المرجع المعروف ، ترك عند وفاته صدقة جارية لن تنقطع ، وأعطى صورة ناصعة وجلية لمعنى التكافل الاجتماعي الإسلامي المطلوب من دون تمييز تحت مسمى الانتماء لطائفة ما على حساب أخرى ، بل أن جميع تلك المشاريع تقع تحت عنوان الإسلام فقط قولاً وفعلاً .

التقيت قبل فترة قصيرة بأحد المهندسين المحترمين في مدينة كربلاء وأثناء الحوار معه علمت أنه يعمل كمهندس مدني تابع للعتبة العباسية المقدسة ، وسألته عن تبعيته الوظيفية وكيف يستلم راتبه الشهري ، فقال أنه يعمل كموظف حكومي منسب للعتبة العباسية ، وراتبه وجميع امتيازاته يحصل عليها من الحكومة ، ولكنه يعمل لدى العتبة ، وهو واحد من مئات غيره يعملون بهذا الشكل ، وحينما سألته عن الأموال التي تجنى من تلك العتبات ، وضح لي بعفوية تامة واندفاع من دون أن يشعر أنه كان يؤلمني من الداخل بما سمعته منه ، حينما قال أن العتبات أصبحت خمسة عتبات بعدما أضيفت عتبة سامراء وألحقت بالمرجعية من حيث الإيرادات ، وأوضح أن جميع الأموال تعود لمكتب السيد أي مكتب السيستاني ، ولكنه لم يكن يملك جواباً عن اتجاه تلك الأموال وأين تذهب ، لأنه ولا غيره يعلم بذلك ، والحكومة لا تتجرأ لمناقشة هذا الأمر ، ولكنه أوضح أن الوضع أختلف بعدما خرج المالكي من رئاسة الوزراء لأنه كان يدفع أموالاً شهرية كبيرة لمكتب السيد لتسديد الرواتب وإجراء الترميمات والتوسعة .

بعد وفاة السيد الخوئي بعقد التسعينيات ، انكشفت فجأة الأمور حينما تبين أن جميع الأموال الشرعية العائدة للمرجعية الدينية كانت قد حولت بحساب شخصي في لندن باسم عبد المجيد الخوئي ، نجل السيد الخوئي ، بعنوان تأسيس مؤسسة الخوئي العالمية ، ومقرها لندن فقام بعض مراجع الدين بمطالبة السيد عبد المجيد بإعادة تلك الأموال لتعود تحت سلطة المرجعية ومن سيتزعمها ، لأنها أموال شرعية تعود للمحتاجين والفقراء وطلاب العلم من الشعب العراقي أولاً وبعدها لغيره من مواطنين الدول الإسلامية ، وكان من أشد المطالبين بإعادة تلك الأموال هو السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر ، ولكن السيد عبد المجيد الخوئي رفض الانصياع لهذه الطلبات وأعتبرها أموالاً شخصية ، قد ورثها ، وقبل مقتله بالنجف حينما جاء مع قوات الاحتلال الأمريكية أعاد مبلغ عشرة ملايين دولار فقط سلمها لمكتب السيستاني ، ولم يٌعرف مصيرها بعد ذلك .

إن التردد في قول الحقيقية وإظهارها للعيان يؤخر من قيام الحق وتثبيت العدل ، وإن أول الجراحات حينما تصبح المرجعية الدينية في مرمى الشبهات ، وتزيد من الطين بله ، حينما يحصل ما حصل ، بأن تتكفل الدولة بكلما يتعلق بالعتبات المقدسة من صرفيات هائلة هامشية وجانبية ، وخاصة بما يتعلق برواتب تدفع لأعداد مبالغ فيها من العاملين ، وفتح مطاعم بعنوان مضايف لإطعام الزائرين لا يستفيد منها في كثير من ألأحيان إلا ثلة معينة من القائمين عليها ومرؤوسيها ، وبعض الفئات من الزائرين لدول معينة من دون أخرى ، حيث دخلت المحسوبية والعلاقات الشخصية في إدارة تلك المطاعم ، والأدهى من ذلك حينما تجد في مدينة الزائرين بكربلاء جزء مخصص بشقق فارهة ومؤثثة لا يدخلها ولا يستفيد منها إلا أشخاص وجهات معينة مرضي عنهم وبتوصيات خاصة من جهات معينة .

حينما يتبعثر الكلام والهدف وتصبح الإدارة الدينية التي كان من المفترض أن تكون قدوة وعلامة أمينة تحمي الجميع بعدالة السماء والدين الحنيف ، إلى أفعال لا يعرف لها تفسير على مدار سنين ، فالحكم عليها يصبح واضحاً لا يحتاج إلا جرأة وشجاعة في القول .