17 نوفمبر، 2024 7:42 م
Search
Close this search box.

أموات ، ولكنهم يتحكمون بالأحياء !

أموات ، ولكنهم يتحكمون بالأحياء !

فرد ومجتمع ضد المرأة
لحظة كربلائية عتيقة
إلى روحٍ مضمخة بالإيثار والعطاء :
المرحوم محمد الأموي : أبو منتظر
الرادود الحسيني وصاحب يـدٍ احبها الله ورسوله.
كان رشيقاً ، طويلاً فارعاً ، لم يكتنز جسمه الصلب اللحم أو الشحم ، وإنْ لمْ يكُن أنيقاً يُشار له بالبنان أو الحسد ، على الطريقة الأوربية الحديثة . دشداشة تفتقد الألوان أو الخطوط المقلمة ، داكنة لا تحتاج إلى غسيل يومي ، وجاكيت يتماشي ولونها ، ونعال من الجلد الكستنائي أو الأسود فقط ، ذلك هو مظهره الدائم في موسم الشتاء البارد ، هي كل أزيائه في شتى المناسبات العادية ، وليس الاِستثنائية حتماً ، أما في فصل الصيف فدشداشة من النوع الخفبف ، ولكن قماشها من النوع غير الشفـّاف ، والنعال من ذات النوعية . ذلك هو رداؤه اليومي .

لا يشكو من أي عيبٍ خِلـْقي ، هيئته ذات قوام جميل ، طريقة أحاديثه مركزة لا يميل إلى الإستفاضة بالوصف ، بل لا يحسنها ، حتى لتظنَّ أنه إستغني عن اللغة الرفيعة . تسريحة شعره منسدلة إلى الأمام ، لكنها ممسدة ، طرية وناعمة ، تسرح نحو الأرض على الدوام ، هي جميلة وتغطي أغلب جبهته ، سـواد الشـعر وبياض الوجه متناغمان . والضدُ يسفرُ عن غامض الضدِ . وعيناه الجميلتان الواسعتان ، زينهما الحَـوَرُ الجميل .

كان يمتلك مشغلاً صغيراً لصناعة الأحذية الرجالية ، وهي ظاهرة كانت شائعة في مدينته الحرفية الزراعية بكثرة ، قبل طوفان الإنتاج الصناعي الحديث على صعيد الأحذية السود والملونة الغامقة من كل الأصناف والمقاسات ، ومختلف النوعيات ، الجيدة أو الرديئة ، وإنتاجه الأنيق والدقيق واللمّاع والمتقن ، مطلوبٌ للتسويق طوال العام ، عمله ينحصر ما بين تجهجر الضوء وتقهقره ، أي ما بين بزوغ الصباح المبكـِّر وغروب الشمس ، بغض النظر عن الزمن الوئيد لنهار الصيف المديد ، أو وقت نهار الشتاء القصير . . . السريع ، فليس هناك نظامٌ مفروضٌ من قبل سلطة حديثة ما ، أو تنظيم نقابي معين ، يقنن وقت العمل وساعاته المحددة ، ما خلا العمل المضني قبيل أيام الأعياد ، إذ يستمر فيها الشغل حتى الساعات الأولى من أواخر الليل الهاديء تماماً ، إلا من خطوات حرس الشرطة الرسميين ، وربما حتى الفجر في بعض الأحيان المأزومة . عطلاته اليومية تتوافق مع مناسبات الوفيات السنوية لأئمة المذهب الإثني عشري ورحيل الرسول محمد صلى عليه وعلى آله وسلم ، وفاطمة الزهراء بنت الرسول وأم الحسنين .

كل المؤشرات تدلَّ على أنه ذو وضع مالي مريح وجيد ، كما يقول المقربون منه ، مكتفٍ بمتطلبات الحياة الرتيبة ، خالية من مصاريف السفر أو الرحلات البعيدة ، فضلاً عن أنه لا يتعاطى المحرمات التي تستنزف النقود ، وفوق ذلك كان يمتلك صوتاً شجياً رخيما ذا نبرات متميزة ، يمكنه تنغيمه وترنيمه المقامي المتفاوت ، علاوةً عن التحكم بقراره وجوابه وقت ما يشاء ، هذا الصوت الجميل فسح له المجالَ الواسع ليصبح منشداً في المآتم اللطمية

الحزينة ، التي طالما عرفتها مدينته وحسينياتها وبعض جوامعها ، وربما شوارعها / جاداتها غير الرئيسية أو ساحاتها الدائرية : فلكاتها الإسم الشائع في المدينة .

كان يعتلي المِنبر الحسيني ، واقفاً فوق نهايات سلالمه العُليا ، فيشاهده جميع الذين حضروا مجلس العزاء ، ليقوم بالتغني بالطور الحسيني الشجي الأخـّاذ للعواطف ، لقصائد النعي الطويلة والمتقنة ، تضفي من الصفات نصف الإلهية على ثائر شهيد وأدَتْ عائلته السلطةُ الأموية في عام 61 هجرية ، فأصبح هو ومَنْ معه قديساً ، أمام جماعات بشرية غير متراصة ولكنها ليست بمتباعدة ، خلعت نصف ملابسها ، وهي تلطم الصدور بإيقاع رتيب لمدة ساعة ونصف الساعة تقريباً ، تزيد مع توالي الأيام العشرة من شهر محرم ، الشهر الأول في السنة الهجرية القمرية ، حتى تنتهي إلى ساعتين من الزمن في اليوم الأخير : التاسوعاء من شهر الفجيعة من وجهة نظر الحزانى ، الختامي .

يجد المستمعون للروايات المنغمة شعراً وألحاناً ، التي تروي دقائق الملحمة ، في ظل ذلك المناخ الفجائعي ، ضالتهم المنشودة في التفريج عن كروبهم الدنيوية المتعددة ، بالهروب الذهني إلى الماضي السحيق أو البعيد ، لفترة زمنية قد تزيد على القرون العشرة ، وذرفْ الدموع على رجلٍ جاهد الظلم والعسف ، والمتسلطين من الجبابرة الطغاة ، ومضى شهيداً سعيداً . كلٌ يرى في المأساة الحسينية مأساته الشخصية ، فيندب ذاته متماهياً مع الحدث ، ويمضي في تعذيب نفسه وجسده بروح سادية عجيبة أو قل بعقلية مازوخية رهيبة .

الغريب أنَّ هذا الثائر الذي قـُدَ من البسالة والصبر والإيمان ، هو حي عند إلهٍ سرمدي صمد وواحدٍ أحدْ ، كما يجسده التراث الجَماعي لهذه الأمة ، مثلما تجسّده ثقافة الفرد الحضارية الإسلامية ، عند كل مـَنْ اِختار هذا المعتقد المذهبي ، وآمـن في نسـقه الفكـري المتناقض ما بين أطروحاته الكلية وتكويناته الجزئية ، تناقض الحياة ذاتها ، وأفكاره قد تكون خرافية في بعض الأحيان أو أسطورية بوصفٍ أدق .

ولكن ، مع ذلك فهم : الأتباع المخلصون وغير الواعين في آن ، كما هم غالبية المؤمنين الفطريين ، ويشـكلون الأغلبية من ذلك النسـيج البشري ، المختلط في تكوينه الطبقي ، يزفرون لواعج الأحزان وقد تجسّدت دموعاً مذروفة أو مترقرقة ، وينسجون خيوط الأشجان وقد تبدّت ألماً ، ضرباً بالأيدي على الصدور ، وشجـّاً للرؤوس بالقامات والسيوف واليطغانات ، وجرحاً للظهور بالسلاسل الحديدية ، التي يتشكل بعضها ، وفي نهاياتها ، بالسكاكين المعقوفة .

كان تصاعد الصوت ذاك ، وقد تلوى بالعبرات الكسيرة ، يدُّر عليه النقد الإضافي ، وغيرهُ ، من أموال عينية ، عبر التبرعات أمام جميع المُعـزِّين أو المتواصلين معه في البيت ، ناهيك عن إرسال البضائع العينية إلى البيت بشكلٍ سري غالباً .

سريع الخطوِّ وهو في عـَدْوه المتكرر بين المشغل ، الذي يطل على الشارع العريض الذي يتصل بالمرقد المذهب والمتميز للإمام العباس بن علي بن أبي طالب ، المزفـَّت بالقار الأسود ، والمُبلطـَة رصيفيه الجانبيين حديثاً ، بألواح إسمنتية كبيرة ، مربعة ، ملونة بالأحمر والأصفر ، فيما البيت يقع في أحد الأزقة الضيفة المجاورة . لا يصدرُ أيَ صوت عنه عند المشي ، بسبب عدم سحب النعال ، إنما يرفعه وقد تيبست سيوره على الصفحة العليا لقدمه البيضاء ، ولطالما فاجأ الآخرين بحضوره على حين غـَرَّة ، مركـِّزاً البصرَ على الأرض ، لا يهتم بأي أمر سوى جواب غير إرادي ، على تحيات المستطرقين الذين يتقاطعون وإياه في الدرب : هلا ، عليكم السلام أغاتي . إذ لا يسـابقه أحدٌ في جريه نحو دكانه أو عودته لمنزله . ولن يسبقه أيّ كان .

إنه الوحيد لعائلة تتكون من أمٍّ فقدت زوجها ، لقد ترملت منذ أنْ كان اِبنها صغيراً ، يانعاً ندياً يافعاً ، فاِنصرفت للاِهتمام بشؤونه التربوية ، وبتنشئة شقيقته التي تكبره سناً ، ولخدمة آخرتها الموعودة كذلك ، كما هو شأن أغلب الأمهات المجايلات لها في العمر والسن ، فالزواج مرة أخرى ، يُعـَّد فضيحة بجلاجل بين الأسر ، يمجـُّها الذوق العام في تلك المدينة ، ويرفضها الواقع الاِجتماعي القائم على قمع الرغبة . أما الرجل فقد كان من حقه الاِقتران بأكثر من واحـدة ، وإنْ لمْ يكن أرمـلاً ، من أقربائه أو البعيدات عنه نسباَ وأرومة ، وربما فصلاً عشائرياً أو تبادلاً على طريقة “كصة بكصة” ، وقد يجمعهنَّ في بيت الطاعة الواحد ، ليتفرغن لخدمته ، وتنفيذ صبواته ، والاِستجابة لنزواته .

كانت أمهُ تؤدي مناسك المذهب الذي خاصِّيته الأساسية : البكاء المتوسل بالدعاء على الخصم ، وليس من سماته ، قطعاً ، الغضب المنتقِم من النـَدِّ الظالم ، كالخوارج مثلاً . أختُـه العانسة لم ترَ المدرسة أبداً ، ولما يأتِها النصيب للزواج ، لذا هي تنتظر في البيت ، متلفتـة ، بكتمان شديد ، لكل طـارق على باب الدار الموصـدة دائماً ، لعل وعسى أنْ تـُقـدِم أمٌ ما لخطبتها إلى ولدها ، بغية إتمام نصف دينه . كانت قلقة حول مستقبلها ، وإنْ كان ذلك بكتمان شديد . وهكذا كان يتردد في ذلك المجتمع حول مصير العوانس البـِكْــرْ .

هو الآخر ، كان يفكر بالزواج بعد أنْ بلغ الثلاثين عاماً ونيفاً من العمر . وهو أمرٌ غير مألوف في تلك المدينة قطعاً ، لا أحد يعرف على وجه الدقة حياته الجنسية الخاصة ، فتلك ((المرحلة التي تتكون من المراهقة والشباب)) عند الأفراد جميعاً ، ما خلا ((المستهترين)) الذين لا يقيمون وزناً للعُـرف الاِجتماعي ، هي سرُ الأسرار الرئيسة والبارزة في المجتمع ، لذا : يرى العائشُ وسط ذلك التجمع البشري ، المتابع الدقيق اللماح ، والمتلقف للتفاصيل الصغيرة : ((كمْ)) التقولات و((نوع)) الحكايات عن سيرة هـذا ، ورصد التصرفات المريبة ، وليست المعيبة المشينة فقط ، عند ذاك . وشجون الجنس كلها عورة ينبغي لها أنْ تـُرْجَـمْ ، من وجهة نظر أولئك الناس كلهم ، وإنْ كان ذلك في العلن فقط ، في مجتمع مشهور بخصلة الاِزدواجية المقيتة .

ربما كان مهموماً ، بالدرجة الأولى ، عن سمعة عروسه القادمة ، المُفتـَرَضة . إذ يجب أنْ تكون الفتاة من ذلك النوع الذي لم يقــِّبِلـْها أحدٌ أبداً ، غيرُ أمها . كما تذهب إلى ذلك الحكمة الشائعة . لا تعرف أية علاقة عاطفية تبعث على الظن ، وإنْ كانت كاذبة ملفقة أو مُختلقة ، مع الجنس الآخر . وأنْ لا تكون ثيباً ، بل يجب أنْ تبقى علامة البكورية ، التي تتمركز في عضو الولادة ، ونصاعة الشرف الشخصي ، ملازمة لها . سمعة أهلها ، وصيانة كرامتهم ، هي المبتغى الأول والأساس ، من وجهة نظره . لم ينهش أحدٌ بأخلاق عائلتها مطلقاً ، والعائلة في تلك المنطقة الضيقة ، التي يعرف فيها البعضُ بعضَهم ، ليست الأب والأم والأخوة والأخوات فقط ، بل هم الأعمام والأخوال والمنحدرين من أصلابهم .

صرامة الاِختيار تجعل منافذ الاِنفراج ضيقة . يجب أنْ تتحمل تلك العروس ((المختارة)) وزر تصرفات الأسرة كلها ، أي الأقارب أيضاً ، وليس نتائج عملها فقط ، وأفعال عائلتها الصغيرة ، ذلك هو ظلمٌ بيِّن بمعيار الشـريعة السـماوية ومنطـق “لا تزر وازرة وزر أخرى” .

في ليلةٍ شتويةٍ قارصة ُ البردِ ، زمهريرية ُالهواء ، خالية ٌ من المطر ، وأصواتُ الرياحِ ترسلُ صريراً يصُمُّ الآذان ، وفي مناخ صحراوي مثالي ، جافٌ بارد في الليل ، حار لاهب في النهار ، وقاسٍ مرير تماماً ، جلس أفراد العائلة الثلاثة القرفصاء على أرضية الغرفة ، متحلقين حول المنقلة الدائرية ، وجمراتها الكبيرة تتقد تحت القارورة الخزفية للشاي السيلاني ، وكان القوري قد اِعتلى بشكلٍ محكم ، إبريقاً من المعدن الألمنيومي البراق ،

وصوت التلاوة القرآنية الحُصرية الجميلة تملأ الحجرة ذات الأربعة أمتار ، العالية السقف المزركش ، بحيث تتسع لنوم الجميع ، فالتلفزيون عند العائلة من المحرمات ، لأنه يجلب الفقر للعائلة ، والفســاد للبيت : من وجهة نظره . وهو يفتعل أطراف الحديث مع الأم ، رغم أنَّ التعليمات الإلهية تأمر المستمعين ، أنْ يكونوا خاشعين صامتين عند تلاوة القرآن في الجهر ، فيما كانت الأخت واجمة . . . صامتة كأنَّ على رأسها الطير ، كالعادة ، بعد اِنتهائها من وظيفتها اليومية ، إعداد الطعام والتخلص من بقايا الصحون المتسـخة بتنظيفها وغسلها ، وتهيئة الشاي السنكين والأسود ، والمطَعـَّم بكثيرٍ من السكر ، والملازم لتقليد متوارث ، وتقديمه ثلاث مرات ، أو أكثر ، في اليوم الواحد ، وأداء فروض الاِلتزام الديني .

تلك الأعمال البيتية والدينية هي كل وظيفتها اليومية ، والتي تنفذها برضاءٍ تام ، ومن دون صدور أي اِحتجاج بالنطق أو أي تمردٍ بالفعل ، ولن تقدِر بسبب النشوء التربوي الصارم .

ـ أماه : هكذا نطق ، قاطعاً أحاديث متنافرة تتناول هذه المسألة أو تلك ، مبتدءاً سؤاله بالآتي :

ـ ما هو رأيك بعائلة السيد مجيد العطار ؟ أليس يشرِّفون مَـنْ يصاهرهم ؟ .

ـ والله يا بني ، خيرَ ما نطقت به . وراحت الأم تواصل حديثها : هي عائلة كريمة وأبناؤها مهذبون ، مدعاة لاِفتخار أهل الطرف كلهم . وأكملت ، بعد أنْ اِلتقطت فحوى الغاية ، من سؤال ولدها الذي قلقت لصبره على الوحدة ، في ظلِّ تصاعد شوقها لرؤية أحفادها . ولديهم ، كذلك ، فتاة لم يرَ الجيرانُ صورتها ، تخرج مستورة ، ملفوفة بعباءة سوداء من النوع الفرنسي ، علامة برج إيفل ، وكان الأغنياء فقط يشـترونها ، من عتبة دارها ، وتعود إليها ، لا تدخل لبيت جار ، وكذلك ، لا تزور الأقارب ، إلا لماماً وفي المناسـبات فقط ، وفي ذلك هي مثلُ أختك تماماً ، لقد تركت المدرسة منذ بلوغ عمرها العاشرة ، عندما أكملت الصف الرابع . ولكنها تحفظ بعض سور القرآن وتقرأه .

إنها زينب ـ وهكذا كان اسمها ـ سبحان مَنْ صوَّرها ، فعيونها حوراء نجلاء ، ووجهها أبيض ، وجسمها مكتنز معتدل من غير سـمنة ، وراحت تزين الفتاة بالجمال ، وتبالغ فيه أيضاً ، أنها تشبه أبوها من حيث الطول ، وكان والدها هو الأطول بين إخوته الثلاثة ، ونفـَسَها على الأكل ، عند الطبخ ، يجبر الشبعان على تناول الطعام ، كما يتحدث خاصة العائلة .

كانت رابطة الدم البعيدة بين العائلتين ، قد وفرَّت عنصر المتابعة ، لتكوين وجهة نظر محددة ، تخص شؤونها الذاتية الأخرى ، نموها ، ومعرفة أسرارها غير الباطنية ، ففي اِجتماعاتهم المشتركة بتلك المناسبات المتناثرة ، المتواترة ، الحزينة أو المفرِحة ، تسود الثرثرة عن أي شيء وكل شيء .

ـ أجابها نعم ، والمجتمع الذي أحتــَّـكَ بوجوه عائلاتهم ، يتحدثون عن سمعتها بمثل ذلك ، ما رأيك بزيارة هذه العائلة ، وجسَّ النظر في تفكيرهم نحو فتاتهم ؟ ! .

ـ يوم المُنى يا ولدي ، ونِعْـمَ الاِختيار ، غداً سـأذهب إلى عمتك الكبيرة ، بغية الذهاب المشترك لزيارة أهل الفتاة في بحر هذا الأسبوع ، إذ لا داعي للتذرع بأسباب معينة ، كشرب الماء القـَراح ، أو أخذ قسط من الراحة في أعقاب تعب المشي ، لرؤية الفتاة ، مثلما تعرف أنت . نحن وإياهم يجمعنا الدمُ البعيد . وطالما رأيناها في المناسبات العائلية المشتركة ، لتقديم التعزية وجبر الخواطر ، أو حضور الفرح وأداء الواجب .

في اليوم التالي خرج شاكرٌ مبكراً ، رغم البرد الشديد الذي يندر فيه الثلج أو الجليد ، قاصداً مزار الإمام الذي اِصطبغت قبته بالذهب الحقيقي ، وكذلك كانت ، المآذن العالية اللتان تطوقان القبة المخروطية الكبيرة ، مطليتين بالذهب الخالص ، وقف أمام القفص الفضي ، وهو يخاطب الراقد تحت الأرض منذ ألف عام ونيف الألف من السنوات ، مستبدلاً الإله القدير على كل شيء ، بمخاطبة الإمام جـرّاء تلقـِّين مستمر ، وترديد لكلمات مضمونها قيلت في مخاطبة الرب المتفرد والفريد ، أجادها الإمام الرابع لمذهبه ، يكررها ، وهي تخلو من أي بُعـدٍ عقلي . يرجو إنساناً مثله تماماً ، وإنْ كان قدوة . متوسلاً إليه تسهيل مهمة والدته ، ناذراً ـ بينه وبين نفسه ـ تقديم أضحية له فيما إذا تمت الموافقة على اِختياره ، كبشاً للذبح وتوزيع لحمه على المعارف والأصدقاء ، حتى وإنْ لم يكنوا فقراء كما تقتضيها الشرائع السماوية ، كان قلبه يتحدث إلى خلجاته ، والقلق الغامض يوسوس صدره ، ويتفصد في رأسه ، وبدأ صوته يعلو بأنغامٍ شجية :

((إلهي أصبحت وأمسيت عبداً داخراً لك [لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً] إلا بك ، أشهد بذلك على نفسي وأعترف بقلة حيلتي ، فانجز لي ما وعدتني وتمم لي ما أتيتني ، فإني عبدُك المسكين المستكين ، الضعيف الضرير ، الذليل الحقير ، المَهين الفقير ، الخائف المستجير ، [. . .] ، فأنا الأسير ببليتي ، المرتهن بعملي ، المتردد في خطيئتي ، المتحير عن قصدي ، المنقطع بي ، قد أوقفت نفسي موقف الأذلاء المذنبين ، وموقف الأشقياء المتجرئين عليك ، المستخفين بوعدك ، سبحانك أي جرأة اِجترأت عليك ، وأي تغرير غررتُ بنفسي ، مولاي اِرحم كبوتي لحُـرِّ وجهي ، وزلة قدمي ، وَعُدْ بحلمك على جهلي ، وبإحسانك على إساءتي ، فأنا المُقِّر بذنبي ، المعترف بخطيئتي ، وهذه يدي وناصيتي أستكين بالقوَد من نفسي ، . . .)) وأكمل الدعاء الذي كله تذلل وتوسل وتحقير للنفس الأمَّارة بالسوء ، وكذلك كان يعتقد ، كانت الدموع التي اِنهمرت من مآقيه ، قد بللت وجنتيه الناتئتين ، اللتين اِستقرتا على لحية سوداء جميلة الترتيب . كان الدعاء الذي اِنهال من لسانه بصوتٍ كسير منسحق متهدج ، قطعة من كلمات تعبدية ، وجمل مازوشية ، لتعذيب الذات باِمتياز ، ودار حول القفص / الضريح ، يلثم هذا الجانب أو ذاك ويطلق كلمات الترجي والإستعطاف .

رجع إلى البيت مسرعاً ، وجد الفطور جاهزاً : الشاي والخبز الرقيق ، المدور والطازج ، الخارج تواً من تنور البيت ، وإلى جانبهما القليل من كباب العروق الذي تصنعه أخته ، اِجتمع شمل العائلة حول صينية الفطور بعد غسل أيديهم ، وبدأت أصوات أقداح الشاي بالخرير ، ولما يخضـَّب بالسُـكـَّر بعد ، بسملوا وحوقلوا [أي قالوا : بسم الله الرحمن الرحيم . . . ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم] ، وبدؤوا الأكل ، ومن ثم حمدلوا عند الخلاص من وجبة الطعام [أي كلهم قد حمدوا الله على نعمائه كلها !] ، وكلٌ ذهب إلى عمله ، من دون أنْ ينبئهم عن ذهابه إلى الإمام أو أين كان مقصده فجراً ، وماذا فعل خلال فترة غيابه عنهم ، سوى القول : أنه صلى ركعتين لوجه الله ، عند باب قاضي الحوائج لمرقد الصحن الحسيني الشريف ، فتلك الأحاديث عن الذات وهمومها ومشاكلها ، من الأمور المعيبة عند الرجال القوامين على النساء في كل الأشياء .

بعد فترة زمنية ، من أيام المساعي القلقة التي تكفلت بشجونها الأم والعمّة عبر الزيارات المتتالية ، والأحاديث المتكررة ، والتوسلات المترجية ، لنيل الموافقة العائلية المبدئية على خطبة الفتاة لزوج المستقبل ، فشلت المهمة لسبب يجهله تماماً ، فهو ذو سمعة حسنة ، ولديه عمل ، ودخـْل مناسب ، وبيت تركه له أبوه ، وفوق ذلك يمتلك قطعة أرض في الحي الجديد ، الذي سيصير لاحقاً أحدَ أجمل معالم المدينة ، إذاَ ، لماذا هو مرفوض من قبل أهلها وعائلتها ؟ لقد نزلت تلك النتيجة الناجمة عن مساعي الأم والعمّة ، نزول

الصاعقة على أمِّ رأسه ، وراح يلحق ((الصفنات بالدالغات)) ، كما يقال ، واِنقطع عن لقاء أعـز أصـحابه القليلين ، ممن كان يتزاور معهم بين فترة وأخرى . حتى عرِف السبب ، فاِرتاح قليلاً وإنْ لم يزَحْ عن فؤاده الهمّ الثقيل .

ـ لماذا هذا الشحوب على الوجه ؟ ولماذا هذا الضعف البدني ، يا شاكر ؟ .

ـ لا شيء . وهل يبدو عليَ تغيرٌ ما ؟ .

ـ هل تتجاهل أو تحاول تجهيلنا ؟ ، أجابه صديقه الحاج كريم .

ـ ربما قلة الأكل وكثرة المشاغل ! .

وغادر الدكان الواسع العائد لصديقه الحاج كريم مسرعاً وقد اِعتلت اِبتسامة صفراء على محياه ، عائداً لمحله ، واضعاً عينيه في المرآة المعلقة على حائط المشغل .

أدرك صديقه الحاج كريم بحسه التجاري الثاقب ، أنَّ صديقه في ورطة أو أزمة ، فجرى خلفه متعجلاً الخطو على غير عادته ، قاطعاً الشارع بخطوات تلقفت الزمن ، ووصل إلى المحل فرآه على تلك الهيئة ، التي تســمَّر فيها أمام المرآة ، فأطلقً صرخة اِستغراب متسائلة : ألم أقل لك حقيقة ما أنت عليه ، فعلامَ تنظر إلى المرآة ؟ هل رأيت مني رأياً مخاتلاً ؟ أو غير موزون ؟ هل شاهدتَ مني تقصيراً ما عند الشدائد ؟ .

كان شاكر يؤمن برجاحة عقل صديقه الضنين بالمعلومات عن الآخرين ، ومقته الشديد للثرثرة ، وقدرته المالية العالية ، ومساعيه الحميدة دائماً . فأجاب : والله، يا أخي لديَ مشكلة ، ما كنت أحسب لها أي حساب ، وراح يقص عليه القصة بأكملها ، أي من طقطق الباب إلى كلمات الوداع القائلة في أمان الله ، ولكنه أضاف : هل من المعقول أنْ ينعكسَ حدثٌ وقع قبل مائة عام ، على الواقع الراهن ؟ .

ـ أوضـِحْ ؟ وكذلك اِستفسرَ الحاج كريم .

ـ قبل مائة عام كان أحد الأفراد المتزمتين في معتقدهم ، يجلس بين أصدقائه في المقهى دائماً ، ويتحدث عن شجون المجتمع المختلفة ، وشؤون أفراده المبهجة أو المؤلمة ، ولكنه على الدوام ، وفي كل الأحوال ، يقرن أقواله بكلمات : ((الله يعزك من طاريها)) أي من ورود الحديث عنها ، وذلك عندما يأتي ذكر لفظ المرأة ، أية اِمرأة ، أو ((حشا الحضور)) من ترداد اِسـمها ، أو ((أجَّـلـَّك الله من ذكرها)) ، أو ((أعزك الله عن طاريها أو حضورها)) ، وكأنه يتلفظ بشيء معيب ينتقص من سمعة الجالسين ، أو يثلم الأخلاق عند الحاضرين جلسـته . كان ذلك هو خال جدة أمها ، وهو جد أبي في الآن نفسه ، عبد الحسن .

في يومٍ ما سألته شقيقته الصغرى التي لمّا تبلغ الخمس عشرة ربيعاً :

ـ في بيت جارنا ، ستتزوج هدِّية ، هل يمكن الذهاب لرؤية الزفة أو الحفلة ، التي ستعود بعد أداء مراسم الزيارة للإمام ، وتحضر الكثير من النسوة لمشاركة أهل العروس فرحتها ، بعد تزيينها في ليلة الحنـَّة الجميلة ، قبل أنْ يأخذها أهل العريس إلى بيت الزوجية الجديد ؟ ! .

ـ لا . . . هكذا كان جواب عبد الحسن ، لم يزد على تلك الكلمة الرافضة والزجرية قط ، كانت حواجبه قد تقطبت تماماً ، وهو يلف كوفيته على رأسـه بشكل عصفورية ، وخرج من البيت ليدلف المجاز المظلم رغم نور الظهيرة ، باِتجاه مقهى الطرف .

ـ جلست أخته في البيت متحسرة ، وهي تسمع الهلاهل والصفقات المتتالية ، التي تنطلق من الدار المجاورة ، وتتخيل عملية نثر الملبَّس والجكليت برميهما إلى الأعلى في الفضاء ، ومن ثم تتساقط على رأس العروس ، وتقترن بأنغام الهلاهل المتدفقة بعضها بالبعض الآخر ، الويهلية تـَتـَابَـع مع اِقتراب موعد قدوم أهل العرّيس ، وكلما كثر الزائرون المبارِكون ، كانت الهلاهل تتصاعد والصفقات المتتالية تزداد حدّة . رغبة الفضول تمزق

قلبها الغض ، لرؤية جارتها التي ستدخل القفص الذهبي ، والإطلاع على اِحتفالات العرس ، والخوف المستطير من أمر أخيها الأكبر ، ونهيه الرافض والبّات أيضاً ، يغلي في أحشائها ، ويضطرب في ذهنها ، وظلت الرغبة والخوف يتفجران في ذاتها ! ، أتذهب لحفلة العرس البسيطة ، في لحظة فرح نادرة في تلك المدينة ، أم لا ؟ وكذلك كانت تحدِّث نفسها . ومضي الوقت الزمني وئيداً ثقيلاً مرهقاً للعقل والعاطفة .

وأخيراً قررت الذهاب لبيت الجيران لحضور حفلة العرس ، وسط الفـَرَق الذي يأخذ بلباب القلب والروح ، فتخطت الباب لتدلف حوش الجيران ، الذي زُينت جدرانه بالأقمشة واِشتعلت أنوار اللوكسات في باحته ، واِندّست بين الحضور كي لا يراها أحد ، فربما كان هناك مَنْ يراقبها . ولم تقضِ هناك سوى دقائق معدودات قصيرات ، ورأتْ الهرجَ العاقل ، مثلما لمحتْ المَرَجَ الرصين في حفلة العرس ، فقط الصفقة والهلاهل ونثر بعض الحلوى ، وفي كل لحظة كان الصوت يهدر عالياً ، مطالباً الجميع بالصلاة على الرسول الكريم ، منذراً كل مَنْ لا يردد ذلك الهتاف بالعمى التام ((عمت عينه ، وعمت عين أبوه)) اللي ما يذكر محمد .

كان مشهد العرس خالٍ من الرقص إِطلاقاً ، لقد غدت العروس جميلة بيضاء جرّاء الذهاب إلى حمام النسـاء ، وقدوم الحفـّافـَة التي تنزع شعرها من جسدها وتزيينها ، ووضْع الديرم على شفتيها ، وتكللها الملابسُ البيضاء الجميلة ، ولكنها البسيطة ، وكل ذلك كان من المحرمات على الفتاة قبل الزواج ، ورجعت إلى البيت مسرعةً ، بعد اِلتقاط عدة حبات من ((أصابع العروس)) وعدد من الجكليت الملونة أغلفته ، من أرض الحوش المفروش بالبسط والسجاد المتنوع الألوان والأحجام ، بعد أنْ طشَّ أهلها وأقاربها الويهلية على رؤوس الحضور وعلى رأس العروس الصابرة المتلهفة بصمت مكتوم . . . عادتْ إلى البيت مسرعة . . . عجلة ، خوفاً من عودة أخيها المفاجيء رغم إدراكها ، أنَّ أخيها لن يعود إلا بعد صلاة العشاء .

عاد سيد البيت في المساء متأخراً ومجموع أفراد العائلة نيام ، كانت تحلم بمكونات ذلك العرس الجميل ، فكل أهل العروس ، ذات الأربعة عشر سنة ، قد خلعوا ثياب الحزن السود ، واِرتدوا الملابس المزركشة ، الملونة ، الزاهية ، الجديدة ، وكانت لذة طعام ((أصابع العروس)) والجكليت ، قد أطاحت بالنكهة المتكررة للرطب المشموس والخستاوي المنصَّـف والتمر الناضج ، الذي تتناوله العائلة في كل يوم ، إنها حلويات مصـنوعة من السـكر والطحين ومن دون النكهات المطيبات ، ولكنها نادرة عند الفقراء من أمثالهم ، وراحت تغط في نومها العميق ، وطعم اللذة بين أسنانها وفي حلقها ، لترى في منامها المضطرب أحلام الخوف المتتالية ، تضغط عليها ، كما يضغط الكابوس المرهِـق المتولد عن أكلة ثقيلة تخلـَّف الغازات الكريهة ، كان جيثوما مفزعاً رابضاً على صدرها ، لا يدعها أنْ تتحرك أو تتلوى ، يكبس بقوة شديدة على عواطفها البضة الغضة الطرية . في اليوم التالي نهض الجميع باكراً ، لأداء فروض الطاعة الإلهية عبر صلاة الفجر .

ذهب ((السي سـيد)) [على حد الاِسم المتسلط لبطل الرواية الثلاثية للكاتب العالمي نجيب محفوظ المعروفة] إلى المرحاض الأرضي ، وكانت كل المرافق الصحية الشرقية ، محفورة في الأرض ، ومبنية بالاِسمنت ، وجلس القرفصاء فيها ، ليقضي حاجة طبيعية ، ومن ثم ذهب إلى مكان الوضوء ، ودلق الماء على وجهه وبلل يديه . تنشـغ بماء الوضوء ونظـَّف أنفه ، تمضمض وبصق المياه الناجمة عن تنظيف الأسـنان ، بسبابة إصبع يده اليمنى ، مسح رأسه مبتدءاً بالقحف الأعلى نزولاً إلى أعلى جبهته ، مثلما مرر راحة يده على

أصـابع رجليه حتى الرسـغ الأعلى من كلا قدميه . كان يردد بصوت عالٍ : أصبحنا وأصبح المُلك لله .

وأثناء عودته إلى مكان أداء الصلاة ، رأي ورقة مسـتطيلة ملونة عبثت فيها الرياح ، ودفعتها إلى إحـدى زوايا البيت ، اِلتقطها وتمعنَّ فيها ، إنها لفافة الجكليت ، إذن ذهبت زهرة إلى حفلة العرس ، وكذلك اِستنتج .

وعلى العكس إلى ما يدعو إليه القرآن الكريم ، وهو الكتاب الأساس عند المسلمين كافة ، الذي يبارك ((الكاظمين الغيظ والعافـِّين عن الناس)) ، اِتقـَّد غضباً ، تدفق الدمُ إلى وجهه ، وطغى موروث الرجولة الفارغة على الوجوب الإلهي ، فترك فرض الصلاة ، وذهب إلى مكانٍ محفور ما بين أسفل الرف المبني من الطابوق الفرشي المربع ، والجص الأبيض اللازج ، التي تستقر عليها اللالة المضيئة في المساء ، الطاردة للعـُتمة البغيضة ، من جهة ، وبين أرض الغرفة المشتركة ، من جهة أخرى ، كان مخزناً صغيراً ذا فتحة مثلثة ، يسميها العامة بالدولان ، وكان يخبيء فيه أشياءَه الهامة ، وعاد منها مسرعاً ، وقد أخرج خنجره الفضي الذي اِعتلى قبضته بعض الصدأ ، وهو من نوع ((دكة محيسن)) . إنها ورقة تدل على ذهاب أخته إلى عرس الجيران ، أي أنها خالفت أوامره ، فاِنتهكت عِرضه ، وذلك دليل كافٍ على اِرتكابها المعصية المنافية للشرف العائلي ، وتلك جريمة وأية جريمة ! .

ودون أية مقدمات أو كلام ، اِسـتل نصل خنجره الرشـيق ، من غمده الملون بالفضة والخرزات الصِدَفِـية الجميلة ، المكتنزة ألوانها الأزرق والأحمر والأصفر ، والمثبتة على لون قشرته الخارجية الفضية ، وبلمحة بصرٍ مروعة ، كانت يده تهوى على جسد أخته طعناً ، فخرج نصلُ خنجره الأبيض ، وقد بلله الدم الأحمر ، وتتالت الطعنات في جسـم زهرة النحيل ، صعوداً وهبوطاً ، وكأنه يكسر حطباً بفأسٍ قديم ، يهوي على القلب وعلى الصدر وعلى اليد التي كانت تحاول توقي تلك الطعنات المتوالية حسابياً ، ثم يهوي على الخصر المضموم ، الضامر ، وعلى الرأس الفارع ، كان توتره يخف مع تدفق الدم القاني الأحمر من جسدها ، ونفور الدم الفوار ، المتدفق إلى الأعلى ، كان جميعُ أفرادَ العائلةِ صامتين هلعين مرتجفين ، متسمرين في إحدى زاويا البيت الشرقي ، هي تتلوى بين يديه ، كأفعى حبيس بين يدين عظيمتين ، صارخة مستنجدة متوسـلة ، وهم ينظرون ساكتون متجمدون دون حِراك ، أو إتيان فعل ما ، حتى على مستوى الكلام ، كان يزعق عالياً :

تخالفين أوامري بعدم الذهاب للعرس ، تتمردين على قراري ، وهي تتحشرج باكيةً متوسـلة ، لم أفعل أي شـيء مخالف للحياء ، ((دخيلك لا تطعـنَـَنـِّي . . . دخيلك لا تقتلني . . . دخيلك لا تموتني)) ، لم ينتهِ من مهمته ((الرجولية النبيلة)) وفق الأعراف الاِجتماعية السائدة آنذاك ، إلا عندما غدت الفتاة جثة هامدة ، وسط جروح عميقة ، فاغرة أفواهها تشكوا مصير الفتاة ، فاتحة عينيها على الآخر ، وهما متوجهتان إلى الأعلى ، وهي ملقاة وسط فناء الدار ، العينان تحملقان ، شاخصتان ، متجمدتان لا حراك فيهما ، وإنْ طراوتهما ما تزالان طازجتين ، وأخيراً بروح سادية تماماً ، برك على صدرها ، واِجتز رأسها من الرقبة ، ذابحاً إياها من الوريد إلى الوريد .

ترك القاتلُ الدارَ بعد أنْ اِصطحب كوفيته التي يرتبها على شكل عصفورية ، عند ذلك الوقت ، بالضبط ، وعلى وجه الدقة ، تمكنت العائلة من الولولة والصراخ بـ((يبو . . . يبو . . . يبو . . .)) الذي نبَّه الجيران : أصـحاب العرس ، فقدموا متدفقين سـريعاً ، ورأوا منظـرَ دماء الضحية تسيل على الأرض ، مازال طرياً ساخناً لمَّـا يتجمد بعدُ ، في ذلك الصباح البارد ، ولم يتحول لونه إلى الأحمر القاتم بدلاً من الأحمر القاني ، فتمتموا في نفوسهم

بكلمات غامضة لم يفقه منها المستمعون أي شيء ، هل كانوا يحتجون ويدينون أم يترحمون ويشفقون ؟ ولكنهم في الآن نفسه ، استمع المنكوبون بفتاتهم ، منهم الإطراء الشديد لفعل الأخ الكبير ، ومن دون السؤال عن سبب القتل الوحشي ، الأخ الكبير الذي له الحق وحده ، فيما يفعل أو لا يعمل ، له القدرة على أنْ يحيي ويميت ، من خلال تلفظهم : إنه أخو خيتة ؟ ! .

كان شاكر يروي تلك الحادثة بحيادٍ مريب ، لم يناقش أبعاد الجريمة ، المرفوضة حتى وفق المنظور الديني السـماوي ، لا القبَلي العشـائري السـمج ، ولم يكترث للألم الذي تركته تلك الجريمة البشعة ، على الأجيال اللاحقة ، وعلى عائلة أم العروس المفترَضة ، والحاج كريم يستمع له بكل جوارحه المتألمة ، إلى رواية القصة ، باِشمئزاز تام وقرف غير عادي ، وتساءل العريس شاكر في نهاية مطاف الرواية : ألم أقل أنها حدثت قبل قرابة المائة عام ، فما الذي اِرتكبته أنا من إثمٍ أو خطيئة ؟ لكي أتحمل مسؤولية ذلك الفعل ! ، للدرجة التي يرفض أهلها طلبي بالزواج من اِبنتهم ؟ ! .

كان الحاج كريم متعاطفاً مع صديقه : ((البسـتايجي والرادود الحسـيني)) ، ويرى أنَّ الأمور تلك قد ذهبت مع توالي الســنوات الطويلة ، ومن المفيد أنْ يُسدَلَ السِـتارُ على فصولها اللاحقة والمؤلمة ، والمؤثرة على سلوك البعض أيضاً ، لذا اِقترح حلاً لهذه المعضلة التي خلـَّفها السابقون إلى اللاحقين ، الذين ما زالوا يمضغون آلامها للآن ، فليس من الصحيح أنْ يتحكم الأموات بالأحياء . لقد وجد الحاج كريم في بعض شيوخ المحلة القدماء ، من ذوي العقل الراجح والنزيه . . . من أصحاب السجايا الطيبة ، ومن الذين يتيح لهم عمرهم الكبير ، وســيرتهم الكـَيــِسَـة ، التدخل في هكذا أمور لحلِّ ملابسـاتها ، ويحوز ، في الآن ذاته ، على رِضا عائلة العطار ، وينال اِحترامهم ، بشخص رئيسها الرجل الذي لكلمته القول الفصل ، ومن دون اِستشارة أحد ، رأى في واحدٍ من أولئك الشيوخ الوسيط َ المناسب ، لمعالجة هذه المشكلة والتغلب على مأزقها الحالي ، من خلال إقناع السيد مجيد العطار بالموافقة على عريس اِبنته القادم ، فللرجال الأمر والنهي على النساء ، ظالمين أو مظلومين ، في تلك الفترة المجتمعية ، ووعيها القيمي العشائري السائد والمتخلف .

وجوهٌ اِجتماعية ، ولكنهم وسطاء

الفرد العراقي ، خصوصاً من الرجال ، مشهورٌ عنه باِزدواجيته المفرطة ، جعلت منه نمطان من الشخصية المتجسدة في المجتمع ، دائم التغير في جميع حركاته وسكناته ، يخضع لنظام التضحية والبسالة والشجاعة ، كما تحفز القيم المجتمعية العراقية عليه ، ويخضع ، في الآن نفسه ، لأوامر لا يؤمن في حيثياتها أبداً ، بلهَ يتباكي منها ويحتج عليها

عند ذوي الأضعف منه شأناً ، كالضريبة والمصادرة واِستيفاء الحقوق منه . ومَن لا يظلم الناس يُظلـَم ، هكذا قال المتنبي في تكثيف لأحوال الفرد ، والفرد العراقي على وجه الخصوص ، الذي يعيش على هامش البداوة وفي تماس مـع القيم المدنية ، لا الغوص فيها والاِقتناع بمفرداتها الحضارية ، هكذا كان حال الأغلبية المطلقة للمجتمع العراقي ، للدرجة التي جعلت من أحد الكتـّاب العراقيين فيلسوفاً ذا نظرية سوسيلوجية منذ بدايات العقد الخمسيني من القرن الماضي ، تفسِّـر تصرفات الفرد العراقي على ضوئها ، ويصدر عشـرات الكتب ((العلمية)) عن هذه الظاهرة ، التي ترتبط ـ كما يري ـ بالموروث القبلي العربي . وتفرض عليه أنْ يحاور مثقفين ومؤلفين حول تصوراتهم ، نقضاً لتفسـيراتهم حول الأحداث والتطورات ، ونسفاً لمقولاتهم الفكرية ، التي يعتقد أنها مُسْـتـَجْـلـَبَة ٌ من الغرب الرأسمالي أو الشرق الشيوعي بالمعنى الفلسفي .

أو تعاني من الحـَوَل المستديم في النظرة الدينية ، كونها راضية عن الأنا وغاضبة من الرأي الأخـر ، المخالف لنا بالطبع .

ولم يكن الحاج كريم بعيداً عن هذا الواقع المزري . كان تاجراً شاطراً ونبيهاً ، قناصاً للفرص التي قد تبرز فجأةً ، يحب الربح أينما كان وفي أي وقت ما شريطة أنْ تتواءم مع تعاليم الدين الإسلامي ، ليس له ولاء لمهنة ما ، فتراه يوماً بياعاً للقماش ، متاجراً به ، متعاملاً في سوق التهريب ، وتاجر حقيبة ((جنطة)) في الآن نفسه ، يتنقل ما بين الكويت ذات السوق المفتوحة ، والعراق التي تشح فيه البضائع الخاصة ، في زمن التأميم والتشديد على المبادرات الخاصة . السوق الكويتية المعفية من أي ضريبة على التجارة والدخل الفردي . جالباً منها قطع الأقمشة الإنكليزية التي يعشقها العراقيون ، الأغنياء وميسورو الحال من أفراد الطبقة الوسطى ، لخياطة بدلاتهم الأوروبية ، أو تفصيل الطواقم التقليدية ، إضافة إلى أنواع من الأحذية المرتفعة الثمن ، والقمصان ذات الجودة العالية ، الغالية السعر ، وكل تلك البضائع سريعة الرواج ، وتجد العملاء الذين يشترونها بزمن لافت للنظر ، قصير جداً . كان ذلك العمل التجاري يتطلب الرشوة والاِحتكار ، رشوة رجال الكمارك ، واِحتكار البضاعة ، وطالما كان الحاكمون الرسميون للدولة لا يطيعون ولي الأمر الذي هو المرجع الأعلى ، فإنَّ تلك الصفتين الذميمتين : الملعونتين دينياً ، مباحتان عنده ، وبيعها للناس اللـبِّـييسة الكشاخة ، كما يسميهم أفراد المجتمع العراقي من متوسطي الحال والدخل .

وكلا الصفتين مرذولتان مذمومتان عند أصحاب الرؤية الدينية الإسلامية ، وسبق للرسول أنْ لعن المتعاطين بالظاهرة الأولى ، الراشـي والمرتشـي لعنهما كلاهما على السواء ، وهما في نار جهنم خالدون ، من وجهة نظره ، فيما القاعدة الفقهية تقول أنَّ الاِحتكار حرام بالمطلق . ملعون وحرام ، ونقطة على رأس السطر ، من غير تبريرات الفقهاء اللاحقين ، الذين نراهم بكثرة ينشـطون داخل العالم الإسـلامي ، في الوقت الراهن . وإنْ كانت هاتان الخصلتان ـ ضمن المنطق التجاري وأعرافه ـ محبوبتين . أو متاجراً بالأدوات الكهربائية وتسجيل الشرائط الغنائية لمختلف المطربين ، وكذلك لمختلف قـرَّاء المنابر الحسينية ، الحزينة والشجية في تنغيمها ، الأغاني المتنوعة ، بغض النظر عن نوعيتها الراقية أو الهابطة ، والموسيقى الصوفية التي تبعث على الصفاء الروحي ، أو العبثية الغانية المثيرة للنوازع الحيوانية عند البشر ، والموسيقى والأغاني تلك تحدد الرؤية ُ الإسـلامية الموقفَ الشـرعي منهما ، إيجاباً وهو القليل والنادر ، أو سلباً وهو الأعم الأغلب . أو فاتحاً لمعمل الحلويات المتنوعة مستخدماً الدهون المختلقة على أنها الدهون الحيوانية الأصيلة ، ذات الجودة العالية والأسعار المرتفعة ، بعد أنْ اِنتشرت العادات الاِستهلاكية في المجتمع العراقي . والحروب تخلق الطبقة الأرستقراطية القليلة الأعداد ، أي النخبة المميزة والمتمايزة في المجتمع ، والطبقة الشعبية الفقيرة ، الكثيرة العدد السمات والواسعة القسمات ، الحروب والحصار الأجنبي ، المدمرة للطبقة الوسطى والمهمشة لعاداتها في الأكل والشرب واللبس ، وهذا التطلع للربح الوفير ، لم تدفعه للعمل مقاولاً نظراً لاِرتباط هذه المهنة بالحكومة وأعمالها الروتينية . كان يردد دائما الدعاء التالي : اللهم لا تسلط علينا حاكماً ولا حكيم .

ولكن الحاج كريم ، مع ذلك ، كان يؤدي الفروض الخمسة بثلاثة أوقاتها ، فهو ككل أتباع المذهب الإمامي يدمج الظهيرة بالعصر ، ويؤدي فرض المغرب مع فرض العشاء ، ولا فرق عنده إنْ مارس الصلاة مبكراً عند الظهيرة ، أو متأخراً عند العصر ، أي قبيل الساعة الثانية عشرة مساءً وفق التوقيت القمري ، لا الشمسي ، أو نفذ فروض الطاعة والواجب الإلهي ، في أعقاب غروب الشمس أو بعد منتصف الليل بمدة زمنية طويلة ، قد تمتد إلى ما قبل نداء الأذان اِستعداداً لصلاة الفجر ، كانت تلك المفارقة هي أحد أوجه الاِختلاف ما بين المدرسة الاِمامية الجعفرية نسبة لجعفر الصادق ، والمدرسة الحنفية من أتباع مدرسة أبي حنيفة النعمان . الجناحان الأساسيان في الجسد الديني الإسلامي داخل العراق . تلك المدرستان الموصوفتان بالجدل الشديد الأوار ، والمتقد العواطف ، حتى عند مَـنْ لا يلتزمون بروادع الدين ونواهيه .

والسؤال / النكتة الساخرة الباكية حول حكم دم البعوضة أثناء الحج ، أيبطل هذه السُـنـَّة الإلهية أم لا يلغيها ، هو الشاهد على ذلك الجدل العقيم ، كان من الطبيعي أنْ يكون الجواب من وزن ذلك السؤال : أنتم ـ العراقيون ـ تقتلون اِبن بنت نبيكم محمد : الحسين بن علي بن أبي طالب ، ولا تسألون عن العقاب الذي سينتظركم ، أو تتورعون عن اِرتكاب مثل هذه الجريمة ، ولكنكم تستفسرون عن حكم الشريعة بدم البعوضة ، يا لها من مفارقة تثير العجب .

كان دائب الحركة لخدمة التقاليد الحسينية من مجالس عزاء سنوية ، تـُقام في بيته ، حيث يجتمع المعارف والأصدقاء الخلـَّص ، للاِستماع إلى خطيب ينهي مجلسه الوعظي برواية المأساة الحسينية ، يبدأ بإيراد النصائح والقيم المثالية ، ويمر بأقصوصة تكثف قضية مصرع أحد أفراد أسرته الذين سقطوا قتلى فوق أرض كربلاء ، لينتهي عند ملحمة الحسين المتوارثة أباً عن الجد ، مع إضافات المبالغة طبعاً عن البطولة ومأساتها الشكسبيرية . واللطم القاسي على الصدر حتى اِحمرار منطقة الثدي الصدري اليسرى ، التي كأنما خـُلِـقـت من أجل أداء هذه المهمة فقط ، في عزاء المحلة السنوي ، والتبرع لرادود منبر المحلة الحسيني : حمزة الزغير ، الذي يحتفظ وإياه بعلاقات صداقة وطيدة . وفي منطقة عمله حيث يشارك الآخرين في تهيئة لوازم الأكل و((القراية)) أي مجلس العزاء قبيل تناول الأكل .

ولكن الحاج كريم كان يستأجر بيتاً بالقرب من دكان عمله ، لممارسة عادة المتعة التي يشرعُها مذهبه الديني ، لمن تبيع جسدها لطالبي قضاء وطر الرغبة الجنسية ، كان يأتيهن من دُبر كما يجيز له اِلتزامه المذهبي أو قـُبـل ، أو بطريقة الإستفخاذ أو ما يُسمى هناك بالحكاكي ، إذا كانت غير متزوجة ، أو عن الطريق الطبيعي للمتعة ، لقاء أجورهن ، بغض النظر عما سيصار إليهن وضعهن من حيث الحمل ، كما تأمر به الشريعة التي يلتزم بنواظمها التعليمية ، ولكنه كان حريصاً على قراءة العرف الخاص بالزواج المؤقت ، أي ممارسة المتعة العابرة ، وهو ما يصح معه عقد النكاح باللفظ من جانب واحد والإستجابة

العملية بدون لفظ من الطرف الآخر بتلك النية والقصد أي مجرد تساؤله أتتزوجيني نفسك فتسلمه يدها وسارت معه بتلك النية أو تفوهت بزوجتك نفسي فأخذ بيدها بذلك القصد .

كان بيته المخصص للترفيه والتسرية ذاك ، مباحاً للخاصة من الأصدقاء المفضلين ، ممن لديهم نسخ مكررة من المفاتيح الخاصة بالمنزول ، الذين كانوا يمارسون المتعة الجنسية بحق الفتيات . وعادة المـُتعة كانت منتشرة في تلك المدينة بحكم الزائرات الإيرانيات اللائي كن يتدفقن على كربلاء أو ممن يقمن فيها بشكلٍ شرعي أو عبر “القجغ” ، لقد كان يشاركهم متعتهم في بعض الأحيان إذا وجهوا الدعوة له ، وراقت له ((البضاعة)) . أتذكر عن أيام تلك الفترة أنَّ أخانا أبا سلام جاء في يوم ٍما ضاحكاً متسائلاً عن معنى كلمة “سَـرْدَ” فقيل له لماذا ؟ فأجاب إني قضيتُ وطري مع إحداهن وهي تكرر الكلمة دون أفقه معناها ، فقيل له أنَّ معناها باردة ، أي أنَّ الجوَّ باردٌ ، فعقب على تلك الحالة قائلاً بروح من الدعابة : لا يا “جَنْدَ” : الناقصة ، وأنا أقول ما لها الفرخة “السفيدة” : البيضاء وما سبب تكرارها لتلك اللفظة ؟ وأردف مردداً البيت الشعري للشاعر البدوي الغنائي عكار : “لفيتهَ بالحضن كالت لي بردانة ، ومنين جاج البرد يا عين يا بنية” . وعلى العموم فإنَّ الأمراض الجنسية كانت الرفيقة الدائمة “لآفات” المتعة الحرام ، وكانت حالات مرض السيلان هي الحالات الأشهر التي كان علاجها عبر زرق الأبرة الإنتبايتك الطبية لدواء يحمل جرعة الألف ، وهو العلاج الأكثر ذيوعاً في تلك المدينة .

والحاج كريم المهموم بقصة صديقه شاكر ، كان يداور مأزقها في عقله ، ويبحث عن كيفية السبيل للوصول إلى حلول تتسق مع رغبة صديقه بالأساس ، كان يجلس وراء منضدته التي يدير منها شؤون عمله التجاري ، وهو سابح التفكير في جواب القصة وقد أدرك حلها بشكل غامض أو مبهم ، وضرورة التغلب على المأزق الذي تولد عنها ، كان يعتبر ذلك جزءاً من واجبه الخيري العام ، ومن الضروري التدخل الشخصي لإنهاء الأزمة . أثناء إطراقه المضني لاح له في الشارع أحد أقاربه ، ممن كانوا يقطنون بالقرب من دكان السيد مجيد العطار ، ويحتفظ بعلاقة طيبة معه ومع أبنائه أيضاً ، فلاح له الحل وقدحت في ذهنه الفكرة المناسبة .

ـ قفز إلى الباب منادياً على قريبه : عمار . . . عمار .

ـ خير إنْ شاء الله ، ماذا تطلب يا أبا حاتم ، لدي عمل ضروري وسآتي إلى جهتكم بعد ساعة ونيف الساعة ، عملي بالقرب من محلكم ، في محل أبو سعد النداف ، وعند الاِنتهاء منه ، سأعرج عليكم ، بالخدمة حجي ، أنت تأمر أمر ، أجابه وهو يواصل خطواته باِتجاه الهدف الذي كان يقصده .

رجع الحاج كريم إلى الكرسي الذي يجلس عليه ، ولبى رغبات بعض زبائنه ، بعد أنْ قدَّم شروحاً لميزات البضاعة التي بحوزته ، كان البيع بالنقد العاجل وليس التقسيط الآجل ، هو النمط السائد في التعامل التجاري ، فهامش الربح قليل جداً ، ببضاعة الشركة العامة للأدوات الكهربائية والأثاث المنزلي ، والمبالغ المقبوضة ينبغي تسديدها لمحاسب الشركة على الفور ، لحظة قبض البضاعة التي تأتي في الأسبوع لمرة واحدة ، ولـَّت أيام زمان الرفاء ، الذي كان التاجر الكبير يعطي بالجملة ويقبض بالمفرق . . . أي بالأقساط المريحة للتاجر الصغير ، بعد بيع البضاعة ، جاء زمن الاِشتراكية والفقر ، وذهب وقت الخير الرأسمالي غير الاِحتكاري ، وغنى التجار الكبار ، وفي سريرته لعن النظام التسلطي الذي يتدخل في شؤون الناس ، كان لا يحب التدخل في السياسية ، ويرى أنَّ العمل الحزبي هو سمة من سمات تضييع الوقت ، والزمن يتطلب من الشاطر ، أنْ يضع المرء في سلته عنب ، أي أنْ يزيد ثروته الشخصية ، وينمي أملاكه العقارية .

بعد حوالي الساعتين من الوقت ، وأذان صلاة المغرب يصدح عالياً في مئذنتي الإمام العباس أخ الإمام الحسـين غير الشـقيق ، اللتين نصفهما الأعلى مذهبتان والنصف الأسفل ، المرتبط بأرض الصحن الشريف والمقدس لدى العامة ، مبنيتان بالطابوق الكربلائي المميز والمشوي بأفران خاصة ، وليس في الكوَر ، يوشيهما اللونان الأزرق والأبيض اللذان يمثلان الزخرفة الإسـلامية بأبهى مظاهرها ، العباس بن البدوية : قمر بني هاشم ، المعروف بعدم سماحته جرّاء حرارة رأسه الحادة ، كانت المنارتان عاليتين جداً ، بحيث يراهما القادم للمدينة من مسافة تبعد العشرة كيلومترات ، قد زينتهما مكبرات الصوت الكهربائية في الجوانب الأربعة من فتحاتهما العالية ، الموصولة بالأرض بدرجات حلزونية تقارب المائتين وخمسين درجة ، دلف عمار باب المحل وأطلق سلاماً جهورياً على الحاج وعلى جميع مَـنْ كان في الدكان . عليكم السلام ، كان الجواب جماعياً رغم وجوبه فردياً كفائياً ، ولكن الحاج كريم أضاف بلهجة شعبية : اِتفضل . . . اِستريح اِبن عمي ، ريثما أنتهي من متطلبات الزبائن ، عارضاً عليه شرب الشاي أو تقديم مشروب الأورنج .

ـ لا . . . شكراً ، متفضل دائماً حجي ، قبل هنيهة شربت ، لقد اِكتفيت ، وإنني باِنتظار تفرغك لي ، لا داعي للاِستعجال ، أني باقٍ بخدمتك ، تأمرني أمر يا حجي .

ـ ما يأمر عليك ظالم ، كان جواب الحاج كريم .

سحب عمار كرسياً كان قصياً وجلس عليه بالقرب من باب المحل ، في داخل الدكان على وجه التحديد ، وليس في خارجه كما كان يحدث في أيام الصيف الحارة ، وراح يتفحص البضائع المنثورة في المحل الواسع ، البضائع التي شاهدها عشرات المرات ، بعد أكثر من ساعة فرغ المحل من الزبائن ، لقد شارفت الساعة على العاشرة مساءً بالتوقيت الشمسي ، وبدأ الحديث بين الاِثنين .

ـ أهلاً اِبن عمي ، كيف هي الأحوال . . .

ـ جيدة والحمد لله . . . الصحة جيدة . . . بُمْ . والرزق ماشي ، الله قد يسره ، نشكر الرب الكريم على كل حال .

ـ وكيف هم الأهل ، أحوالهم ، صحتهم ، كيف هم أخوتك ، لم أرَهم منذ فترة بعيدة ، أرجو أنْ يكونوا على خير ما يرام .

ـ والله يا حجي ، الجميع بصحة جيدة ، الله الموفق ، كلٌ منهم مشغول بهمِّهِ ، وأنت تعرف منذ أنْ اِنتقلنا من منطقتنا ، وسكنا في الحي الحسيني الجديد ، بات النزول إلى المدينة صعباً ، والشباب لا يأتون للولاية ، أي لمركز المدينة ، إلا لإنجاز عمل ما أو زيارة العتبات المقدسة ، الحسين أو أخيه العباس ، عليهما السلام ، بسبب ذلك ، لا تراهم إلا لماماً على ما أظن ، وفي أية حال سأبلغ سؤالك عنهم لهم . يجب أنْ يتواصلوا مع أقاربهم .

ـ لم تسألني عن سبب مناداتي لكم قبل ساعات عدة ؟ .

ـ ولماذا السؤال ؟ أنا جاهز إلى أي طلب تبتغيه ، فأفضالك السابقة تجعلنا في رسم الخدمة في كل وقت وأي وقت . كان عمار مثقفاً ، تحضره البديهة في كل حال ، يستحضر هذا البيت من الشعر أو تلك الرواية التاريخية ، وأخذ يدردش بأحاديث مختلفة حتى يتيح للحاج كريم الفرصة التي سيدخل منها لعرض ما يبتغيه .

ـ السيد مجيد أنت تعرفه جيداً . وسكت الحاج كريم ؟

ـ أي مجيد تقصد ، فهم كـُثـرُ ، وكل الشباب والرجال في المدينة يحملون أسماء مهدي وهادي ورشيد ومجيد وعباس وحسين وعلي ورضا وحسن ومحمد ، وأنت تعرف أنَّ لي علاقات واسعة بأبناء المدينة ، ما هو المطلوب ؟ ! .

ـ أقصد السيد مجيد بن السيد سعيد العطار الذي كان دكانه بالقرب منكم ، جيرانكم ، الملاصق لمحلكم وبيتكم ، ألا تحتفظ بعلاقات مميزة معه ؟ .

ـ بلى . . . بلى ، لي علاقات طيبة معه ، وكذلك طيبة وأكثر قوة مع اِبنه الذي يعتمد عليه في المحل ، وهو صاحب قرار في شؤون المحل المختلفة ، وأنا أمون عليه جداً ، فما هو المطلوب ، وإني أقدِر على تنفيذ أي شيء تطلبه .

ـ والله أني لا أطلب شيئاً محدداً يتعلق بمحله أو الحصول على صنفٍ معين من بضاعته . وكانت بضاعة العطارة عنده متنوعة جداً ، من أنواع التبغ الخشن والناعم والمتوسط ، والتتن الهندي بأوراقه اليابسة والكبيرة الخاص بـ((النراكيل)) ، إلى السكر الخشن واللندني الناعم والكَـلاّت المخروطية المغلـَّفة بالورق الأزرق الغامق ومكعبات السكر ((القند)) ، ومروراً بأنواع الشاي المتعدد الدرجات والأحجام ، وسيكاير المزبن بأنواعه الغليظة والرفيعة والعُلـَّب التي كانت تسمى باكيتات ، وغير ذلك من عشرات البضائع العطارية ، بما فيه بضائع الأدوية اليونانية .

إني أقدر على جلب أي بضاعة والحصول على أية بضاعة ، كما تعلم . صحيح وكذلك أجاب عمار ، وأكمل : والنعِم حجي ، أنت تقدر على جلب كل الأشياء . لكن ما هو مطلوب على وجه التحديد يتجاوز تلك الأشياء ، الوساطة المطلوبة تخص أحد الشؤون البيتية الضيقة ، يتعلق الأمر ببنته الكبيرة ، نريدها خطيبة لأبي محمود : شاكر الرادود والقضية متعسرة ، ونريد حلاً ناجزاً لها ، وراح يروي الموضوع من ألفه إلى يائه ، ومع كل تقدم في الرواية كان اِصفرار وجه عمار يعلو سيمائه ، ويمتقع لون محياه . كان عمار ذو الثلاثة عقود تقريباً يدرك أنَّ المسألة المعروضة عليه ، والمطلوب منه التوسط فيها ، عويصة وشائكة وتتعلق برب العائلة ، السيد مجيد ، ولن يستطيع أحدٌ غيره من حلحلة معضلتها أو الوصول إلى حلها المرتجى ، والفشل في هذا النطاق غير ممكن ، وهو لا يستطيع مفاتحة أب الفتاة حول هذا الموضوع ، نظراً لفارق السن بالرغم من رجاحة عقله ونداوة علاقاته الاِجتماعية مع الآخرين ، وراح ، بعمق شديد ، يمعن التفكير حول المسألة التي جعلته مضطرباً . أخيراً اِهتدى إلى حلٍ مناسب ، وهو الحل الاِفتراضي الذي توصل له سابقاً الحاج كريم ، ولكنه كان لا يعرف على وجه التحديد مَـنْ هو المنوط أو الكفيل بحل هذه المعضلة . فتنحنح وبدأ الحديث :

ـ أرى أنَّ المسألة تتعلق بعِـرض السيد مجيد ، وقضية الفشل في المحاولة ستكون محرجة ً للجميع ، قد تنهي أي وسـاطة مختارة ، ثانية ً وأخرى ، إنْ لم تكن مناسبة تماماً ، وشخصياً لا أستطيع أنْ أتحمل أي فشل على هذا الصعيد ، الذي سوف يتسبب بإحراج لا حصر لتأثيره على المجموع المعني بالأزمة ، سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لشاكر أو السيد مجيد ، ولكني أرى أنْ تستعين بالحاج أبو حيدر في التغلب على هذه المشكلة . وأبو حيدر الذي ليس له علاقة مباشرة في المحلة ، ولكنه ما يزال يحظى باِحترام الجميع ، ولا يُـرَدُ له أي طلب مهما بدا صعباً ! .

كان أبو حيدر : الحاج أحمد العواد قد جرى تعيينه مختاراً لمحلة أخرى ، العباسية الغربية ، بعيدة عن منطقة عمل السيد مجيد ، الذي يقع دكانه في باب بغداد ، موصوف برزانة التصرف وسوية السلوك والوجاهة الاِجتماعية المميزة في المدينة كلها ، وليس في المحلتين المذكورتين فقط ، ويمتلك الشجاعة الأدبية المنقطعة النظير ، والكرم الفائق عن الحد ، كانت شمائله الطيبة وسجاياه الفاضلة قد جعلته متفوقاً حتى على نفسه ، كان متحدثاً لبقاً يستحوذ على جميع المجالس المختارة والبارزة ، مهما كان الحضور فيها من

سراة القوم أو البارزين منهم ، فقد تربى في دواوين العائلة وتعلم من حكمائها ، مختلف مستويات الحديث وأنواع الكلام .

وكذلك درس في المدارس الحديثة وتفوق فيها ، كان يمكنه المواصلة في دروبها ، ويختار نوع التحصيل الذي يرغب فيه ، نظراً لمعدلاته الدراسية العالية ، ولكن التقاليد العائلية فرضت عليه نوع الممارسة ، في السنوات الأخيرة تمنى لو كان تخرج محامٍ ، ولكنْ ((إذا ما فات الفوت ما ينفع الصوت)) ، كما يقول المثل المتداول ، لقد حفظ عشرات الآيات القرآنية التي تحضُّ على السماح والتساهل ، وأدرك مختلف الحلول التي تستطيع تذليل الخلافات بين الآخرين ، كان يمتلك بديهة سريعة ولماحة باِمتياز ، واِستظهر الضروب المتعددة من أبيات الأشعار الدالة على الحكم ، التي أفرزتها قصائد المراحل الجاهلية والأموية والعباسية ، وربما كانت الأشعار الحديثة من بينها . كان رجلاً عشائرياً ، ولكنه عصريٌ تماماً .

أبو حيدر سليل أسرة لعبت الدور الأساس في تاريخ المدينة منذ العهد العثماني وحتى أوائل العام 1960 . لقد كانت المدينة تتقاسمها أسرتان إحداهما ليست ذا أرومة عربية صافية ، والعروبة ميزة خاصة وكبيرة لعائلته ، وكان اِثنان من أفراد عائلته على رأس خمسة أفراد من شخصيات المدينة الذين أبعدتهم سلطات الاِنتداب البريطاني إلى الهند في عام 1918 ، كان أبوه واحداً منهم ، وهم يملكون رابطة المصاهرة مع أسرة السادة آل طعمة الذين شكل سؤال عميدهم من آل الوهاب حجر شرارة الوعي السياسي برفض السياسة البريطانية وأدى ذلك السؤال /الوعي إلى ثورة العشرين قبل أربعة أخماس القرن العشرين ، الثورة الوطنية والجبارة ضد البريطانيين التي يعتز بمفرداتها التاريخية كل العراقيين الوطنيين المخلصين .

كان طويلاً يقارب المترين ، له جسد ممتليء ، أبيض اللون مائل إلى اللون الحنطي ، كان يرتدي طقماً تقليديا على الدوام ، نظيفاً ومكوياً بشكل دائم ، عطر دهن الورد الأخاذة ترافق روائح جسده ، وتلقي النسمات الحلوة على الذين يتجاوزونه أو يتقاطعون معه ، ألبسته القطنية الداخلية التي تظهرها الرياح العالية ، بيضاء ومن الأنواع المميزة ، ناصعة البياض ، حذاءه الإنكليزي اللماع يبرز تقاسيم جواريبه المنسجمة الألوان مع مظهر الطقم الذي يلبسه ، العقال الأسود والكوفية البيضاء والسوداء ، اللوزية الطراز ، من لوازم مظهره الجميل ، هو شجاع ويمتلك قراره الشخصي ، كان يحمل على الدوام مسدس من نوع الويبلي المشهور ، المعبأ مخزنه بثلاثة عشر طلقة ، والرابعة عشرة ملقـَّمة في بيت نار سلاحه دائماً ، وجاهزة للاِستعمال على الفور ، لم يستعمل مسدسه الأسود للحظة هذه ، لأنَّ أحداً ما لم يتجرأ على جرح كرامته الشخصية أبداً .

ـ أبو حيدر ، هكذا أضاف عمار ، محبٌ لآل البيت عليهم السلام ، وصديقك شاكر ، هو خادم المنبر الحسني يستطيع مكالمته مباشرة ، أو يرسل عنه الشخص المناسب ، للحديث معه حول هذا الشأن ، والطلب منه للتدخل في فض هذه العْـرْوَجة ، التي أراها بسيطة إذا عُرف المدخل إليها ، المهم أنْ لا يكون الوسيط شيش لا ينكسر ، ولا لحم مفروم قد ينفرط ويسقط في آتون النار الفحمية ، وفي ظني أنَّ الأمر ميسور ، وسهل إذا قبل الحاج أبو حيدر التوسط له عند السيد مجيد .

ـ وجد الحاج كريم في رأي قريبه عمار الرأي الراجح والسديد ، ولكنه راح يقلـِّب الاِحتمالات ، فيمن يختاره بشكل صحيح ودقيق ، بغية عرض الموضوع على أبي حيدر ، وذهب إلى صديقة شاكر ، وروى الموضوع كله ، ورأي قريبه في كيفية تذليل العقبة التي تنتصب في طريق خطبته ، وأطرق للتفكير العميق ، باحثاً في ذهنه عن الشخص المناسب للقيام بهذا

الدور ، وأداء تلك المهمة ، ولكن شاكر فاجأه بقوله أن الأمر جدُ بسيط ، إذا كانت المسـألة تتعلق بأبي حيدر ، أنه حسيني باِمتياز ، ونِعْـمَ منبته ، ويتسم بالكرم والأريحية المطلقة ، سأتلفن له على البيت ، وأزوره هناك ، مستخدماً صفة الرادود : خادم المنبر الحسيني ، وأشرح له الوضع برمته ، مستواي الاِجتماعي ، وقدرتي المالية ، ونوعية عملي ، وذلك السبب ((التافه)) الذي يعيق الخطبة ، ويمنع الزواج .

في أية حال ، أنَّا ليس لي ناقة ولا جمل في شـأن تصرف جد أبي ، والقضية كلها منتهية ، كما أعتقد ، بعد قرن من الزمان على نهايتها ، حتى المحاكم القضائية تمنح البراءة عندما تحين نهايات العـد التنازلي للتقادم الزمني ، في أعقاب السنوات الخمسة عشر التي تمضي على تواري المتهم .

في اليوم التالي اِتصل هاتفياً ببيت أبو حيدر ، معرفاً باِسـمه راجياً تحديد موعد له نظراً لحدوث مشكلة عنده لا يستطيع أحدٌ حلها غيره . كلنا في خدمة المنبر الحسيني ، تِـدْلـَلْ ، في أي وقت تشاء المجيء ، أهلاً وسهلاً ، البيتُ بيتك ، هكذا كان رد أبو حيدر على الرادود الحسيني : شاكر . كان صوت أبو حيدر الواضح الواثق الصريح ، عبر السلك الهاتفي ، مبعث التفاؤل الشـديد عند شاكر ، وإنْ كان القلق ما يزال يأخذ بخناقه ويساور قلبه ، خوفاً من عناد عائلة السيد مجيد ، في الأسبوع التالي ، لبس شاكر أبهى ما عنده من بدلة أوربية واِحتذى القندرة الجديدة ، وملأ وجهه عطراً ، بعد أنْ شـذب لحيته ، ومشط رأسه ، وقصد دار أبو حيدر في أحد البيوت الحديثة من محلة العباسية الغربية ، رنّ جرس الهاتف بذوق متناهٍ ، بعد هنيهة وجيزة ، فتح حيدر : اِبنه الوحيد الذي لم يبلغ الثالثة عشر من عمره ، بعد ثلاثة عشر بنتاً ، بابَ الدار ، وسأل عمن رنّ جرس الباب ، أجابه بسؤال : هل الوالد موجود ، قل له شاكر الرادود هو الطارق ، ذهب حيدر إلى أبيه متمهلاً كأنه رجلٌ في الثلاثين ، مهاباً رزيناً تبدو عليه سمات الزعامة الموروثة ، وليس المكتسبة فقط ، وأخبر والده عن اِسم القادم ، دعه يدخل في البيت ، ولينتظرني ، أرجو تقديم فنجان من القهوة له ، ريثما أرتدي ملابسي اللائقة بدلاً من الدشداشة البيتية ، وكانت جميع أبواب البيت تطلق صرخات إغلاقها للاِحتراس والحذر .

قدم حيدر فنجان القهوة التي فاحت روائح حبوب الهيل فيها ، التي دلقها من الدلة العنتيكة النحاسية ، ذات التجويف الذي يحافظ على حرارة المشروب الكستنائي الطيب ، من خلال اِتقاد الفحم الكراجي الكبير الحجم ، كانت الدلة مطعَّمة بخيوط الفضة وموشاة بنسيج الذهب ، وضع شاكر فنجان القهوة على المنضدة التي أمامه ، ولم يرتشفها ، وجال ببصره على غرفة الاِستقبال الواسعة النظيفة ، ذات الحيطان التي نورها مالج البنًاء المحترف ، الحيطان الرائعة البياض والسقف الأزرق الفاتح جداً ، إنها ألوان تدل على الذوق الجميل ، كان في أرض الغرفة تستقر سجادة من نوعية الكاشان الإيرانية المشهورة ، ذات الصنع اليدوي ، الغالية الثمينة ، تغطي مساحة أرض الغرفة تماماً ، وكأنها أعِدَّت لهذا الهدف بالذات ، كانت أنوار الغرفة الكهربائية تفيض بضيائها الوفير على الجو كله ، كانت صورتان لبعض شيوخ العائلة مثبتتان على الحائط وفي صدر المجلس ، الشيخان المهيبان يقبضان على بندقيتين قديمتين ، طويلتين ، ترتكزان على جتافيتين متصالبتين على شكل علامة × ، ملئتا بالرصاص الكبير والقاتل ، كان الرصاص منتظم في حقول جلدية مخاطة جيداً ، تحافظ عليهما من الاِنتثار أو السقوط ، ويسْـهُـل اِستخراجهما إذا تطلبت الحاجة إليها .

عندما قدم أبو حيدر ، متهللاً . . . متبسماً ، مرحباً بضيفه للدرجة التي أخجلت شاكر معها ، وجعلت كلماته تخرج متلعثمة وتتعثر بمخارجها اللغوية وينتظمها ما يعرف بعادة سبق

اللسان الكلام . وبإشارة خفية منه ، طلب من اِبنه مغادرة الغرفة . طالباً من ضيفه شـرب فنجان قهوته . بابا حيدر فليهيأ لنا العشاء .

ـ لا والله عمي قد تعشيت في البيت مع العائلة ، كما هي عادتي ، أجاب شاكر .

ـ أي عشاء ! دعنا نتمالح ، العشاء الذي تعمله العائلة بسيط جداً ، ومتطلباته متوفرة في البيت ، لا تخجل ، واِعتبر طلبك مجاب ، كلنا خدام الإمام الحسين عليه السلام . وأصر شاكر على موقفه بعد أنْ اِسترد عامل المبادرة وتواري الخجل ، وهو الخطيب والرادود الذي طالما واجه الجمهور العريض والواسع .

بابا لعد أجلب الشاي لنا ، خاطب أبو حيدر ولده العزيز على قلبه ، وأضاف ، دعهم يهيؤون الكليجة والكيك معه ، لا تتأخر على الضيف العزيز ، كان أبو حيدر يرى شاكر الرادود للمرة الأولى ، وإنْ سمع عن سـيرته الحسـنة ، جراء الأسئلة التي أثارها عنه بعد مكالمة الموعد ، واِطمئنانه لسلوكه الخـُلقي القويم ، وسمعته الحسنة في المجتمع . لكن الاِستقبال الحار أوضحت لشاكر وكأنه يعرفه منذ سنوات طويلة .

ـ اِزداد حرج شاكر ، وتكور على نفسه بدلاً من أن يأخذ راحته في ضيافة أبو حيدر ، الذي خاطبه بلقب عمي زيادة في الاِحترام ومبالغة في الإجلال ، وخجلاً من روعة الاِستقبال ، وهو ما أشاع الدفء في أوصاله وأسرى الهدوء والاِطمئنان في قلبه ، وأراد البدء بالحديث الذي قدِمَ من أجله ، لكن أبو حيدر بادره بالسؤال عن وضعه الصحي ، والعائلي والعمل ، وشؤون التعازي الحسينية ، كانت كمشة كبيرة من الأسـئلة المتناثرة التي شـجعته على الكلام ، وتوارى الخجـل عن الاِنغمار المتسـلـل في نفسـه الملتاعة بالأمل .

ـ والله يا عمي أبو حيدر ، الأوضاع كلها على خير ما يرام ، العيشة بفضل الله ماشية ، الرزق وفير أكثر مما هو مطلوب ، أمي بصحة جيدة وإنْ أضناها الكبر ، ولدي مجالس حسينية في باب الطاق ، وباب السلالمة ، وعزاء في جامع محلة العباسية الشرقية ، في الجـِـدَيْـدَة أعني ، ولم يتبقَ لي من مشاكل شخصية ، سوى إتمام نصف ديني والاِستجابة لرغبة الوالدة في الزواج ! .

ـ ألم تتزوج بعد ؟ لقد ظننت أنك تملك درزينة من الأولاد والبنات ، وتبسَّـم أبو حيدر الذي واصل ، المهم أنْ تستجيب إلى رغبة الوالدة ، فالجنة تحت أقدام المهمات ، والمال هو زينة الحياة كما هم الأبناء ، مثلما يقول القرآن الكريم ، ولا أبناء من دون زواج ، لذا كان الزواج والأولاد إحدى الأولويتين في الشريعة الإسلامية ، كما تعرف ، وأنت سيد العارفين ، ولكن ما هو الشيء الذي يعطلك ، الخطبة ؟ أنا جاهز للذهاب معك ، النقود ؟ إني مستعد للمساعدة ، وهناك العشرات غيري هم مستعدون أيضاً لتقديم يد العون للخيرين من أمثالك .

ـ طرق حيدر بابَ غرفة الاِستقبال عدة دقات قبل أنْ يأذن أبوه له بفتحها ، فربما كانت هناك أسرار تنطوي أحاديثهما عليه ، هكذا اِعتاد حيدر ، على التقدير الذي يسبق أي تصرف . تفضل بابا ، أدخل ، ماكو أحد ولا حديث خاص بيننا ، دلف الاِبن الوحيد الغرفة ، وضع صينية الشاي الفضية المتلألأة على المنضدة ، كان القوري والكتلي والإستكانات قد اِستقرت عليها ، وإلى جانبها كانت صحون الكليجة والكيك والبسكويت ، قد اِحتلت حيزاً من الصينية التي راحت تلهث لمعاناً ونظافةً ، ترك حيدر الغرفة ساداً الباب عليهما ، ملأ أبو حيدر أقداح الشاي بالسائل الكستنائي الغامق اللون ، سائلاً شاكر عن كمية السـكر التي يرغب بوضعها في قدحه ، وهو يمسك بعلبة السكر الفضية الجميلة .

ـ والله يا عمي أنا جئت من أجل هذه القضية ، أرجو بختك المعروف في حل إشكالاتها ، ولكن أبو حيدر رجاه تحديد كمية السـكر وشرب الشاي وتذوق المعجنات المختلفة ، قائلاً هذه كليجة وقد ملئت بالتمر ، تلك جرى تعبئتها بالجوز والسكر والمطيبات ، والثالثة

تضمنت لب الجوز الهندي الكبير والسكر والهيل ، أما الكيك فقد أحشيَّ باللوز والكاجو والفستق ، فيما البسكويت جلبناه من السوق ، تذوقْ وكـُـلْ مع شرب الشاي ، سنتحدث بالأمر الذي جئت من أجله ، اليوم كسبناك وكان بودنا نتعشى سوية هنا ، المهم أنه طالما تتعلق المشكلة بعمل خيري ، فإنها ستمضي نحو الحل ، إنْ شـاء الله ، ألم تعرف أنَّ الجنازة والعرس محلولتين معضلتهما مهما كانت الصعوبات ؟ .

ـ نعم عمي ، بلى عمي ، أعرف ذلك ، طالما واجهناها ، أدعو الله أنْ ييسـر هذه المهمة على يدك الكريمة ، أنْ يجعلها بسيطة ، أنْ يقضيها بسهولة ، هو القادر على كل شيء ، هو الملـّين للقلوب ، المسهـِّل لقضاء الحوائج ، والمزيل للملمات الشائكة .

بعد الاِنتهاء من شرب الشاي وتناول عدة حبات من المعجنات ، وخصوصاً من الكليجة ذات الصنع البيتي ، ومذاقها الجميل ورائحتها الطيبة الزكية ، أزمع شاكر على طرح قضيته مبتدءأ برواية فصول قصته الحزينة ومختتماً بمجريات تتابعاتها التي تؤثر على الحاضر بعد مضي قرن ويزيد على حدوثها العجيب ووقائعها المفجعة ، فيما كانت آذان أبو حيدر صاغية وعيونه شديدة التركيز على أقوال الضيف ، كان الاِضطراب يأخذ بتلابيب شاكر ويتفصد العرق على جبينه ، يبدو الألم على محياه كلما روى جزءاً من فصول خطبته وخطوات مسعاه ، والجهد الفاشل الذي بذلته أمه وعمته ، والطريق المسدود الذي اِرتطمتا به ، جراء الحادثة المأساوية إياها .

ولم ينتهِ من قصته المحزنة إلا ودمعة متجمدة في مآقيه البيضاء الحوراء ، بدت متوقفة في وسط الطريق ، قريبة من بؤبؤتي العينين والمحصورة على جرف جفنيه ، هل كانت تلك الحبتان من الدمع ، تعبيراً منه عن يأسٍ متوسد في قلبه ، أو رهبة من أبي حيدر ؟ . لكن المهم أنها كانت دمعة مليئة بالسـائل ، رغم كونها متجمدة في عيونه الواسعة ، ترفض التكور السائح النازل ، وتأبى أنْ تكُـرَّ على الخد وهي تتجه نحو الأرض . ختم شاكر قصته بمناشدة أبو حيدر التدخل لفض المعضلة الشائكة التي تنتاب طريقه ، التوسط عند السيد مجيد لإنهاء معاناته المضنية ، فعائلة الفتاة المطلوب الموافقة عليها للخطبة ، تمعن في عنادها وترفض طلبه المشروع وفق كل الشرائع السماوية ، وقرأ الآية القرآنية التي هيئها بشـكل مسـبق كي تكون خاتمة حديثه : ((بسم الله الرحمن الرحيم : قل أغير الله أبغي ربّاً وهو رب كل شـيء ولا تكسب كلُ نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرة ٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعـُكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)) ، وبصريح العبارة أن عائلة السيد مجيد هي ، كما هو شأن أسرتكم الكريمة البارة ، يندر أنْ يوجد مثيلاً لها في هذا الزمن ، وأنا أشتري سمعة أهلها قبل أي شيء .

كان أبو حيدر طارق السمع ، كما هي عادته ، لم يتكلم عن الموضوع ، أوعده خيراً ، ولكنه نبه الزائر ، إلى أنه بحدود ما سمعه ، فإنَّ الأمرَ محلولٌ ، والموافقة ستكون لصالحك بالتأكيد ، ولكن ، وهي الكلمة التي أطارت صواب شاكر وأقلقت تفكيره ، لا بد من سماع رواية أبو البنت عن القضية ، رغم الثقة التي عرفتها عنكم . خير إنْ شاء الله .

ـ والله عمي ، كلمة واحدة لم أزل في صدق روايتها لكم ، تستطيعون سؤال الوالدة والعمة ، إني مستعد لجلبهما ، هما صائمتان مصليتان ، لا تكذبان أبداً ، ولن تعرفا المخاتلة .

ـ يا رجل لم أقل أنك تكذب أو تبالغ ، لا داعي لجلب الأختين العزيزتين الحاجتين الوالدة والعمة ، إلى هنا ، ولكن لابد من سماع رواية السيد مجيد ، عن الموضوع ، تلك هي أصول الوساطة ، ثم حتى أختار طبيعة المدخل لحل المسألة ، اِنتظرني لمدة أسابيع لا تتجاوز الأربعة ، فربما كان السيد مجيد يطلب مهلة لمشاورة الأهل .
سـِفارة مميزة !

يوم الجمعة ، عصراُ ، ذهب أبو حيدر إلى محلة باب بغداد ، الذي كان السيد مجيد يفتتح دكانه فيها ، واليوم المشار إليه هو يوم العطلة عند المسلمين ، مثلما هو يوم السبت ، من كل أسبوع ، العطلة التقليدية عند اليهود ، والأحد يوم الراحة الأسبوعية عند المسـيحيين . ولكن عطاري المحلة يتعاطون معه وكأنه يومٌ عاديٌ ، ويفتحون محلاتهم من الصـباح المبكر إلى الليل . . . بعد أذان العِشاء ، ومن دون توقف أو راحة ، وبالتحديد منذ السادسة والنصف صباحا وحتى الساعة العاشرة مساءً ، يتعاون فيه إثنان أو أكثر من أفراد العائلة حصراً . وجد المحلَ مفتوحاً ويخلو من الزبائن ، كان السيد مجيد فارع الطول ، جالساً على كرسيه ، متأملاً الرائح والغادي ، ومن دون عمل يخص محله ، فالزبائن في المساء قليلون ، كان شحيحاً في نسج علاقات شخصية مع الآخرين ، على عكس من اِبنه الودود مع أقرانه . إذا وقف اِبنه السيد علاء في المحل ، كنت تجد أصدقاءه ، أو بعضهم ، وقد تجمعوا عند طرف المحل الأمامي ، يأكلون اللقم أو الجكليت أو يكرزون حب الرقي أو بزر البطيخ وفق بعض اللهجات الأخرى ، بعد أنْ يبتاعونه من بضائع المحل المتنوعة .

كان أحد أقاربه ، الذي يسكن في أحد الأحياء البعيدة ، الذي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الأمانة الحكومية ، والأمانة هي الحافلة أو وسيلة النقل الحكومية التي تأسست قبل خمسة عشر عاماً فقط ، يأتي لماماً لزيارته لاسيما عندما يكون محتاجاً ، كان السيد علاء بن السيد مجيد ، الاِبن غير البكر ، عندما يشاهد قريبه القادم إليه ، عندما يلمحه من مسافة بعيدة ، يلبس عمامة أبيه على رأسه ، ويجلس القرفصاء على أرضية المحل ، المرتفع موقعه الأمامي ، بارزاً العمامة ذات اللونين الأحمر الغامق والأخضر الضاحك ، كون الشال الأخضر ملفوف بعناية حول الفينة التركية الحمراء ، كانت الراية خضراء عند الهاشميين ، والشال الأخضر يرمز إلى ذلك ، صار ذلك الشال تقليداً للهاشميين منذ الإمام الثامن على بن موسى الرضا ، كما تقول الروايات المتداولة ، أي منذ المرحلة العباسية في زمن حكم الخليفة المأمون بن هارون الرشيد الذي حكم الإمبراطورية العباسية من بغداد ، العاصمة العراقية ، بتاريخ 813 ميلادية ، كما يقال ، كان القريب يولي هارباً بسرعة ، كي لا ينهض السيد مجيد واقفاً ويراه . كان علاء يقهقه ضاحكاً حتى درجة السقوط على القفا .

لم يكن السيد مجيد عبوساً ، لكنه لم يكن بشوشاً متهللاً ، والحق يقال ، يحافظ على لبس عمامته في كل وقت ، وذلك هو الرداء التقليدي عند الهاشميين من سكان كربلاء ، التي كان يمتلك اثنين منها في المحل ، واحدة على سبيل الاِحتياط ، كما يبدو ، وهي الأكثر حداثة وجمالاً وترتيباً ، شعرات لحيته البيضاء تطغى على شعرات وجهه السود ، شعرات وجهه ذات الشيبة الجميلة والمهيبة ، تدل على أنه تجاوز الستين عاماً ، عندما رأى أبا حيدر قادماً من على مسافة لا بأس بها ، وليست هي ، كذلك ، بعيدة ، هبَّ واقفاً منادياً على أبي حيدر : تفضل حجي ، اِشرب الشاي ، اِستريح ، وكذلك فعل جيرانه ، كان جواب أبو حيدر : شكراً ، مستعجل ، بعد خمس دقائق يحين موعدي مع فلان ، وأطلق اِسماً غير معروف من قبل جميع أصحاب المحلات ، ربما كان للتمويه .

بعد ثمان دقائق عاد أبو حيدر ليقف قبالة محل السيد مجيد ، قائلاً : ذهبتُ ولم أجده ، ربما حدث له طاريء ، كان أبو حيدر يدرك أنَّ ذلك العذر مجرد ذريعة ، ولكنه تلفظ تلك الكلمات بكل جدّية ، في هذا الوقت بالذات كان السيد مجيد يرسل إشارة خفية لصاحب المقهى المقابل ، بضرورة جلب الشاي ، واِعتبر توقف أبو حيدر ، مجرد توقفه ، تشريف له أمام الجميع : الجيران وسـواهم ، وصاحب المقهى ، لقد ركز الجميع أبصارهم على الحاج أبو حيدر والسيد مجيد .

وتقدم البعض للسلام على أبي حيدر ، تقدم هو للسـلام على السيد مجيد ، متوقفاً بالقرب منه ، مطلقاً أحاديث شتى تناولت السؤال عن أحواله وعائلات أخوته وظروفهم ، قدم نادل المقهى الذي لبس الدشداشة الملوثة بألوان متبقية من بقع الشاي المسكوب على ثوبه الأبيض ، والحزام الجلدي الذي طوقها ، وجعلها مرتفعة عن الأرض من الأمام ، وقدم المشروب الساخن بأدب جم ، بعد أداء التحية ، أخذ أبو حيدر صحن الشاي ، وتركه أمامه ليبرد ، وراح ينتبه لأحاديث السيد مجيد ، التي لم يتعد نطاق اِهتمامها السؤال عن الصحة والعمل وأحوال الأسرة كلها ، وليس العائلة ، وبدا كأنهم يعرفهم كلهم ، أو يبدي رأياً هنا ، أو يطلق تعليقاً حول تلك المسألة .

كان أبو حيدر يلبس عباءة من قماش الهربد الأسود ، القماش الإنكليزي الرصين ، المخصص لصناعة العباءات الفخمة ، والعالي السعر أي الغالي الثمن ، وقد فـُصلت بإحكام وخيطت باِنتظام ، ولُقط صدرها بخيط من نوع البريسم الجميل ، المتميز الحجم ، الخشن ، والناعم الملمس واللمّاع ، من صنف الدرجة الأولى ، كانت تغطي حذائه الكستنائي الغامق من الخلف ، وإنْ لم تكن تحتك بالأرض ، كان الحذاء والبدلة متقاربا اللون . الصاية والجاكيت من القماش الإنكليزي المنسدل والناعم ، رغم سماكته ومتانته ، تميلان للون الحنائي الفاتح جداً ، واِستقر على رأسه اليشماغ من النوع غير البطال المائلة مستطيلاته الصغيرة للبياض ، المحددة مسحاتها بالخطوط السود الكثيفة ، والعقال المرعز والمهيب ، كاد أبو حيدر أنْ ينتهي من شرب الشاي .

عندما لمح بائع القهوة الجوال وجوده بالقرب من دكان السيد مجيد ، تجاوز مجموع عملائه الذين كان يتوقف عندهم يومياً ، ويثرثر وإياهم بأحاديث شتى تصل إلى حدِّ اللغو ، لا على التعيين ، لكي يقدِّم لهم فناجين القهوة ، ويكرمونه بعشرة فلوس ، أو يرتشفونها مجاناً وعلى الحساب ، يدفعونه في يوم آخر ، أو يعطونه أسبوعية قد تبلغ الدرهمَ الواحد ، لم تكن القهوة مفروضة عليهم ، كما لم تكن محبوبة عندهم ، كانوا يأخذون الفناجين ويحسبونه نوعاً من الزكاة ، يطردون به عيون الحاسدين .

تجاوزهم بسرعة ليصل دكان السيد مجيد ، متقدماً من الضيف المتوقف عنده ، مقدما له فنجاناً نظيفاً غسله بالمياه التي كان يختزنها في إبريقٍ يحمله دائماً ، ينظـِّف الفناجين المستعملة بمياهٍ صافية ترسلها إسالة مياه المدينة ، كان يملأه من أية مقهى أو جامع أو أي حنفية متوفرة لشرب المياه ، كون إقامتها عمل خيري في سبيل الحسين ، وعطشه الذي ترك خيطاً مأساوياً من الألم في أذهان الكربلائيين كلهم .

ـ تفضل محـَّفُوظْ ، وهو لقب كان شائعاً في العهد الملكي يخص شيوخ العشائر والقبائل ، ماداً له باليد اليسرى ، فنجانً أبيض وناصع ، بعد أصدر أصواتاً رنانة من الفناجين الفارغة التي كانت في يده ، وتحت ذلك الفنجان ، الذي اِستقرت في قعره رشفة من القهوة المرة ، كان يتقن ملاعبة الفناجين الخمسة الباقية من دون سقوطها على الأرض ، كانت الفناجين خزفية تطلق أنغاماً نتيجة طقطقتها المتتالية . . . قدم فنجاناً آخر للسيد مجيد ، الذي شكره ولم يأخذ فنجان القهوة ، كان السيد مجيد غاضباً من تصرف القهواتي ، حانقاً على سلوكه الأشعبي الطمّاع .

ـ أخذ أبو حيدر فنجان القهوة وعبَّه وهو يواصل حواره مع السيد مجيد ، واِستلم للمرة الثانية ، فنجاناً آخر ، واِرتشفه ، وتناول ، الفنجان الأخير ، الثالث ، ووضعه في فمه دفعة واحدة ، قبل أن يحرك الفنجان الفارغ بأصـابعه عدة حركات من دون أنْ تتمروج يده ، قائلاً شكراً ، ماداً يده في جيبه المخفي عن الأنظار ، الملتصق في الجانب الداخلي لصايته ، ظاهراً قطعة نقدية من فئة الربع دينار ، ليدسها في يد القهواتي ، داعياً له بالتوفيق .

حاول صاحب القهوة تقبيل يد أبو حيدر الذي سحبها بقوة وسرعة ، قائلاً : أستغفر الله . كان المبلغ ذاك يساوي خمسة وعشرين مرة للعشرة فلوس التي يتكرم بها عليه الأفراد العاديون .

بعد عشر دقائق ترك أبو حيدر محل السيد مجيد بعد أنْ غمره بالتحيات التوديعية ، بصوت مسـموع ، رفع يده لتوديع الجميع ، عطاري المنطقة ، الذين اِشـرأبت أعناقهم إليه ، ومضى باِتجاه مرقد العباس ، قاطعاً منطقة سكن أجداده ومحلة نفوذهم التقليدية ، السابقة .

ـ يوم الأحد ، وفي مسائه على وجه التحديد ، رنَّ جرس الهاتف على السيد مجيد في دكانه ، هلو ، قال السـيد مجيد ، سمع الصوت فعرفه من نبراته الواضحة ، أهلاً أبو حيدر ، خير إنْ شاء الله ، آمر ، كلي آذان صاغية .

ـ أريد أنْ أزوركم في البيت ، لديَّ حديث معكم ، عندما كنت قبل يومين في محلكم ، شاهدني أحد المحبين لكم ولي ، وكلفني في الحديث حول مسألة تخصكم وتخصه ، هل يمنع ما نتحادث بشأنه ؟ هل يمكن أنْ أزوركم في البيت ؟ أم نلتقي في مقهى ؟ أو أأتي لكم عند المحل ؟ كيفما تحبون يا سـيد أبو حميد ، الأمر أمركم ! ، ولا مانع لديَ أبداً ، في أي مكان تشاؤون .

ـ مثلما تحب يا حجي ، أبو حيدر ، أجاب السيد مجيد ، البيت بيتكم ، أنا جاهز في أي مكان تشاؤون ، المقهى ، المحل ، المنزل ، لا فرق ، وإنْ كنت أفضل الدار ، لكي تقوم العائلة بالخدمة ، وتقديم العشاء ، زيارتكم للبيت تشريف لي ، وللعائلة كلها ، سيكون أخوتي كلهم حاضرون ، ما رأيك بيوم الثلاثاء أو الأربعاء ، لكي يتهيأ أفراد العائلة بإعداد واجبات ضـيافتكم ، وضـيافة مَـنْ تحبون أنْ يأتي معكم ، هذا شرف لي ، لنا .

ـ لا ، لا ، أريد اللقاء معكم وحدكم ، باديء ذي بدء ، لا تعمل أي زحمة ، اِستكان من الشاي يكفي ، سنأكل العشاء في يوم آخر ، وفي مناسبة سعيدة ، يشرفنا الأكل ببيت أحفاد رسول الله ، يوم الأربعاء القادم مناسب لي تماماً ، العنوان في باب السلامة ، ولكن الدار لا أعرف موقعها على وجه التحديد ، أين تقع ؟ الساعة الثامنة سآتي عندكم ، في أعقاب اِختتام تلك المكالمة الهاتفية ، وقبل الكلمات التوديعية ، اِستمع أبو حيدر إلى وصف دقيق لموقع البيت .

ـ نهاية شـارع صاحب الزمان تماماً ، شـارع رؤوف أبو دية سابقاً ، ثم تنعطف إلى اليمين ، وبعد عدة خطوات تدخل في زقاق يقع على اليسار ، الباب الثاني على يدك الشمالية ، الباب أسود ، من الطراز القديم ، الطريق العام يعلو الدار بدرجة أو درجتين ، والدار لها شـُرفتان [أرسيان] على الطريق العام ، بارزتان ، منظرهما من الخشب المخروم ، قبالة هذا الزقاق محل أخي السيد جعفر ، سميَـك أبو حيدر ، يمكنك السؤال منه عن بيتنا ، هل تريد أنْ أنتظركم هناك ؟ .

ـ كلا ، شكراً ، الوصف دقيق ، في أمان الله .

مساء يوم الأربعاء ، وكان رذاذ المطر المتساقط يبشر بالخير العميم ، ويبعث على التفاؤل ، وصل أبو حيدر المنطقة ، ركن سيارته في نهاية شارع صاحب الزمان ، كما وصف السيد مجيد العنوانَ بالضبط ، وترجل منها ، ماشياً نحو بيت السيد مجيد . قبل أنْ يترك سيارته خلفه ، ألقى نظرة متفحصـة على وقوفها الدقيق ، والتأكد من العمل الجيد لأقفالها ، كانت نظـيفة ومن الموديل الحديث جداً ، ويميل لونها إلى البياض الفضي اللافت للنظـر ، يظللها اللون الأحمر الفاتح من الأعلى ، على شكل حزام قريب من سقف السيارة أو سطحها .

وصل إلى البيت ، ضغط على جرس المنبه ، بدأت الأبواب الداخلية بالاِنسـداد المحكم ، ذهب السيد مجيد إلى الباب الخارجي كي يفتحه ، العائلة كلها متوثبة لأداء الخدمة المطلوبة ، غالبت نزوع التطفل عندهم جميعاً لرؤية هيئة الضيف الذي تحدث الوالد عنه ، بإعجاب كبير كونه أحد الشيوخ القبليين ، والذي يزور البيت للمرة الأولى ، وكتمت على رغبتها النزاعة للإطلاع ، كانت تقاليد البيت صارمة جداً ، والعزل بين النساء والرجال محكم تماماً ، الستائر مفصـَّلة من القماش السميك ، وجرى خياطتها بإتقان شديد ، بحيث منعت أية اِمرأة من الإطلال على باحة البيت عبر الزجاج : قاصرة أو غير قاصرة ، حجبت عنهم إمكانية حتى التلصلص على المظهر الخارجي للضيف .

فتح السيد مجيد الباب فواجه أبو حيدر بضخامة جسده التي بدت أكبر من طبيعتها . ربما كان ذلك بسـبب اِنخفاض المنزل عن الشارع ، إضافةً إلى طلعته البهية المديدة ، هبَّ رياح عطر دهن الورد الأخاذة لحاسة الشم . أطلق السيد مجيد كومة متدفقة من الكلمات الترحيبية ، التهليلية ، قبل أنْ يتكلم أبو حيدر بأي نوعٍ من الكلام ، حتى لو كانت كلماتها تقول السلام عليكم ، تفضل أبو حيدر ، البيت بيتك .

أطلق أبو حيدر تحية الإسلام : السلام عليكم ، أبو محمد : كيف حالكم ؟ وهبط نحو باحة المنزل ، وتدافعا الاِثنان حول مَـْنْ سيسبق الثاني ، المسـتـَقبـِل يقول للناس كراماتها ومقاماتها ، والثاني يقول اِسبقني لا أعرف البيت أو الغرفة التي سنجلس فيها ، وهكذا لدقائق معدودات ، قبل أن يمسـك السيد مجيد بيد الزائر ويذهبان سوية إلى غرفة الجلوس التي رُتِبَت جيداً ، جلسا قبالة الواحد منه للآخر ، كان الضيف يجلس في صدارة الغرفة ، وعلى فراشٍ وثير تلاصَقَ والأرض ، كانت هناك تكاءات كبيرة مصنوعة من القطن ، تسند ذراعيه إذا ما أراد ذلك ، تمددت على المندر القطني ، متقاطعة معه ، راسمة معه شكلاً صليبياً واضحاً .

كانت جدران الغرفة حملت صـورتين كبيرتين ، إحداها مكتوبة بخط الثلث العربي الأصـيل ، والثانية لشخصية نورانية يلوح على هيئتها العامة العمامة السوداء والممتد أمامها سيف ذو الفقار . كان اللون الأخضر في الصورة هو الأبرز ، إنها صورة الإمام علي بن أبي طالب ، الإمام الأول للمذهب الإمامي ، الإثنا عشري ، أما الصورة المكتوبة التي زججت بعناية ، وأطــِّرَت بنطاق خشبي جميل ، فقد اِحتوت على سورة الكرسي ، التي لها وقع جميل على قلوب أنصار المذهب ، على الجدار المقابل كان رفـَّان من الخشب ، جرى تثبتهما بمسامير نفـّاذة من الحديد على الحائط ، معلقان بإحكام ، يحمل أحدهما كتابين هما القرآن الكريم ، بينَتْ توالي الأعوام وتقادمها ، لونَ غلافه الخارجي ، وضياء الصالحين ، الكتاب الذي يحتوي على أدعية وزيارات طالما يجري ترديدها في المناسبات الخاصة ، بأئمة المذهب وشخوصه المتميزين الذين تركوا بصمة أثر على نموه المعرفي .

أما الرف الثاني فكان يحمل جهاز الراديو الكهربائي ، وقد ستره قماش مفصـَّل ومخاط ، أزرق اللون ، يغلب عليه الطابع الغامق . كانت المدفأة النفطية من نوع صوبة [ مدفأة ] علاء الدين ، تستقر فوق أرضية الغرفة التي اِفترشـها السجاد العراقي الصنع ، ليس اليدوي بالقطع ، تراقصت الشعلة الزرقاء للفائتين بالقرب منها ، وهدأت للناظرين بعد ضمور الهواء ، الذي ترك هبتها الخفيفة الزائرُ الفائت ، كانت تلك الصوبة تشيع الجو الدافيء في غرفة الجلوس ، قبالة الزائر كانت صورة متوسطة الحجم ، غير ملونة ، أي تحمل اللونين الأبيض والأسـود ، حملت رسـماً لأحد العسـكريين العراقيين ، عرف أبو حيدر تالياً ، أنه محمد الذي لم يرَ كربلاء منذ خمس سنوات ، بسبب تهمة سياسية لحقت به أثناء طيش الشباب ، وسار مع الذين يهبون مع كل ريح ، موالٍ لأحد أطراف الصراعات

التي طالما نشبت بين القوى السياسية العراقية في أعقاب ثورة 14 تموز عام 1958 ، واستعملت فيها الحبال لسحل المناوئين لوجهة النظر الأخرى ، حتى الموت أو التلاشي التام .

بعد حديث متواصل للترحيب والإستئناس بالضيف ، دُقَت باب الغرفة التي كان فيها يجلسان ، كانت أم حميد تحمل صينية الشاي وقد تجاور معها الكعك وخبز الدهن ، فخرج السـيد مجيد إلى باحة الدار ، وتناول الصينية ، من دون أنْ يقدم لزوجته أي كلمة للعرفان بالشكر ، ودلف الغرفة وأحكم رد الباب على مصراعيها ، وضع الصينية على الأرض وراح يدلق الشاي المختمر في الإستكانات ، سائلاً الضيف عن كمية السكر ، ومقدماً له في الآن ذاته الصحن الذي توسـدت فيه قطع الكعك وخبز الدهن ، الذي اِنغرسـت فيه أصابع خبازه فيه ، حمل الشـاي له ، قائلاً في الآن ذاته : تفضل ، هل أجلب لكم كوباً من الماء .

ـ شـكراً ، قال أبو حيدر ، وبدأ يحرك الســكر بملعقة الشـاي الصغيرة ، عند الاِنتهاء من شرب الشاي ، نطق أبو حيدر العبارة المألوفة في تلك المنطقة : دايمة . تكلم أبو حيدر قائلاً :

عندما ودعتكم في محلكم يوم الجمعة الماضي ، قصدت الإمام العباس للزيارة ، بعد أداء مراسيمها ، خرجت من المرقد للذهاب إلى البيت ، عبر اِستئجار تكسي خاص ، ولكني رأيت الأخ شاكر واقفاً باِنتظاري ، وأظنك تعرف مَـنْ هو شاكر ، أنه الحسيني والرادود والبستايجي ، وكلمني بشأن مسألة خلافية نشـبت لديه ، حول إتمام نصف دينه ، ورجاني التوسط لديكم ، وبما أنَّ شـاكراً حسينياً أصيلاً لم أردُّ له تكليفاً ، أو رفض أي طلب معقول ، يصدر عنه ، رغم أنه من عادتي أنْ أجس نبض الأمر ، أي أمر ، بشكل مسبق ، حول إمكانية نجاح المسعى أو فشله ، بصدد أية مشكلة ما ، لقد أملـْتـُّه خيراً ، معتمداً على طبيعة العلاقة معكم ، لاسـيما وأنَّ المسـألة التي جاء بدقائقها ، كانت قد حدثت منذ زمان قديم ، ومبدأ الزواج هو عمل خيري كله من ألفه إلى يائه ، ويا بخت مَـنْ جمعَ بين رأسين مؤمنين ، كان شـاكر طوال حديثه معي يكرر اِحترامه العظيم بمنزلة عائلتكم ، وإعلائه العميق لمنبتها الهاشـمي الطيب ، ويطنب في سمعتها ، حقاً أنَّ ذلك النعت هو حقكم الذي يتحدث عنه الجميع ، ولكن شاكر شاريكم أولاً وقبل أي شيء ، إنه كربلائي صميم ، وحسينى مخلص ، ومؤمن حقيقي ، ليس له شاردة سيئة أو واردة مسيئة ، مقتدر ، مستور ، محبوب من قبل الجميع ، لا يعيبه أي شـيء .

في الحقيقة أني أحسـدكم على هذا الاِختيار من قبل شاكر ، اِنتقاؤه لفتاتكم يدلُّ على معدنه الأصيل الذي يبحث عن الأرومة أولاً ، وقبل كل شيء ، والله لو كان يريد اِبنتي لما توانيت عن تزويجها له ، ولكنه يتطلع إلى شرف مصاهرته لكم ، وأنت يا أبو حميد رجل مؤمن ، صائم ، مصلي ، معروف بعمل الخير ، لا أقول هذا نفاقاً أو مجاملة ، إنما هو واقع الحال ، أرجو أنْ تكون كبيراً في هذه المسألة أيضاً ، وتقنع أختي أم حميد بوضع الماضي الأليم وراء ظهرها ، تغافل الحاج أبو حيدر عن مسألة مجيء شاكر إلى بيته ، لكي يجعل المسألة كلها مجرد تصادف الصدف ، إلتقى به مصادفة صدفة ، هل رأي شـاكر صدفة ، أم كانت مهيأة من قبله ، لا أدري ، ولكن بالنسبة لي كانت كلها صدفة ، مجرد صدفة .

ولكنه ، زيادة في الإقناع ، أضاف إلى ذلك الوصف : ولنا في سيرة الرسول محمد بن عبد الله ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، الأسوة الحسنة ، وراح يستحضر قضية تلك المرأة وما حدث لها في صدر الإسلام أمام السيد مجيد، يبدو لي أنَّ تصرفت الجد البعيد لشاكر كان ينطلق من عادات سقيمة ، متخلفة ، ليس لها علاقة بالتعليمات الدينية ، الشريعة الإسلامية موصوفة بالرقة ، والحنو على الضلع القاصر ، وكذلك كان المؤمنون يسمون

المرأة التي خلقت ـ كما جاء في القرآن ـ من ضلع الرجل ، لقد جاءت اِمرأة ٌ الرسولَ عليه السلام في أحد الأيام ، واِعترفت أمامه بأنها زانية ، وطلبت منه التطهير ، أي تطهيرها مما اِقترفته ، وتسـتحق الرجم ، كما حددته الشريعة الإسلامية ، وتطلب منه إنزال العقاب فيها ، بإنهاء حياتها ، فأجابها : اِذهبي إلى بيتك ، لنرى تالياً في أنك حامل من ذلك العمل الفظيع أم لا ، وبعد أربعة أشهر اِنتفخ بطنها ، وبانت معالم حبَلـَها ، فقصدت الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وطلبت منه إنزال العقاب ، بعد أنْ أخبرته أنها حامل .

قال لها اِذهبي حتى وضع الطفل ، وأأتني بعد ولادته ، وما أنْ وضعت الطفل ، حتى جاءت للرسول محمد عليه السلام ، مخاطبة إياه : ها أني وضعت الطفل ، وجئت لتنفيذ عقوبة الرجم بي ، ولكن الرسول أمرها بالرجوع إلى البيت ، وإرضـاع طفلها حتى مرحلة الفطام ، وكان زمن الفطام يمتد إلى عامين ونيف تقريباً ، وعندما اِنتهت من تلك المدة ، جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلـَّم ، والطفل بيده كسرة خبز ، وقالت الآن فطمت الطفل ، وحل موعد تنفيذ العقوبة ، فأطلق الرسول ، محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، حكمه ، من خلال قوله عليه السلام : ((والله لقد تابت لو تابها صاحب مكس لقبلت منه)) أنها قامت بتوبة نصوح ، والدين الإسلامي كان فتياً ، وتعليماته ملأت قناعات البعض وأفكاره جديدة .

تصور يا أخي أبو حميد أن المرسل من الله يصبر على زانية لمدة ثلاثة أعوام ، وهي تعترف بخطـيئتها ، وفرض العقوبة عليها بقولها ((طهرني يا رسـول الله)) حددها القـرآن ، ((إذ يقول في محكم كتابه الكريم ، بسـم الله الرحمن الرحيم ، والزانية والزاني فاِجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إنْ كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، صدق الله العلي العظيم)) ، وعبد الحسن يذبح أخته التي لم تصل سنَّ الرشد ، وإنْ كان الإسلام يحدد سن البلوغ بتسعة أعوام ، لمجرد أنها خالفته أوامرها ، يتعجل الذبح لإنسانة كرمها الله بالحياة الدنيا ، لماذا يتصرف الرسول تجاه هذه المسألة التي كان النص في عقوبتها واضحاً ؟ لأنَّ الله غفور رحيم ، (( بسمه تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أنْ يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سـبيل الله وليعفوا وليصـفحوا ألا تحبـون أنْ يغفر الله لكم والله غفور رحيم ، صدق الله العلي العظيم)) . . .

أليس رسول الله هو المثال الأبهى والأنقى عند كل المسلمين ؟ ! ، لذا راح أبو حيدر يتغنى ببيتين شعريين لكعب بن زهير بن أبي سلمى .

إنَّ الرسول لنورٌ يستضاء به مهندَّ من سيوف الله مسلولُّ

نبئتُ أنَّ رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول

ثم أن الله يقول في محكم كتابه ((والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واِجعلنا للمتقين إماما ، صدق الله العلي العظيم)) فنريدك ، يا أبو حميد ، إماماً لكل الطيبين المؤمنين الصالحين ، لنشهد الذرية الصالحة الذين ينالون رضا الرب والبشر.

كان السيد مجيد مطرقاً وهو في حالة وَجْدْ مغناطيسي لسماع كلمات أبي حيدر ، الموشاة بالآيات القرآنية الواضحة والحاسمة والقاطعة ، والروايات النبوية والأشعار التي قيلت بمجلس النبي محمد ، وكلماته المتسلسلة بهدوء رصين ، ولمّا ينبس بكلمة واحدة تقطع سـلسـلة أفكار أبو حيدر ، لم يحرك يديه أو يعدل جلسته ، كان يستمع للحديث بكل جوارحه ، وتتنازعه شتى الأفكار وتحتدم في ذهنه أنواع الإجابات .

وبعد أن اِنتهى أبو حيدر من عرض طلبه ، المدّعم برواية محكمة عن الرسول ، والمسند بآياتٍ من الذكر الحكيم ، لم يكن أمامه من بـُد للجواب الإيجابي ، ومهرب ممكن ، تسنده المحاكمة العقلية ، من الموافقة على الطلب ، ولكنه قال : يا أبو حيدر ، مجيئك حـول هذه القضية قد فاجأني ، لا أنكر أنَّ المســألة قد تركت جُـرحـاً عميقاً في كرامة العائلة ، وألماً مُمِضـّاً في نفوسـها ، أم حميد وأقاربها ، بالنسبة لي أنت تمون على أبنائي ، تعمل فيهم ما تشــاء ، ولكن في هذه القضية بالذات لا بد من مشـاورة الأهل فيها ، البنت إبنتكم ، خذها من دون سؤال ، هي في أمركم ، زوجوها لمن تريدون ، رجاحة عقلكم وموقعكم الاِجتماعي ، تجعلني مطمئناً على حصافة رأيكم ، سأسعى لحل الإشكال هذا ، المسألة تتعلق بأم حميد ، لا بد من أخذ رأيها ، ونيل موافقتها ، مجيئكم للبيت كان أمراً عظيماً وكبيراً ، سأبذل جهدي ، كل جهدي الاِستثنائي ، من أجل إنجاز الحل الذي ترتضون ، فهل لي مهلة زمنية لكي أناقش الأمر مع أم حميد ؟ في الأسـبوع القادم سـأعطيكم الجواب ، الذي أظنه أنه سيكون إيجابياً ، بالخدمة حجي .

هذا عهدي بكم ، أنتم محبون للخير وأهله ، سليل الدوحة الهاشمية ، التي كان أجدادها يهشمون الخبز ويفتتونه في خدمة حجاج الكعبة الشـريفة الكرام خلال أيام القحط ، والجوع ، من هنا كان اِسـم بني هاشـم ، الهاشـميون أنتم ، عُرِف عنكـم نجدة الناس في الملمات ، وإسـعاف الملهوف في الأوقات الحرجة ، وراح أبو حيدر يطنب في الشمائل القرشية الهاشمية وأفعالها الخيرة ، مستحضراً سيرة الأئمة على هذا الصعيد .

تململ السيد مجيد ، ومن ثم وقف خارجاً من الباب منادياً على الأهل ، هل أحضرتم الفاكهة ؟ .

نعم ، أجابوه على تساؤله ، وأثناء خروج أم حميد وصينية الفاكهة في يدها ، كان أبو حيدر يواصل أقواله : لا داعي أبو حميد ، إنْ شاء الله نأكلها بالأفراح ، إني مستعجل ، أريد الذهاب إلى البيت ، قلتُ للعائلة سـآتي سـريعاً ، مضت حوالي السـاعتين عندك .

ـ أجاب السيد مجيد : ليس هذا من واجبك ، كان يجب أن نذبح خروفاً تحت رجلكم ، عند زيارتكم للبيت ، هو عصير طبيعي مفيد ، هي بعض الفاكهة . كانت الصينية بيده عندما دخل الغرفة ، وارى الباب خلفه ، ووضع الصينية على الأرض ، كان هناك صحنان خزفيين وعدة سكاكين ، وإلى جانبها كانت منشفة بيضاء نظيفة ، ربما لم تستعمل من قبل ، أو استعملت لمرة واحدة أو اثنتين ، أما صحن الفواكه الكبير فقد تقاسمته الفاكهة المشهورة في مدينتهم : البرتقال والرمان ، وكربلاء مشهورة بفواكهها المتنوعة مثلما هي مدينة البصرة المشهورة بتمورها ، التي تبلغ أصنافها المئات ، ومدينة بعقوبة بحمضياتها الكبيرة والطيبة ، وقضاء شهربان برمانه الذي يتجاوز وزن الواحدة من بعضـها قرابة الكيلو الواحد ، أي قرابة الألف غرام ، وناحية بهرز بأعنابها اللطيفة ، لاسيما من النوع البهرزي الصغير الحجم العسلي المذاق ، والمنطقة الجبلية بتفاحياتها ولوزياتها وعسلها .

كان الرمان من النوع الكبير الناتيء من جوانبه المتعددة ، وكأن حبيباتها تبرز من قشرها الخفيف ، دلالة على وفرة مائها الخوشي ( الوسطي) المذاق واللطيف ، أو اللفان بالتسمية الشامية ، والخوشي في تلك المدينة معروف في متوسط مذاقه ما بين الحامض السكباج والحلو من اِبن أمه ، قدم السيد مجيد لضيفه ماعون خاص فيه الرمان والبرتقال الزاهي اللون ، الخفيف القشـر اللماع ، البرتقال الكربلائي الشهير ، جراء تعرضه لحرارة الشمس وضوئها ، المائل للصفرة البرتقالية .

أكل أبو حيدر برتقالة واحدة ، توجيباً للزاد ، كما يقال في المدينة ، بشكل متقن ونازك ، للدرجة التي لا يحتاج معها إلى أية منشـفة أو غسـل الأيدي ، ونهض واقفاً ، مودعاً السيد

مجيد الذي أبى إلا أنْ يرافقه إلى السيارة الخاصة به ، ناشده أبو حيدر بعدم الخروج من البيت ، ومن ثم الرجـوع إلى الـدار عند عتبة الباب الخارجية ، ولكنه أبى ، ورافقه حتى باب السـيارة ، ولم يتركه إلا عندما شغـّلها بإدارة مفتاح تحريك السيارة ، لوح بيده مودعاً أبا محمد الذي قفل راجعاً إلى البيت ، حاكماً سد مزلاج الباب على الدار ، ومتوجهاً إلى الغرفة المشتركة الخاصة بالعائلة ، عندما سؤل عن السبب الذي جاء من أجله أبو حيدر ، لم ينبس السـيد مجيد بأية كلمة تنبيء عن الموضـوع الأسـاسـي ، قائلاً أنَّ الموضوع يتعلق بالمحلة التي أسترزق فيها ، وبعض الترتيبات الحسينية وشؤون التعازي ، وراح جميع أفراد العائلة يتناوشون الأحاديث المختلفة ، ويتبادلون شؤون يومهم السابق ، ويتطرقون إلى قضايا يومهم اللاحق .

عندما أزف وقت النوم ، ذهب كل أفراد العائلة إلى أسِرَّتِهـِم المخصصة ، فيما ذهب الأب والأم إلى غرفتهما الخاصة ، وبدأ بخلع ملابسه الخارجية واِرتداء ثيابه البيتية ، قبل أنْ يصعد إلى سريره الكبير ، وتلحق به زوجته ، ويتمددا على الفراش العريض ، أخبر السيد مجيد زوجته عن حقيقة سبب زيارة الضيف أبو حيدر ، والهدف المرتجى منها ، جلست أم محمد وحملقت في وجه زوجها ، أشعلت الضياء مرة أخرى ، نزت دمعة من عينيها ، كرت المأساة عليها دفعة واحدة ، اِرتعبت من قرار زوجها ، وأطلقت زفرات متتالية ، أرادت التعبير عن هواجسها ، والإعراب عن رغبتها ، وإبداء القرف من التفاصيل التي كانت قد تمَ نسيانها ، أو ربما نسيانها ، ولكن ذوي شاكر قد حفزوا ذاكرتها ، وأعادوا إليها شجونها ، قلبـُّوا عليها المواجع ، اِكتفت أم حميد بذلك الشعور الإنساني ، وسكتت عن الكلام الذي قد يكون مباحاً ، كانت تنتظر قرار أبو حميد ، ورأيه في تلك المسألة ، كان أبو حميد ما يزال يداور الأمر بذهنه ، عندما خاطب زوجته بضـرورة إطفاء المصـباح . الصـباحُ رباحْ . . . وربما يجعل الخير من نصـيب الجميع . هكذا كانت كلماته الأخيرة ، وراح يغطّ ُ في نوم عميق ، ويرسل شخيراً متقطعاً خفيف الصوت .

في الفجر المبكر ، نهض الجميع ، ما خلا الصغار ، لأداء صلاة الفجر ، كان الدخول للمرافق الصـحية ، وبالتناوب ، هو التقليد الأول ، ومن ثم كان الوضـوء من الحنفية ، وبداً الجميع الصلاة الفردية ، في السادسة جلس الجميع حول الصينية الكبيرة للإفطار المشترك ، كان البيض المسلوق وقطع من الجبن الأبيض ، وشرائح الخبز الساخن والطازج ، المجلوب من الفرن المجاور للبيت في الصباح ، والشـاي المخدر ، الحار والجاهز ، المستقر كتلي مائه على مدفأة علاء الدين النفطية ، كان كل ذلك النوع من الأكل الصباحي المعتاد ، قد هيأ تماماً ، بسمل الجميع وبدؤوا الأكل ، عندما اِنتهوا من تناول الوجبة ، حمدلوا ، قام الأب أولاً ، ومن ثم تبعه الجميع ، ما خلا الفتاة زينب والأم اللتين بدأتا بجمع المتبقي من الطعام وأقداح الشاي ، وترتيب منطقة الأكل وتنظيفها ، ولم تدرِ الفتاة أنَّ الموضوع يعنيها ، ولكن الكبار يتخذون القرار بشأنها ، رغم أنها تجاوزت العشرين ، فللرجل وحده حق تقرير المستقبل ، توجه الأب إلى غرفته لتبديل ملابسه والتهيؤ للخروج إلى محل عمله . . . إلى دكان رزقه .

أما الأبناء البقية فقد اِتجهوا نحو مكان اِستبدال ثيابهم اِستعداداً للذهاب إلى المؤسسة التربوية المقامة منذ عشرات السنين في منطقة أم العكاريك ، أي أم الضفادع : باب السلالمة ، وتهيئة الحقائب المدرسـية ، والكتب التعليمية ، والدفاتر الخاصة بالواجب ، أما علاء فقد لحق بأبيه إلى المحل لكي يسـاعده في البيع أيضاً ، فعند الضحى الصباحي تغدو ذروة العمل لمجموع العطارين ، إذ يتجمع أبناءُ القرى المجاورة للمدينة أمام المحلات ، لشراء حاجياتهم المعيشية الضرورية . وكلُ محلٍ له عملاؤه .

في اليوم التالي ، قبيل الاِنتهاء من صلاة المغرب والعشاء في جامع المنطقة التي فيها محله ، اِستخار السيد مجيد الشـيخ تقي الذي كان يؤم المصلين جماعة ، كان الشيخ لا يعرف أي شيء عن نية السيد مجيد ، وراح يخرج سبحة الباي زهر ، الحشيشية اللون ، وأخذ يقرأ تعويذات وآيات قبل أن يجعل كلامه عن طريق الشفاه والقلب معاً ، وأعداد خرزات المسبحة تطقطق بعضها فوق بعض ، ويفتح كتاب الله المنزل ، ليخبر السيد مجيد بالنتيجة الإيجابية للاِستخارة ، طالباً منه المضي في نيته السرية ، لأنَّ الآية القرآنية تقول ((واِذكر اِسم ربك بكرة وأصيلا ، ومن الليل أسجد له ، وسبحه ليلاً طويلاً ، هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوماً ثقيلا ، نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا ، إنَّ هذه تذكرة فمن شاء اِتخذ إلى ربه سبيلا ، وما تشاءُون إلا أن يشاء الله إنَّ الله كان عليماً حكيما ، يدخل مَن يشاء في رحمته والظالمين أَعد لهم عذاباً أليما)) .

اِطمأن السيد مجيد إلى صواب قراره الذي استبطنه في ذهنه ، وفي أعقاب رجوعه من المحل ، وبعد تناول العشاء ، وقضاء أحاديث متشعبة والجميع متحلقون حول مدفأة علاء الدين ، وهم يحتسون أقداح الشاي ، حان موعد أزوف الذهاب إلى الغرف الخاصة بالجميع ، تمهيداً للنوم ، قرأ الأب والزوجة بعض سور القرآن القصيرة ، وناجت أم حميد دعاءً خاصاً بابنها البكر : حميد ، اللهم أحفظه أينما كان نائماً ، اللهم صنه أينما كان ماشياً ، اللهم سلمه أينما كان جالساً ، اللهم حببه إلى قلوب مسؤوليه ، اللهم قربه إلى أفئدة زملائه وأعدائه ، اللهم أنت الرحمن الرحيم ، الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم ، أنت الكريم بعبادك فارحم الجميع واِغفر لهم ، أنت الكبير المتعال .

تمددا على السرير الخشبي المرتفع ، التي كان يسميها أبناء مدينة كربلاء الجرباية ، وهي كلمة محرفة عن اللغة الفارسية ، ((جهار باية)) ، أي الأربع رافعات ، تكلم السـيد مجيد بصوت رقيق ومتهدج ، كأنه خائف من ظِله ، بأنه موافق على تزويج زينب ، ورأى أنه قد حان الوقت لكي يأتي نصيبها ، لقد فكرتُ طويلاً في الأمر ، واِستخرتُ شيخ الجامع ، وكانت الخيرة جيدة ومشجعة ، إذا أتتكم أم شاكر وعمته ردوا على طلبهما بشكل إيجابي ، كانت أم حميد تستمع لما يقوله زوجها ، وقلبها يتموج من القلق ، وذهنها يتفتت من لوعة القرار المرتقب ، فأجابت حاضر ، وكتمت زفرة ألم تحشرجت في صدرها ، ومنعت ، وبكل قوتها ، دمعة حاولت الشرود من عينيها ، وهجعا إلى النوم حتى صلاة الفجر .

مشاركة في الخطبة

بعد أيام من صدور التعليمات الصارمة ، المكثفة والمختصرة ، عن السيد مجيد للعائلة حول ضرورة الاِنفراج في أزمة القرار العائلي ، الذي طاوع سابقاً فيه رغبة أم حميد ، قرر الرجل الكبير حسم الأمر نهائياً ، ورأى ضرورة اِستقبال أم حميد الخطـّابات للفتاة زينب ، مرة أخرى ، لإعطاء الموافقة المبدئية بشأن إمكانية الزواج ، كانت ((خلية النحل)) في بيت أم حميد مشغولة بتهيئة مقدمات الموافقة الأولية على الخطبة ، وتحديد سقف مطالبهم على صعيد المَهـرَ المعجل والمَهـرَ المؤجل ، وهما مبلغان معلومان ينبغي تثبيتهما في قسيمة الزواج ، يكونان من حق الفتاة وحدها ، نظرياً على الأقل ، ينبغي على الخطيب توفيره ، وتقديم المعجل مسبقاً ، كما أقرته الشريعة الدينية الإسلامية . وهكذا يقال . وحدد سقفه العُرف الاِجتماعي السائد وطبيعة الأسعار في السوق . وكلما كان المبلغ أعلى كلما اِزدادت هيبة الزوجة . الذي سيجري البحث حولها مع أم شاكر وعمته ، كمقدمة رسمية لا بد منها لاِسـتقبال وفد الرجال الطالبين يد الفتاة . بعد تلك الأيام كان السيد مجيد ينتظر

هاتفاً من الحاج أبو حيدر لكي يخبره بالقرار النهائي للعائلة ، بشأن مستقبل الفتاة التي يطلب يدها شاكر ، إذ من المعيب عليه أنْ يتصل هو أولاً .

في يوم الجمعة ، وفي أعقاب عشرة أيام من ذلك الحديث الذي دار في بيت السيد مجيد ، الذي طالما قضاها شاكر على أحر من جمر اللظى ، ومشاكسات القلق ، اللذين أخذا بتلابيبه النفسية كلها ، في كل ثانية . كان أبو حيدر ، على غير توقع أبو حميد الذي اِنتظر مكالمته التليفونية ، يتجه ماشياً نحو دكانه ، محيياً ، في البدء ، أبا الفتاة زينب ، ومتوجهاً بالتحية المألوفة ، باليد واللسان ، على كل الذين رآهم أو لمحهم ، من جيران السيد مجيد . لقد أعطى أبو حميد موافقته على مجيء أم شاكر وعمته . شكر أبو حيدر السيدَ مجيد ، وترك محله من دون أن يشربَ أيَ شيء كواجب مألوف للضيافة ، ليذهب مباشرة لمحل شاكر ، ويخبره بتوفر الضوء الأخضر على زيارة الأهل إلى بيت السيد مجيد ، طالباً تحديد التوقيت المضبوط يوماً وسـاعة ، بغية مجيء أم حيدر مع عمته وأمه ، وذهاب الثلاثة مجتمعين إلى بيت السيد مجيد .

فوجيء شاكر بموقف أبي حيدر ، وراحت رعشة منفعلة ، وضاغطة أيضاً ، تسري وسط جسمه كله ، أعجزته عن إبداء أيّ تصرف ، لهذا التكريم الشديد لشخصه من أبي حيدر ، لم يستطيع التعبير عن أفكاره بجُـمل واضحة وعبارات صريحة ، لقد عقدت المفاجأة ُ لسـانـَه ، ولم يتمكن سوى القول التالي : والدتي وعمتي جاهزتان منذ الغد ، والقرار للعزيزة الحاجة أم حيدر ولكم أيضاً ، نحن جاهـزون وتحت الطلب ، في أية لحظة تشـاؤون ، عمي هذا كثير عليَّ ، موقفكم الكريم لا يُنسى ، وإغرورقت عيناه بالدموع ، وحدَّثته نفسه بتقبيل يده ، لكن كرامته الشخصية منعته من هذا التصرف ، وطردت الفكرة عن ذهنه نهائياً ، أكمل أبو حيدر ، على الفور ، حديثه باِقتراحٍ محدد :

ـ ما رأيكم في يوم الثلاثاء القادم ؟ .

ـ كما تحبون ، أجاب شاكر .

ـ أضاف أبو حيدر : الثلاثاء ، يوم مناسب ، يوم طيب وفيه الخير وموصوف عندنا بالتيسير ، فضلاً عن أنه يومٌ ذكره الإمام على بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عليهم السلام أجمعهم ، الإمام السجاد في دعاء مشهور ، الذي يقول فيه :

((بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمدُ للهِ والحمد حقه كما يستحقه حمداً كثيرا ، وأعوذ به من شرِّ نفسي ، [إنَّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي] ، وأعوذ به من شر الشيطان الذي يزيدني ذنباً إلى ذنبي ، وأحترِز به من كل جبار فاجرٍ ، وسلطان جائر ، وعدوٍ قاهر ، اللهم اِجعلني من جندك فإنَّ جندك هم الغالبون ، واِجعلني من حزبك فإنَّ حزبك هم المفلحون ، واِجعلني من أوليائك فإنَّ أولياءَك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، اللهم أصلح لي ديني فإنه عصمة أمري ، وأصلح لي آخرتي فإنها دار مقري ، وإليها من مجاورة اللئام مفـري ، واِجعل الحياة زيادةً لي في كل خير ، والوفاة راحة لي من كل شــر ، أللهم صـل على محمد وآل محمد خاتم النبيين ، وتمام عِـدَّة المرسلين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأصحابه المنتجبين ، وهب لي في الثلاثاء ثلاثاً : لا تـَدَعْ لي ذنباً إلا غفرته ، ولا غماً إلا أذهبته ، ولا عدواً إلا دفعته ، بسم الله خير الأسماء ، بسم الله رب الأرض والسماء ، أستـَدْفع كل مكروه أوله سخطه ، واِستجلب كل محبوب أوله رضاه ، فاِختم له منك بالغفران يا ولي الإحسان)) . كانت قراءته للدعاء متسلسلة ، وئيدة ، واضحة ، نيرة ، أراحت قلب شاكر ، وزرعت التفاؤلَ في نفسيته التي كانت قلقة طوال العشرة أيام الماضية .

وما أنْ غادر أبو حيدر محله ، حتى ترك شاكر مسَّ التفصيل الحاد الدقيق ، وشفرة نصلها الأمامي الرقيقة حتى الاِضمحلال التي تفصل الجلد بعضه عن بعض ، على جانب الطاولة

الخشبية الدائرية ، المنتزعة من جسم شجرة التوت الكبيرة ، ونظَّف حضن القطعة الجلدية التي كان يلبسها قبل عمله ، نافضاً ثوبه من بقايا القطع الجلدية المقصوصة التي ربما تكون قد علقت به ، ومن دون حتى اِستبداله بثوب الخروج من المحل ، والذهاب إلى البيت ، عند نهاية كل يوم عمل . . .

خرج من المحل مسرعاً ، كما هي عادته ، مدققاً بمسار السيارات التي قد تكون قادمة أو رائحة ، في ذلك الطريق المفتوح للمارة والسيارات بصورة فوضوية وغير منتظمة ، بسرعة فائقة عن اللزوم ، قطعَ الشارع بلمح البصر ، ومتجهاً في الآن نفسه إلى الحاج كريم ، الذي وجده مشغولاً مع الزبائن الذين كانوا يتفحصون بعض الأجهزة الكهربائية ، ويلاحظون جوانبها التي قد تكون معوجة ، أو مضروبة عبر اِرتطامها بشيء قاسٍ ، فيما جلس بعض الأصدقاء على الأريكة التي اِصطفت والحائط الأيمن للمحل ، القريبة من الباب الرئيسـي لبناية المحل ، الأريكة التي تبتعد عن مدخل المحل بمسافة تتسع لكرسيين ، لم يرَ شاكر من اللائق التنحي بالحاج كريم جانباً ، ومحادثته بشأن التطورات ، ورأى إخباره عن طريق الحسجة الغامضة عن كل مَـنْ لا يعرف التفاصيل المسبقة ، قائلاً :

ـ لقد نجح الحاج أبو حيدر بالمهمة . لم يزد شاكر أي توضيح بشأن المقصود ، أو يبدي إضافة جملة أخرى على تلك الكلمات .

ـ أجابه الحاج كريم : بالخير والبركة ، وسكت منصرفاً إلى زبائنه .

لم ينتبه أحدٌ ما إلى ما تستبطنه أحاجي الحاج كريم والرادود شاكر ، الذي مضى سريعاً إلى البيت ليبشر أمه بالتطورات ويدعوها إلى الاِستعداد هي وعمته ليوم الثلاثاء القادم ، للذهاب إلى بيت السيد مجيد بمعية أم حيدر ، تركت الأم البيت وذهبت لزيارة مرقد الإمام الحسين ، كان الجو في داخل حضرته عبقاً ، روائح المطيبات والبخور قد طغت على ما عداها من روائح ، الجو دافيء على عكس ما هو كائن في المدينة ، الناس في تدافع كثيف ، كأنهم موجة نهر كبير تختلط بروجة من المياه ، في المكان ذاته تدور ، كان منظر المياه المتصادمة تخلق مغزلاً رفيعاً متجهاً إلى الأسفل ، ساحباً كل الأوساخ التي علقت فوقه ، كانت هذه المياه الخوارة ، المدور ، وكذلك كان يسمونه في تلك المنطقة ، يغرق البشر الضعفاء ممن لا يتقنونَ فن السباحة ، في بعض الأحيان ، حشد من البشـر في ذلك المرقد ، فياضون ملتاعون ، متلاطمون متتابعون متصادمون ، تختلط فيها النساء والرجال ، وكلٌ في نيته القلبية سابحٌ في تخيلاته ، هذا يتوجه بوجد خالص إلى الشباك طالباً الرحمة والمغفرة ، والآخر يلاحق فتاة بسرية تامة ، وثالث يتهيأ لسرقة جيب أحد المغفلين ، ورابع ، كنتَ فيها ، تلحظ مجموعة من الشيوخ الأميين والعجائز الأميات ، وقد اِصطفوا خلف أحد الشباب الذي حمل كتيباً يحتوي نص الزيارات المخصوصة ، وهو يقرأ يصوت عالٍ ، وأفراد المجموعة من بعده ، يرددون الكلمات والجمل والعبارات ، دون فقه معانيها أو وعي مضامينها ، سطور كلها دعاء سادي ((على أمةٍ قتلتك أو شاركت في قتلك)) ، واللعن العشوائي ، كما هو معلوم ، محرم في الشريعة الإسلامية ، وأنهى الرسول محمد عنه بصورة حازمة وحاسمة لا تقبل الشك أو اللبس أو التأويل .

ولكن ظاهرة اللعن ، كما يبدو ، قد تسربت من ثقافات غير عربية وغير إسلامية ، والمظهر الخاص والسـائد يبدي رجالاً اِرتدوا زياً مميزاً ، كما هو زي السيد مجيد بالضبط ، وكلً واحد منهم أخذ له موقعاً ثابتاً ، ممسكاً خيوطا من قماش أخضر ، يعطونها عنوة للزائرين ، لقاء هدية من المال النقدي ، على أنها ((عِلـَقْ)) يطرد الحاسدين عنهم ويبعد الحسد منهم ، وتمثل البركة الحسينية ، عندما يُطوَق فيها معصم الفرد الذي اِبتاعها ، سواء كان المعصم لرجل أو لاِمرأة .في الحقيقة أنَّ تسليم هذه الخرقة الخضراء التي لا تسمن من قريب أو بعيد ، ولا تغني عن الجوع الظاهر على وجوه أغلب الزائرين ، هو تسَـوُلٌ مهذب ، بل هي كدية صريحة وإنْ كانت مقنعة جراء أيديولوجية مذهبية ، يمارسها ذوو البطالة تحت اِدعاءات باطلة ، هي للشعوذة أقرب منها إلى الدين العربي الإسلامي الحنيف ، فقد بارك رسول الإسلام محمد بممارسة العمل المنتج وتشجيع النشاط في التجارة ، وكان هو تاجر عند بلوغ حياته ، مثلما عمل راعٍ للأغنام في مقتبل عمره ، وأكد على مباركة الله للتجارة والنجارة وقلاب الحجارة ، أي التاجـر والعامل والفلاح ، إي شـجع على خوض غمار المهن المنتجة التي كانت مرفوضة قيماً ، مقارنة بالغزو والسـلب وحمل السلاح ، والاِستعداد للقتال ضد الأجانب ، أي ضد كل ما لا ينتمي لقبيلته .

كما حرم على أحفاده أخذ أموال الزكاة ، فكيف أتت هذه العادة عند مَنْ يسمون بـ((السادة الهواشم)) ؟ والدين لا يعرف حتى النقوش ، وذلك في تعليقٍ حاد الذكاء والاِنتقاد الصريح للشيخ القبلي العربي على شخص معمم اِدعى أنه صاحب طريقة صوفية نقشبندية ، . ليس للإنسان إلا ما سعى وعمل ، ذلك هو ما أكده القرآن الكريم .

كانت مهابة الجو المذهبي ، وقدسية الشهيد : الحسين ، والطريقة الملحمية التي قـُتل فيها ، المتوسدة في أذهان الأتباع ، تضفي على أغلب الزائرين الدموع التي تنساب على الوجنات ، والإيحاءات التي تخلفها مناظر المربوطين بشباك الحسين ، لنيل الشفاء المستحيل بسبب أمراض مستعصية ، ولكن اليأس يجعل الناس مضطرين للتمسك بأهداب القشة البسيطة .

كان البعض جالساً يؤدي الصلاة المفروضة أو المستحبة ، والآخر واقفاً بين يدي الإله / الإمام خاشعاً ، والثالث قانتاً داعياً لنيل ما يريد ويبغى ، أما البعض الآخر فقد مسك كتاباً بين يديه وراح يقرأ القرآن الكريم أو أحد كتب الزيارات ، وهي كتب كثيرة وتوزعت على مكاتب مرصوفة في مواقع متعددة من المرقد ، محاذية لصناديق خشبية محمولة على أربعة أطراف ، مفتوحة من الأعلى ولكنها اِمتلأت بأشكال مربعة أو مستطيلة أو دائرية من الطين ، وقد نقش فوقها كتابات قرآنية ، يسمونها التـُرب الحسينية ، التي يعتقدون أنها معجونة بدم شهادة الحسين ، وهي طاهرة ، وهي من خصوصيات هذا المذهب ، وطالما ثارت الخلافات مع الآخرين ، ممن ينتمون إلى بقية المذاهب الإسلامية ، بشأنها .

أدت الحاجة أم شاكر ركعتي شكر لوجه الله ، ودارت دورة كاملة حول القفص الفضي ، وهي تردد كلمات الشكر للإمام ، وتلثم الفضة التي تلتصق على مربعاته المكونة لنقشـه ، المربعات المتشابكة ، من الأسفل ، القريب من الأرض ، إلى السقف الأعلى المتحد بقطعة ذهبية كبيرة ، تعلو القفص كله ، ومن الجوانب الأربعة ، ليست سميكة ولكنها عريضة ومنقوشة ، وموشاة بالمينة الزرقاء ، التي يشبه لونها لون مياه البحر العميقة ، ولكنه من نوع اللون الفاتح والمضيء ، تحيط بذلك القفص ، كانت تلك المربعات ذات التجاويف الفارغة ، تكشف عن هيكل خشبي مستطيل الشكل ، مكعب المستطيلات على وجه التحديد ، تعلوه قطة قماش خضراء ، هي كناية عن الجسد المسَّجى تحت ذلك الهيكل .

ومن فوق القفص تدلت الثريات العملاقة ، المشعة بمصابيح كثيفة العدد ، تطلق الضوء الهائل وترسل الأنوار المضيئة الفياضة ، إلى كل جهات الحضرة الحسينية ، وفي السقف حيث المقرنصات المتدلية من الأعلى ، وقطع المرايا جرى ترتيبها بهندسة محكمة من الزخارف العربية الإسلامية ، خرجت أم شاكر من المرقد عن طريق الباب المواجه لباب قبلة الصحن العملاق ، والساعة الرنانة التي يدق جرسها في كل ربع ساعة ، من ساعات

التوقيت العربي الشرقي ، كان المرقد مفصول عن الصحن ، العريض والواسع والنظيف ، بشباك من النحاس الأصفر النظيف ، الممسوح في كل يوم .

تركت قبلاتها المتعددة على الباب الذهبية ، ومسحت يديها على زجاجها الخارجي ، ولتمررها لاحقاً على وجهها ، مكررة هذا التقليد غير الواعي عدة مرات ، خرجت إلى الكيشوان الذي يحافظ على الأحذية من السرقات أو الاِستبدال ، لقاء اِستلام الحذاء الخاص بكل فرد ، وإعطاؤه رقماً خشبياً يشير إلى موضع إخفاء الأحذية في تجاويف محددة ، مهمتها تقتصر على وضع الأحذية فيها ، مصنوعة من تلاقي اللوح الخشبي الأبيض ، من نوع الجام ، كما يسميه أبناء تلك المدينة ، تمييزا له عن الأنواع الأخرى ، المستوردة أو المحلية ، كان عرض الألواح خمسة عشر سنتمتراً وطولها يصل قرابة مترين ، ثبتت بالمسامير بشكل هندسي ، صانعة منها مربع مستطيلات ، فيما جرى تغطيتها من الأمام : أمام الجمهور المتدفق لزيارة الإمام ، أو الجانب الملتصـق بالحيطان ، بلوح الفيبر الفليني من الخلف ، لبست أم شاكر مداسها ، ومضت مسرعة نحو بيت حماتها ، بعد أنْ أهدت الكيشوان بعض النقود المعدنية ، خمسة فلوس أو عشرة ، لا يُعرف بالضبط ، ولكن ذلك المبلغ كان هو المعتاد ، كسعر لتلك الخدمة .

ذهبت متجهة إلى دار حماتها لتخبرها بالنبأ السعيد ، وتنقل إليها تعليمات شاكر ، علقـَّـت العمة على ذلك التطور ، الحمد لله ، لقد كان عمل الفوّال أي الذي يتعيش على معرفة الفال الحسن من السيء حاسماً وسريعاً ، سأعطيه بقية المبلغ المتفق عليه ، أعطيته نصف دينار كمقدمة ، سأعطيه الدينار ونصف الدينار الباقية ، ولكن أم شاكر أخبرتها بتفاصيل مملة ، عما رواه اِبنها شاكر ، عن المساعي التي بذلها أبو حيدر مع السيد مجيد ، لكن العمّة بقيت على رأيها ، مصرة ، بأنَّ عمل فتاح الفال : أبو كـُفـّاية (وتقرأ بالكاف المعجمة) ، هو الذي أنجز المهمة وحلحل العقدة العسيرة ، وقراءة الفال كانت من المهن الرائجة قبل القضاء عليها ، في أواسط السبعينات ، قسراً وملاحقة ، بترحيل أصـحاب الفال كلهم بمعية الفـُرس الذين لا يملكـون أية أوراق للإقامة الرسـمية في العراق ، وإنْ بات القلق يساور ذهنها ، للإيمان بدور أبو حيدر الاِجتماعي ، أو دور فتاح الفال الذي له القـُدرة على فك الطلاسم العصية على القدرات البشرية ، الذي كان يتخذ ركناً قصياً بالقرب من مرقد الإمام العباس ، خارج الصحن ، مركزاً لممارسة شعوذته المتقنة ، التي غالباً ما تنطلي على السذج والمغفلين ، كون الثقافة الميتافيزيقية هي السائدة ، أما الربط والتراكم والتحليل والتعليل والاِستقراء والاِستنتاج المنطقي ، أي العقلية العلمية ، فليس لها في أذهان الجيل السابق أي موضع ، وكذلك عند أغلبية الجيل الحالي .

لقد أخذ الأرق المليء بالشــكوك ، والموبوء بالظنون ، يوسـوسـان في صدرها ، حول الأخذ بأحد الخيارين ، اللذين كليهما معقولين بالنسبة إليها ، الواقع الاِجتماعي المهيب عند الجميع ، وفتاح الفال الذي له الإطلاع الواسع بعلم الغيب ، كما تعتقد . . .

يوم الثلاثاء كانت المرأتان مستعدتين تمام الاِستعداد ، باِنتظار أوامر شاكر ، لبستا أبهى ما عندها من ملابس محتشمة ، تليق بعمرهما المتقدم ، العصابة والشيلة والنفنوف الأزرق الغامق عند الأولى ، والثوب النيلي الداكن لدى الثانية ، الجواريب الطويلة ، السود والسميكة ، أي غير الشفـّافـة ، تغطي رجليهما من القدم إلى ما تحت الركبة وسط الساق ، كما وضعتا القلادة الذهبية على صدرها ، تحت الشيلة ، ولبستا معاضد الذهب في معصميهما ، والمحابس المخرزة بالعقيق الأحمر الغامق والشذر الأزرق السماوي الداكن غير الشفاف ، المستخرجان من أرض اليمن من أحد جباله الذي كرمه الله تعالى بهذا الكنز كونه أول جبل اِعترف بولاية الإمام علي ، كما تقول الروايات الشيعية ، الخارجة عن نطاق

العقل ، أو بالقرب من مشهد علي بن موسى الرضا المدفون في شرق إيران ، من جبل نيسابور وهي إحدى المدن المجاورة لمحافظة خراسان على وجه الدقة ، ببعض أصابعهما ، فلاحت صفرة الذهب المتباهية مع اللونين الأحمر الداكن للعقيق ، وفص الفيروز السماوي المشهدي ، المستخرج معدنه الحجري من نيسابور ، المدينة التي عـُرفت بمدينة الشاعر عمر الخيام صاحب الرباعيات والمشهور عالمياً ، كانت إحدى معالم الشذر الأصلي ، النيشابوري ، هي اِلتصاق مادة سوداء في باطنه ، فضلاً عن إشعاع لونه الأزرق الفاتح ، لم تنتبها إلى صوت محرك السيارة ، فقد كان ذلك التوقع بعيد الاِحتمال ، ولا يلوح لهما على بال ، إذ كانت المسافة بين بيت الخطيبة وبيت شاكر ليست بعيدة ، ويمكن اِجتيازها مشياً على الأقدام وعبر الدروب المختصرة للمسافات الطويلة ، وفي أية حال أنهما اِعتاداها .

ترجل شاكر من السيارة ، الرائعة المنظر والمتسمة بالنظافة ، سريعاً ، ودلف الزقاق المسقف أعلاه على شكل قوس مثلث ، زاويته الضيقة للأعلى ، فيما يستقر المستقيمان المنفرجان على جدارين قديمين ، كان الزقاق يشكو من الظلام الدائم بسبب اِنحسار ضوء الشمس عنه ، وعدم إشعال المصباح الكهربائي الوحيد ، في نهار اليوم كله ، وهو مجاز طويل يؤدي إلى مسكنه تماماً ، سائراً باِتجاه الدار المستقرة في نهايته ، التي فيها يعيش وعائلته : هو وأمه وأخته ، رأى الباب على شكلٍ موارب ، دخل البيت من دون اِستئذان ، طلب منهما الاِستعجال ، والخروج للشارع العام ، رجع شاكر إلى السيارة سريعاً ليخبر الجالسين فيها عن قدوم أمه وعمته .

في تلك الأثناء كانت المرأتان لا تغلقان الباب خلفهما ، بقفل حديدي قديم محكم ، والمفتاح الحديدي الكبير ، ذو اللون الأسود ، من خلال إدارته المتكررة مع صدور الصوت عنه ، لدخول لسان القفل في المغلاق ، إنما تركاها تتطابق بعضها على بعض ، بسبب تركهما أخت شاكر في البيت ، لقد اِكتفتا برد طلاقتي الباب على بعضهما البعض ، وسارتا باِتجاه الشارع ، مستغربتان عجلة شاكر غير الطبيعية . لم تتمكنا من تفسير تصرفه .

ترجلت أم حيدر ، بقامتها الطويلة والمهيبة ، من السـيارة ، لاِستقبال المرأتين ، وهي ترحـب بالقادمتين ، أهلاً أم شــاكر . . . أهلاً بالحجية ، الله يتمم الفرحة عليكما ، وعلى أمة محمد . . . شـيعة أمير المؤمنين ، وخصوصاً اِبننا شاكر ، تفضلوا في الصدر ، ولكن شاكر فتح الباب الخلفي للسيارة ودعا والدته وعمته لركوب السيارة ، وإشغال المقعد الخلفي ، والجلوس على مقعده / كشنه الوثير ، الأم والعمة راحتا تلهجان بالشكر لخطوتها بالذهاب معهما إلى بيت سيد مجيد ، وفوجئتا بأنَّ أبا حيدر هو مَـنْ يقود السيارة ، عندما نوه العريس المنتظر باِسم أبو حيدر ، قبل أنْ تصعدا السيارة ، قدمتا أبهى ما تجمعا لديهما من كلمات وجمل ، مكررتان الدعاء له بدوام العمر ، ونيله الصـحة والعافية التامتين ، ردَّ أبو حيدر عليهما من دون أنْ ينظر إليهما أبداً ، لا مواجهة ، ولا حتى في المرأة ، بالتحية الشاكرة لهما بالمثل ، أطلق تحياته من دون حرج أو تلكؤ أو تأتأة ، كان بليغاً فصيحاً كما هي عادته .

كانت أم حيدر ترتدي الملابس الكربلائية المحتشمة ولكنها الجديدة ، العباءة الإنكليزية من نوع أم العلمين ، من الدرجة الممتازة ، الطويلة والمكوية جيداً ، وقد تدلت منها البلابل الذهبية ، ذات الأشكال المخروطية الدائرية ، المكونة من مخروطين طرفاها المدببان ، أحدهما يتجه نحو الأرض ، أما الآخر فقد ثـُبِتَ بعناية بصدر العباءة ، فيما اِلتصقت الدائرتان المفتوحتان بعضها بالبعض الآخر ، عن طريق اللحام الدقيق ، بأسلاك الذهب الرفيعة ، والنيران الزرقاء التي يصدرها اللهب الغازي ، بلابل ثلاثة على الجانب الأيمن

والثلاثة الأخـر ، من البلابل الذهبية ، على الجانب الأيسـر ، والبوشـية مرفوعة ومنطبقـة على البويمة أو الجرغد وفق التسمية المحلية ، التي كانت ملفوفة حول الرأس كله ، كان وجهها أبيضٌ ، ومحياها متبسم متهلل على الدوام ، كانت جميلة وبدينة ، ولكن الطول ضيع تلك البدانة ، عيونها واسعة تميل إلى اللون الكستنائي القرنفلي ، وشفتاها مكتنزتان يظللها اللمى والحمرة الخفيفة ، جلس الخمسة في السيارة البيضاء الفارهة ، وقاد أبو حيدر السيارة بهدوء عجيب ، وتأني مدهش ، ودون عجلة ، تهادت السيارة باِتجاه بيت السيد مجيد ، أوصل أبو حيدر النساء الثلاثة قرابة البيت ، وطلب من زوجته الذهاب بمعيتهما إلى هدفهن المرتجى ، طالباً منها تحديد وقت العودة بعد مشاورة أم شاكر والحجية ، قررت الثلاثة أنه بعد ساعتين ونصف الساعة كافيتين للاِنتهاء من اِنجاز المهمة ، وعاد بمعية شاكر ليوصله إلى محله ، في الطريق حفـَّز الحاج أبو حيدر شاكرَ التكلم حول مختلف الأحاديث بشأن التعازي الحسينية ، وعلاقتها مع الأجهزة الأمنية وصعوبة أو سهولة نيل الإجازة بصدد إقامتها ، السماح أو الرفض ، لم يدلِ شاكر برأيه على الوجه الأتم إلا وكانا قد وصلا إلى المحل ، عندما ترجل شاكر من السيارة ، خصوصاً جلوسه إلى جانب أبي حيدر ، حتى تلاطمت أحاديث الجيران حول ذلك المنظر ، حسداً أو فضولاً أو غيبة ً خالية من النميمة .

ألح شاكر على أبي حيدر بضرورة الجلوس للراحة ، وشرب الشاي أو أية مرطبات أخرى ، لكن أبا حيدر وجه الشكر على الدعوة ، متذرعاً بوجود عمل لديه ، لكنه أكد أنه سيعود ليصطحبه في الذهاب لجلب النساء الثلاثة بعد ثلاث ساعات ، ولما نبهه شاكر إلى أنَّ الوقت المحدد ، كان معيناً بساعتين ونصف الساعة ، أجابه أبو حيدر مباشرةً ، ليأخذن المزيد من الوقت للثرثرة فيما بينهن بعد الاِنتهاء من عملهن ، بدا رأيه المطروح ببداهة فورية ، وكأنه كان متخصصاً في معرفة عادات النساء إذا اِلتقينَ بأية مناسبة .

تقدمت أم حيدر المرأتين المتأخرتين ، رغم أنها لا تعرف البيت على وجه الدقة ، عندما وصلت الثلاث إلى باب دار السيد مجيد ، أسرعت أم شاكر لتضغط على الجرس ، كانت أم حميد على اِستعداد تام للاِستجابة الفورية إلى جرس المنبه ، فتحت الباب على مصراعيه ، وهي ترحب بالزائرين ، قالت أم شاكر : تفضلي الحاجة أم حيدر ، أنهى ذلك التلفظ والاِسم ، حيرة أم حميد ، حول عمن تكون هذه المرأة التي تقتحم الدار للمرة الأولى ، فراحت ترحب بها بكلمات تشي بالمزيد من الاِحترام ، لهذه المرأة التي رافقت خطـّابة اِبنتها ، كانت زينب تقف خلف أمها بخجل شديد ، وقد تزينت بملابسها الجديدة ، ربما لبستها للمرة الأولى ، كانت الملابس جميلة جرى خياطتها حديثاً ، ولكن لم تظهر من جسدها سوى العنق والرأس واليدين ، كانت تغطي جسدها كله ، من عاتقها الأعلى إلى قدميهما الأسفل ، اللتين غطتهما جوربان شفافان لا يستران لون بشرة أصابعهما ، كانت قلادة الذهب ذات الليرات العثمانية الصغيرات ، فد اِلتصقت على نهديها البارزين خلف قماش البدلة التي بدت ضيقة أكثر من اللازم ، ربما لإظهار مفاتنها ، وتجسيم قوامها ، لم تنطق بكلمة محددة ، سوى بالرد على التحيات التي غمرتها أم حيدر ، وسلام الأخريات ، وجلس الجميع في غرفة الضيوف ، وبعد أحاديث الترحيب بالزائرين ، نهضت زينب إلى المطبخ لجلب بعض العصائر المهيأة .

ـ إلى أين ذاهبة يا عروستنا ، وكذلك نطقت أم حيدر ؟ .

ـ عندما سمعت زينب ذلك التعبير ((العروسة)) للمرة الأولى في حياتها ، تدفق الدم إلى وجنتيها ، وقد غـدا وجهها قانياً أحمر ، أكان حمرة الخجل وقد اِرتـسـمت على محياها ، الذي تسبب فيه ذلك التدفق ، أو كان ذلك اللون ، أحد مظاهر التهلل الفرح الذي برز في

وجهها ، ولكنه المكتوم بالتأكيد ؟ كونها ستغادر سجن القمع العزوبية المؤقت ، لتصل إلى شواطيء الحرية الجنسية الزوجية ، الذي هو المصير النهائي لكل فتاة هناك ، على أنه غاية المنى ، وأسمى مرامي الحياة ، عند الفتاة وأهلها ، في تلك المدينة المقدسة وفي ذلك البيت ، أيضاً ، المتزمت في تقاليده الإسلامية المذهبية ، لم تستطع الإجابة عن اِستفسار أم حيدر ، وأسرعت الخطى نحو المطبخ . تكفلت أمها بالرد على أم حيدر من خلال قول : إنها ستأتي . . . ستنجز بعض الأعمال في المطبخ .

كانت زينب التي جاءت بصينية مليئة بالعصائر وبعض الأنواع من حلوى الكيك ، تبدو على غير هيأتها السـابقة التي رأتها المرأتان عندما تم رفض الخطوبة الأولى ، فهل كانت تعرف بالأمر ، أم لا ؟ لم تتوقف الأم والعمة عند نوعية الجواب على ذلك السؤال ، لكنهما شاهدتهما اليوم أكثر جمالاً ، وإناقة ً ، وعطراً نسائياً فواحاً ، كان منظرها جميلٌ ، وحشمتها كاملة ، ما خلا شعر الرأس الذي بدا منسدلاً ، وممشطاً بعناية تامة ، فاحم السواد ، مفروقٌ من الوسط بشكل واضح ومنتظم ، وجديلتان مضفورتان وطويلتان ، متينتان وكثيفتان ، تصلان إلى قرابة خصرهما الأوسط ، كانت ممشوقة القوام ، معتدلة الجسـم ، بيضاء وقد ظللت الحمرة الخفيفة وجنتيها ، وبرَّزَ الكحل الأسـود عينيها ، العذبتين . . . الصافيتين ، ذوات السواد المميز في شدة قتامته ، وإيحاء عمقهما ، وجلست بالقرب من أمها ، ساكتة من دون حراك ، قدمت أم حميد التي وضعت الصينية على الأرض المشروب الذي دلـِّق في كأس زجاجي أبيض موشى بخيوط ذهبية ، متوسط الحجم ، من دون تشـوهات ، إلى ضيفاتها ، ثم أتبعت الكؤوس بالصحونٍ البيضاء الجميلة ، وقد اِسـتقرت فوقها قطع الحلوى ، الكيكية ، وهي خالية من أية إضافات سكرية ، أثناء تناول المشروب وأكل قطع الحلوى .

كانت عبارات السلام مع أم حيدر ما تزال تتواصل ، والسؤال عن شاكر وعمله ورزقه وصـحته ، هو الآخر كان حاضراً . أم حيدر اِستفسرت بدورها عن أفراد عائلة السيد مجيد ، واحداً بعد الآخر ، وتوقفت طويلاً عند المحروس الغائب سيد حميد ، مضت ساعة تقريباً ، من دون أنْ يتطرقوا للموضوع الأساس ، الذي جئنَّ من أجله .

وحان وقت الحديث عنه ، بتكليفٍ من أم حميد لاِبنتها بضرورة عمل الشاي وجلبه ، غابت زينب عن الجلسة لمدة ساعة أو أكثر ، كانت تعليمات الأم أنْ لا تأتي اِبنتها إلا بعد سماع ما هو غير مألوف في البيت ، والاِستجابة على النداء الخاص بجلب الشاي ، كان هذا التقليد متعارفاً عليه عند أسر المدينة كلها ، ذهبت زينب ولم تعد ، وإنْ كان ذلك إلى حين ، كانت أم حميد متحفزة للبدء بالموضوع ، ولكن الأصول المدينية المرعية جعلتها باِنتظار كلام الزائرات .

بدأت أم حيدر الكلام بالتنويه عن أخلاق شاكر ، وكلام أبناء المدينة كلهم عن معدنه وأخلاقه واِستقامته ، كلهم يؤكدون أنه ((رايح بدربة وجاي بدربه)) ، فضلاً عن كونه خادم في سبيل جد الفتاة : الإمام الحسين عليه السلام ، وكانت تلك الصفة وحدها جواز مرور كافية لأي شاب في تلك المدينة ، ((صايم مصلي)) ، ((صاحب رزق حلال)) جراء اِمتلاكه المشغل الصغير ، نأمل ، ونتمنى ، أنْ يكون قدم زينب على عتبة رزقه جالباً معه كل الخير ، والربح الوفير .

ـ أجابت أم حميد : إنْ شاء الله .

واصلت أم حيدر الكلام ، بقولها أنها قدمت بمعية أم العريس وعمته على أمل أداء العمل الخيري ، وقبل كل شيء للتعبير عن قناعتنا في الشاب ، رضاؤنا التام عن شاكر الذي هو زينة شباب كربلاء ، نرجو تزويجه من اِبنتكم الفاضلة ، العلوية ، المصون ، زينب ، لا أريد التعريف بالعائلة ، فأنتم وإياها تشتركون بميراث القرابة ، والاِنتساب إلى المدينة

الواحدة ، هو أعزب كما تعلمون ، ومقتدر ، ويبحث عن فتاة تشرفه ، وعائلة تكسبه المزيد من السمعة الحسنة ، جرّاء مصاهرة يشير إليها الجميع ، لقد أغدق أبو حيدر بمعسول الكلام عن أريج عائلتكم الفواح ، وسـمعتها الطيبة التي أطبقت الآفاق ، لم تنزلوا عن لسـانه منذ يوم زيارته لبيتكم ، واِلتقائه السـيد مجيد ، والسماحة والكرم الذي وجده عندكم .

الجماعة جاهزون لكل ما تطلبون من حقٍ للزواج ، بعد موافقتكم ، أنتم تعرفون أنَّ لديه بيت يسكن فيه ، وتسكن معه أمه ، وأخته التي ندعو الله أنْ يعجـِّل بنصيبها ، من اِبن الحلال ، ولديه قطعة أرض في الحي الحسيني الجديد ، نرجو أنْ يبنيها عبر مراكمة أرباحه من عمله ، فهو لا يقبل التعاطي مع القرض العقاري ، لأنَّ فائدته عبارة عن ربا صريح ، والربا في الإسلام حرام ، بلهَ محرم تحريماً مطلقاً .

أضافت أم شاكر ، لقد ذهبتُ بفضل الله وفضل اِبني العام الفائت إلى حج بيت الله الحرام ، أرجو أن تكون زيارته لمكة في الأعوام القادمة بمعية زوجته ، فهو دائم التحدث بهذه الأمنية العزيزة على قلبه . . .

ـ تعرفين ، أم حيدر ، بأنَّ الفتاة هي اِبنتكِ ، ((قبعيها وأخذيها)) ، نحن نشتري لبتنا النسب والسمعة ، وشاكر مما لا يعيبه أي شيء أبداً ، ومجيء أبو حيدر أزال ما علق في قلوبنا من ألم تجربة لا يزال فعلها طرياً في الفم وممضاً في الذاكرة ، الفتاة التي ظـُلمت لم تفعل أي شيء ، لماذا يجري قتلها ؟ أما يخاف الجميع أنْ يكون العِرق دساس ؟ صحيح أنَّ الوزر لا يتحمله غير صاحب الذنب نفسه ، ولكن لعن الله رغبات النفوس التي تأمر بالسوء ، ما قررتموه لاِبنتكم الكبيرة ، قرروه لزينب ، نحن لا نطلب أكثر من المساواة ، هكذا ختمت حديثها أم حميد .

ـ شعرت أم حيدر أنَّ الكرة باتت في ملعبها ، وعليها مناقشة المطروح عليها ، فأجابت : تعلمون ، ولا شك ، أن اِبنتي الكبيرة تزوجت اِبن عمها ، الذي كان بمثابة اِبننا ، لم نكتب عليه حاضراً كبيراً ، قلنا له أثث البيت وخذهاُ ، ولكننا كتبنا الغائب بمبلغ كبير ، بغية ضمان حقها في المستقبل ، كي لا نظلمها عندما تقع أي نازلة على رأسها ، على سبيل الحذر والاِحتياط ليس إلا ، وفي الحقيقة إنَّ أبا حيدر هو الذي قام بتأثيث البيت ، أراد الستر لاِبنته ، كان يقول دائماً ، لحم اِبنتنا تحت ضرسه ، القياس حول اِبنتنا غير نافع لكم ، أشيروا علينا ما تطلبون ، أم شاكر وعمته جاهزتان .

ـ ألف دينار حاضر ، ألفين دينار غائب ، تدرون الدنيا غالية ، وغرفة النوم الجيدة عالية التكاليف ، وأسعار الأقمشة تزداد اِشتعالاً ، عدا أموال النيشان ، التي ينبغي أنْ تكون قلادة وبتوت ستة ، أي معاضد ، ومحبس وبلاك حول المعصم وكلها من الذهب الواحد والعشـرين قيراط ، وكان ذلك العيار هو الأجود ، وسـاعة جيدة وجميلة ، وحفلة خطبة رجاليـة في بيت أبيها ، أو في بيت العريس ، ذلك لا يهم ، المهم أنْ يكون الإشهار معروفاً للجميع .

ـ أرادت الأم أنْ تنطق بكلمة : شـدعوه ، هل تريدون المتاجرة باِبنتكم ؟ ! عندما تدخلت أم حيدر بقولها ، أن صهركم ، هو مَـنْ تكسـبوه ، والمبلغ الذي تطلبوه غير معقول ، رغم اِعتقادنا بأن الفتاة تعادل وزنها ذهباً ، أرجو أم حميد أنْ تراعي وضع الولد من الناحية الاِقتصادية ، الإشهار واجب ، وحفلة الخطوبة ستكون برسم التنفيذ ، والنيشان مرهون بقدرة العريس ، فهو لزوجته أولاً وأخيراً ، ولن يقصِّـر على هذا الصعيد ، الذهب سيجلبه حسب طاقته ، أما المبلغ فنرى تخفيضه إلى النصف ، أي خمسمائة دينار للحاضر وألف دينار للغائب ، فأنتم تعرفون أنَّ شاكر لديه معارف وأصدقاء في جميع المهن ، ويستطيع شراء الغرفة لعروسته بثمن مناسب ، على أن تكون بمواصفات ممتازة .

بعد ردود منفعلة ، سادها التوتر بين الطرفين ، وإثارة مشاكل مفترضة حول العرس ، ومساومات متعددة ، وافقت أم حميد على مبلغ سبعمائة وخمسين ديناراً للحاضر ، وبالقبول بألف ومائتين وخمسين دينار للغائب ، والنيشان حسب الإمكانية والاِستطاعة والطاقة ، كما هو شأن حفلة الخطوبة التي ينبغي لأبي زينب معرفة تفاصيلها ، وله القرار في شأنها .

في نهاية الاِتفاق الذي قبلته أم شاكر على مضض ، كون الإجحاف قد كان من نصيب اِبنها ، اِنطلق صوت الهلاهل من قبل حناجر جميع الحاضرين ، ونادت أم حميد على زينب بإحضار الفاكهة والمرطبات المثلجة ((الدوندرمة)) ، بدلاً من الشاي ، فهمت العروس ما هو مطلوب منها ، كون التعليمات بشأن التصرف القادم قد جرى رسم خطواته ، وتبليغها إليها ، بشكل مسبق ، دلفت الغرفة وفي يديها الصينيتين ، إحداهما للفواكه والأخرى للمرطبات : الدوندرمة أو الآيس باللغة الإنكليزية المصنوعة يدوياً ، وقبل أنْ تضعهما على الأرض ، نهض الجميع وسط هلاهل متواصلة ، لتحيتها بكلمة : مبارك ، ومانحيها القبل على وجنتيها ، وزادتها أم شاكر بطبع قبلة رؤومة على رأسها .

المشية الرجالية

كان شاكر قلقاً ، رغم أنَّ المشية الرجالية هي عمل روتيني ، فرضته التقاليد الاِجتماعية ، تثبيتاً للسلطة البطرياريكية الرجالية ، على شؤون الأسرة كلها ، فتحدث مع صديقه الوفي الحاج كريم عن المستلزمات الأساسية لذهاب الوفد إلى بيت سيد مجيد ، تكفل الحاج أبو حيدر بما يجب توفره في مثل هذه الأحوال ، سأل الحاج كريم صديقه شاكر عما إذا كان قد أبلغ وجهاء أقاربه للذهاب في المشية ، فأجاب بالنفي ، موضحاً انه لم يخبر أحداً منذ أنْ أسفرت زيارة النساء الإيجابية إلى بيت السيد مجيد ، ونيل الموافقة منهم على الخطوبة ، ومهاتفته أبو حيدر حول الموضوع ، لتلقي توجيهاته ، باِعتباره صاحب وجهة نظر ثاقبة ، ويعرف الصغيرة والكبيرة في مثل هذه الحالات . أنت أول واحد أستشيره ، هكذا قال شاكر .

أوضح الحاج كريم وجهة نظره ، بعد لآي من التفكير ، وفترة غير طويلة من الإطراق ، باديء ذي بدء ، أخبـِرْ أعمامك وأخوالك بالتطورات ، والطلب منهم لمساعدتك في الخطبة لزيادة وزنك الاِجتماعي ، ربما يعتبون على عدم إخبارهم بالموضوع ، قبل غيرهم ، أخبرهم بالقصة كلها ، من الرفض إلى القبول .

كان الرفض بالنسبة لي كارثة ، هكذا اِخبرهم ، وقلْ لهم : لقد خجلت تماماً من ذكرها لأحد ما ، أياً كان هذا الواحد ، لأني أساساً كنت لا أقدِر على تفسير السؤال : لماذا ؟ ناهيك عن الجواب الشافي عنه ، أرجو قبول اِعتذاري عن كل تقصير . المهم بالنسبة لي ذهابكم معي إلى بيت السيد مجيد لأنكم عزوتي في المدينة ، وعند عائلة السيد مجيد كذلك ، أبناؤكم الكبار ينبغي أنْ يذهبوا معي ، مَنْ ترونه مناسباً للقيام بهذه المهمة آمل إبلاغه ، عشرة أشخاص منكم يكفي ضمن المشية . سيتكفل أبو حيدر ببعض وجهاء المدينة ، سأقوم أنا بدعوة بعض خطباء المنبر الحسيني والوجوه الحسينية ، وكذلك وجهاء المهنة التي أشتغل فيها ، كي يرافقونا ، الحاج كريم سيسأل بعض المشايخ في المذهب والسادة الهاشميين والعلماء الأعلام لمرافقتنا .

وأضاف الحاج كريم قائلا : إن المشية يجب أن تضم بعض رجال المدينة من الوزن النوعي والمعروف ، كي يزداد ثقل المشية وتبرز أهميتها ، وتكبر أنت في عيون أصهارك ، وكذلك ، أمام أقاربهم الخلـَّص ومعارفهم الأقرب .

تحددت يوم المشية بعد شهر من ذلك الحدث الحاسم بالنسبة لشاكر ، كان جميع المعنيين بتهيئة جميع المدعوين للمشية الرجالية ، وطلب يد الفتاة من أبيها ، يتشاورون فيما بينهم حول هذا المختار من الأشخاص ، أو ذاك الشخص المناسب لهذه المهمة ، كانت مجريات تلك الأمور في تلك المدينة الحرفية تتطلب وجوه أهل المدينة ، فقط من بعض الدرجات الاِجتماعية ، من عَلـِّيَة القوم على وجه التحديد ، على العكس مما يحدث في الأرياف أو بعض المدن الواقعة تحت نفوذ التقاليد العشائرية . هناك شيخ السلف والعشيرة يتكفل في هكذا أمور ، من خلال هيمنته على الأقارب كلهم ، وله القول الفصل في كل الأمور .

يأمر ويطاع ، وليس لآخر أي قولٍ فصل آخر ، أو اِقتراح مناويء لإرادة الشيخ ، أو وجهة نظر مخالفة ، بما فيهم أهل الفتاة ، ناهيك عنها .

جرى الاِتفاق على أسماء الأشخاص بين الحاج أبو حيدر والحاج كريم والعريس المنتظر شاكر ، وتم الاِتفاق على موعد محدد : هو يوم الخميس الأول من شهر آذار من عام 1968 موعداً لذهاب المشية إلى بيت السيد مجيد ، في الساعة السابعة والنصف ، كما اِتفق أنْ يكون مكان التجمع في مقاهي : قهوة السيد غايب ، في العباسة الغربية ، يتكفل أبو حيدر بجلبهم في الموعد المحدد ، قهوة نجم عبد دواس في باب السلالمة ، سيكون شاكر باِنتظارهم كي يصاحبهم إلى بيت والد العروسة في الوقت المحدد ، والمجموعة الثالثة ستلتقي بالحاج كريم الذي سينتظرها في قهوة حسين العليوي بباب بغداد ، ستلتقي المجموعات الثلاث قبل عشر دقائق من الموعد المقرر بالقرب من بيت السيد مجيد . أعطيت المواعيد للتجمع في المقاهي بين السادسة والسابعة ، والمسافة بينها وبين البيت الذي سيستقبل المشية الرجالية ، مختلفة من حيث التعاقب الزمني ، لا يتجاوز الوقت خلالها أكثر من ثلاثة أرباع السـاعة في مقهى سيد غايب مشياً على الأقدام ، على أبعد التقديرات ، وأقربها لا يستغرق أكثر ربع ساعة : مقهى نجم عبد دواس ، فيما المسافة بين مقهى حسين العليوي وبيت العروس تتطلب نصف ساعة من السير على الأرجل . سيتهيأ المجموع بالقرب من جامع الشيخ خلف المجاور لبيت السيد مجيد في الساعة السابعة والثلث .

عندما تدفق رجال المشية من الجهات الثلاث التي قدموا منها ، باِتجاه جامع الشيخ خلف الشهير ، كان مكان التجمع ملفتاً للنظر ، تجمع أطفال المحلة وهم مرتابون من ذلك التجمهر الغريب ، مستفهمين عن الأسباب جعلت هؤلاء الرجال الكبار يتلملمون ، ومتوقفين في الآن ذاته عن مواصلة لعبهم المعتاد ، وراحت عيون أبناء المنطقة : سواء من الذين كانوا يجلسون في محلاتهم أو ممن تصادف تخطيهم ، ذهاباً أو إياباً ، ذلك الأثر التاريخي : الجامع ، يراقبون ذلك المنظر غير المألوف بالنسبة إليهم .

كان جميع أفراد المشية عند التلاقي يتبادلون التحيات بصوتٍ عالٍ ، وكأنهم لم ير بعضهم بعضاً منذ دهور ، عند اِكتمال المدعوين ، سار الجميع نحو بيت السيد مجيد ، تدافعوا من أجل تفضيل مَـنْ يسير أولاً ، تفضل سيدنا أولاً ، والآخر يدعو ذلك الشيخ للتقدم أمامه ، الجميع يدافع بعضهم بعضاً للتقدم عليه ، وفي النهاية تقدم الوفد العديد من أفراد المجموع وساروا باِتجاه واحد ، كانت الساعة السابعة والنصف قد أزفت ، عندما وصلوا لباب الدار ، تهلل وجه السيد مجيد ، كما تهللت وجوه أخوته وأبنائه وأقاربه ، بموجة الوفد ذوي القيم المعنوية الرفيعة في المجتمع ، وعدّوه تكريماً للعائلة ، وحسب ملاحظة أحد أعضاء عائلة السيد مجيد أنه : لم تشهد منطقتهم مثل هذه المشية أبداً .

اِكتظ فناء الدار بالضيوف ، وجُلِبت كراسي إضافية كي يستكمل الحضور جلوسهم ، اِمتزجت أصوات قناني الأورنج التي قدمها اِثنان من المعنيين في أداء هذه المهمة ،

بأصوات السلام والترحيب بين القادمين والمستقبلين ، وكأنَّ الجميع يعرف الجميع ، وطالما جالسه وحادثه ، وليس رآه فقط ، أو ناداه وتسامر معه سـابقاً ، وفي أعقاب تواري كلمات التهليل والترحيب بالضـيوف ، تحادث مَنْ تناول المرطِـبات على الرغم من برودة الجو ، كون آذار : أبو الهزائز والأمطار ، كما يتداول أبناء المدينة توصيفاً للأنواء الجوية في ذلك الشهر ، عِبْرَ ذلك المثل دائماً ، تعليقاً على طبيعة ذلك الجو ، أخذ الجميع يحادث مَنْ جلس بجواره ، بصوتٍ أقرب منه إلى الهمس ، عن شتى الموضوعات التي تفرضها المرحلة أو الشؤون التي يرتئيها أبناء المدينة هي الهامة .

كان تراصف الجالسين في فناء ذلك البيت الشرقي الذي جرى تغطية سقفه الأعلى بالقماش ، على سبيل الاِحتياط والحذر المسبق ، من مطرٍ قد يتساقط على شكل وابلٍ مدرار ، من النوع الذي يسميه أبناء العراق ((الجتري السميك)) كي يمنع المطر المحتمل نزوله ، فيربك جلسة المدعوين ويبللهم ، ويخرب السجاد المفروش على أرضية البيت الشرقي ، قد بَينَّ بوضوح صورة مصغرة عن أزياء المجتمع الكربلائي ، ففيهم مَنْ اِعتمر الملابس الشبيهة بملابس أبو حيدر ، أي العقال واليشماغ والصاية ، وآخرون وضعوا على أجسادهم الملابس المماثلة لملابس السيد مجيد ، وزادوا عليها عباءات ملازمة لها ، تكون ضرورية الاِرتداء في مثل هذه المناسبات ، وكانت هيأة المجموعة الثالثة قد جاءت والملابس الأوروبية مظهرها الرئيس ، وكان قد برز من بين الجالسين رجالٌ كبار السن ، تركوا لحاهم مسـترسـلة حتى الصدر أو جرى تهذيبها ، ووضعوا فوق رؤوسهم عمائم بيض أو سود ، كانوا صامتين لا يتحدثون بقيراطٍ من الكلام .

كان البعض يتمتم بلسـانه وفي ذاته ، والآخر ينتظر أنْ يؤدي المهمة ، المطلوبة منه ، على مضض ، لم يشرب أيٌ منهم الشراب المقدم إليه ، فمنهم مَنْ رفضه بحجة أنه أخذ قسطاً من الدواء ، فيما وضعه القسم الثاني على الأرض وإلى جانبه ، بتؤدة وتمهل من أجل أن لا تقع القنينة وينسكب العصير .

في الثامنة مساءً صمت الجميع وكأنهم على اِتفاق مشترك ، وساد هدوء عجيب كل الجلسة ، لم يكسره أحد سوى صوت أحد شيوخ المذهب ، وهو الأكبر سناً من بينهم ، الذي راح يتلو آيات من الذكر الحكيم ، مناشداً الجميع ، في ختام تلك القراءة ، قراءة سورة الفاتحة التي تقول : ((بسم الله الرحمن الرحيم : الحمد لله رب العالمين . . . إلخ)) وهي فاتحة كتاب الله المجيد : القرآن الكريم ، كان الجميع بعد الإجابة على طلبه ، وبدأت الأيدي يمسح بعضها بعضاً ، وتمرر على الوجوه ، من الأعلى نحو الأسفل ، يتوقع أنْ يواصل الشيخ المسِّـن حديثه ، لكنه سكت وأطرق لازماً الصمت ، كونه لا يفقه تقاليد المجتمع في مثل هذه الحالات ، كما يبدو ، كان أسير النصوص الدينية ، وليس ما فيها النصوص الدينية عن ((ملجة الشاب)) كي يقرأ المطلوب منه على السامعين ، ويسأل الفتاة عن رأيها أو يخاطب وكيلها .

كان أكثرهم قلقاً على ورود ذلك الحديث شاكر ، الذي جلس صامتاً وقد اِرتدى ذات الحُلة الأوروبية التي كان يرتديها في المناسبات الخاصة ، وطالت فترة الاِنتظار التي لم يخدش حياءها ، علا صوت سيد مجيد الذي عاود ترحيبه بالجالسين الضيوف ، خاصاً العريس المنتظر شاكر بتحية موجهة إليه بالاِسم ، التي ردَّ عليها والدم صعد فجأة إلى وجهه ، محولاً القلق إلى حمرةٍ من الخجل ، كونها تحية غير متوقعة ، بالنسبة إليه أبداً ، ليس لكونه يتقابلان للمرة الأولى فقط ، بل والأهم إلى من ذلك ، أنَّ التحية بالنسبة إليه تعني الموافقة المسبقة .

هو تأكيد لا شك فيه . وراحت أحاسيسه تسبح في الفرح الوهاج ، اِستغل أبو حيدر تلك الحادثة التي اِنطوت على التحية ليبدأ حديثة بالقول :

والله يا أبو حميد ، بعد إذن الحاضرين وعلى رأسهم الشيوخ الأعلام ، الذي اِفتتح أكبرهم معرفة وسـناً ، الشيخ عبد الحسـن سيبويه ، مجلسنا بآيٍ من الذكر الحكيم ، أود مخاطبتكم بما خاطب به النبي محمد صهره ، إمامنا وجدك الإمام على اِبن أبي طالب ، . . . . . . . ، لقد حضر وجوه أهل أسرة شاكر ، والشخوص الأكرمين من أهل كربلاء ، من أجل زيادة اللحمة بين أهالي المدينة الكرام ، وتوطيد تماسك عائلاتها ، وإنْ كنتم الأعرف منا بمعدن شاكر ومنبته ، وكريم أسرته وعشيرته ، وأخلاقه وقدرته المالية ، وطبيعة عمله ، ودوره في خدمة المجالس الحسينية ، فقد جئنا إليكم ملبين رغبته بالتقرب منكم ، ومصاهرته لكم .

فشاكر عند كل الجالسين ، وهم ممن يمتلكون العقول الراجحة ، والآراء السديدة ، والمواقع الاِجتماعية الرشـيدة ، يرون فيه الرجل الكفء لكم ، فهو يؤدي فروض الله كلها ، وندعو العلي القدير أن يطعمهما : وهو وزوجته القادمة الحج المشترك لبيت الله الحرام ، وهو ، كذلك ، لا يتعاطى أي أشياء نهى الدين والعُـرف والمجتمع عنها ، لا يدخن ولا يجلس في المقاهي ، ليس لديه كبيرة أو صغيرة ، من تلك السجايا التي تغضب الله ورسوله والأئمة عليهم السلام ، وتغضب ـ كذلك ـ المؤمنين كلهم ، في هذه المدينة ، لذا فإنهم سيتكفلون مسألة الحرص على مستقبل اِبنتكم بردعه فيما إذا بدر منه بما لا ترضونه ، وكلنا جاهزين لما تطلبون ، في حال نيل موافقتكم على تكريمنا بشرف مصاهرتكم لاِبننا ، وفي الحقيقة ، هو اِبنكم أيضاً ، شاكر ، ونحن باِنتظار سماع كلمتكم .

كان سيد مجيد يستمع لكلام الحاج أبو حيدر بكل جوارحه ، وبدأ كلامه بالإعراب عن شكره العميق لهذا التكريم من قبل كل الضيوف الوجهاء الذين قدموا إلى بيته ، وخص بالحديث شيوخ المذهب الذين تجشموا عناء القدوم بمعية الوفد ، معتذراً لهم على هذا العناء ، أتعبناكم مولانا ، سوينة زحمة عليكم ، أخذنا من وقتكم الثمين ، أنتم تعرفون أنَّ اِبني الكبير لم يستطع الحصول على إجازة من وحدته العسكرية كي يكون حاضراً معنا ، لكنه بارك قرارنا ، أنتم بمجيئكم تستطيعون التصرف باِبنتكم ، اِبنتي .

الحاج أبو حيدر أنت المرجع عندنا وعندهم ، ما تقرره أنت ، نقبل به نحن ، على بركة الله ، هاتوا واجبات الزيارة ، تقدم بعض الشباب بأطباق صغيرة ضمت بعض الحلوى من الصنع المحلي ، بقلاوة الحاج كاظم وحلاوة البامية ، وقطعة صغيرة من الحلاوة الطحينية ذات النكهة الطيبة ، والراقية الصنع ، أكلها الجميع بسرعات متفاوتة ، ما خلا شيوخ المذهب الذين وقفوا مستأذنين الذهاب ، بدعوى أنَّ لديهم اِلتزامات أخرى ، باركوا قبل ذهابهم شاكر عرسه القادم الذي دعوا أنْ يجعله الله مباركاً ، طيباً ، كي يكمل نصف دينه ، ورجوه أنْ يكون باراً بالمخلوق الضعيف ، الضلع القاصر ، الذي سيكرم الله مَنْ يكرمها ، كما ألقوا بتحياتهم المؤدبة على الأب السيد مجيد شاكرين موقفه الأريحي ، ووجهوا تحياتهم ، كذلك ، على أخوته وأبنائه وأقاربه ، قبل مغادرتهم البيت ، كلاً إلى غايته .

بعد الاِنتهاء من تناول الحلويات ، دار شبان يحملون صينية المياه التي جرى تعبئة كؤوسها الزجاجية بالماء الرقراق ، ليتقدم في أعقابهما رجلاً لبس الصاية والعقال والحذاء الأسود ليعطي كل عضوٍ من أعضاء الوفد فنجاناً من القهوة ، يدلقها من الدلة النحاسية الصفراء ، كان الوقت يتآكل حتى إقترب من منتصف الليل ، عندها تهيأوا للمغادرة نحو بيوتهم ، فيما ظل أهل السيد مجيد وأقاربه وأصدقائه يرتبون البيت لإعادته إلى وضعه السابق ، الإعتيادي .  منتصف كانون الأول 2005.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظات للمستفهمين :

عن معاني بعض الكلمات العراقية المحلية التي كانت تستعمل في تلك المدينة ، التي ينظر إليها المجتمع العراقي على أنها مقدسة ، لذا كانت تضم خليطاً متنوعاً من الغرباء والأجانب لأسباب مذهبية ، مما تترك آثارها اللغوية الوافدة على مجتمع مركز تلك المدينة ، وليس ريفها النشيط الواسع ، والقصة هذه تروي على العموم الحالة الإجتماعية التي التي تجسد وعيه للمرحلة تلك .

[1] ـ الجاكيت والدشداشة والنعال ، هو الزي الشعبي الأساسي في العراق ، وخصوصاً عند أبناء الشعب العربي ، من شمال نينوى وحتى الجنوب الأقصى للبصرة خلال تلك المرحلة التاريخية ، ولعب المناخ الجاف الحار بعض الدور في فرز هذا الزي . السنكين هو الشاي المختمر على نار هادئة ، والكثيف المحتوي ، والقاتم اللون . الخوارج والإثنا عشرية فرق إسلامية ، أفرزت الأولى أدباً عنيفاً وغاضباً ، والثانية أنشأت أدباً مترجياً متوسلاً مستعطفاً ، القراءة الحصرية نسبة لقراءة الشيخ محمود خليل الحصري الذي كان يتلو القرآن بطريقة جميلة ورائعة . كباب العروق ، أكلة شعبية عراقية تتكون من اِمتزاج اللحم المفروم والطحين والبصل المفروم والكرفس المفروم الناعم ، إضافة إلى بعض الملح وبعض البهارات القليلة ، والمقلي بالزيت بعد عجن مكوناته .

[2] ـ الصفنات والدالغات : كلمتان تدلان على الشرود الذهني ، وعمق التفكير ، لدرجة نسيان الذات عن المحيطين حولها ، والاٍنشغال بشجونها الخاصة ، عن التفكير بشؤون الآخرين ، وهي تتجسد في أوقات الأزمات النفسية الصعبة ، عند أي فرد .

[3] ـ عصفورية : طريقة للبس الكوفية تترك نهاياتها مكورة وملمومة ومخفية ومستقرة على خلفية الرأس ، لكن منظرها في نهاية الترتيب والتصفيف بارز للعيان .

[4] ـ الويهلية : كلمة تدل على عملية نثر حبات الحلوى على رأس المحتفى به ، تترافق مع الهلاهل التي تزغرد بها النسوة ، وربما تحتوي على نقود معدنية عندما يكون المحتفى به غنياً جداً أو عزيزاً متميزاً . اللوكسات أدوات يدوية تعكس ضياءً وهاجاً كانت شائعة الإستعمال في ذلك الزمان بالعراق ، يتضاعف ضوؤها مع إزدياد الهواء المحقون فيها .

[5] ـ الحفـّافة : المرأة التي تمتهن تزيين الفتيات اللائي خطِبنَّ للزواج ، قبيل أنْ يتزوجن ، لقاء أجور غير معينة تسمى هدية ، كونها تقوم بعمل خيري ، على ما يزعمون ، مقابل عملها الذي قد يستمر يوماً أو أكثر ، والهدية غير مكشوفة ، وكذلك لم يحدد ثمنها أو سعرها .

[6] ـ الديرم : قشرة ثمرة الجوزة الواحدة قبيل تصلبها أو بعد تصلبها ، والتي كانت تستعمل للتزيين ، مكان أحمر الشفاه المنتشرة واسعاً في هذه الأيام ، من خلال الاِمتصاص المتكرر للقشرة التي تيبست لاحقاً ، وسقطت من الثمرة ، وتمرير اللعاب على الشـفاه ، ومصَّها أيضاً بقوة مضاعفة ، حتى تغدو الشـفاه ملونة تميل إلى الحُمرة الداكنة ، وكان التجميل مقصوراً على الفتيات المتزوجات أو اللائي يهيئن للزواج . وهي كلمة تركية على ما أظن . وتلك القشرة كانت تباع عند العطارين ، عموم العطارين .

[7] ـ أصابع العروس : حلوى رفيعة يبلغ طولها ما بين ثلاثة سنتيمترات أو أربعة ، سـكرية المذاق ، حلوة ، تتكون من ثلاثة أقسام ملونات هي الأحمر والأزرق والأبيض . كانت مشـهورة في العراق ، وهي من فصيلة حلوى الكركري وعنبر الورد [نوعان من الحلوى الشـعبية والملونة أيضاً] المشـهورتين في غابر الزمان ، والثلاثة اِختفت من الأسواق الآن ، وغابت عن التداول ، بعد تدفق الحلويات الأطيب مذاقاً ، واِرتفاع مستوى معيشة العراقيين .

[8] ـ المشموس والخستاوي المنصف : أنواع من التمور ، الأول لما ينضج بعد ، وهو يقتصر على نوع الأشرسي في مرحلته الخضراء ، أي الفج وغير الناضج ، بوضعه في كيس من القنب المبلل بالماء وتعريضه إلى أشعة الشمس المحرقة التي تتجاوز درجاتها الخمسة والأربعين ، حتى يصلح للأكل ، ويكون موسمه قبل القطاف لمختلف أنواع التمور . أما الثاني : الخستاوي المنصف ، فنصفه غير ناضج والنصف الأخر ناضج ، ويتميز باللونين الأصفر المرتبط بشرموخ العذق ، من الجهة العليا ، والكستنائي الفاتح المتدلي نحو الأرض . طيب المذاق .

[9] ـ ((دكة محيسن)) ، صنف من السلاح الأبيض ، كان نصله يحمل ختم دائري بالقرب من قبضة الخنجر ، ويشير إلى الصناعة الخاصة به ، وكان هذا النوع هو الأجود والأكثر رشاقة ًوالأحلى ، وقبالة هذه الصناعة ، كانت خناجر ((دكة عطية)) ، النوع الأخر من الخناجر ، وهي رديئة قياسـاً إلى نوعية دكة محيسن ، وتتميز بالقبح وعدم الرشـاقة ، لذا فهي أقل سعراً ، ولكن كلاهما يؤديان نفس العمل . الجيثوم هو الاِسم المحلي الدارج ، في بعض المناطق العراقية ، للتعبير عن الكابوس الشديد الوطأة ، الذي يأخذ بتلابيب المصابين به أثناء النوم .

[10] ـ البسـتايجي والرادود الحسـيني : مفهومان محليان يعبران عن مهنة بطل القصة شاكر ، واللتان تدران عليه دخلاً جيداً ومبلغاً محترماً ، وفق مقاييس تلك الفترة .

[11] ـ سفيدة ، جندة ، كلمات قارسية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نـُبذة عن الكاتب :

1 ـ باقر الصراف . مولود في يوم 1 / 7 / عام 1946 ، هكذا تقول السجلات ، إذ أنَّ أغلب فقراء العراق مولودين في 1 / 7 من كل عام ، بسبب التسجيل لكل مَـنْ جاء إلى هذا العالم ـ من قبل المستعمرين السياسيين البريطانيين الذين كانوا يتحكمـون بالعراق في تلك الأيام ـ في ذلك اليوم ، والتسـجيل لأول مرة ، جرى في العام 1947 . ولم يكن الأمر عليه بعد ذلك التاريخ بشكل مطلق ، كان ذلك هو حال بعض المدن العراقية غالباً . أما مناطق الأرياف فلم تعرف التسجيل الكامل إلا بعد اِنزياح سلطة الشيوخ والإقطاعيين عنها في العام 1958 ، وبعضهم ممن يعيشون بالقرب من مشارف المدن ، الذين يتميزون بالغني النسبي على العموم ، قد تم تسجيل أفراده في العام 1957 على وجه التحديد ، وكان تسجيل باقر من بينهم .

2 ـ أكمل دراسته في كربلاء ، التي وُلِد فيها ، وعاش بين أكنافها ، وليعين موظفاً في مرحلة تالية ، بمحافظتي المثنى والقادسية ، البعيدتين عن مسـقط رأسـه ، وليقضي مدة خدمته الأطول في صحارى المحافظة الثانية ، قبل أنْ يرحل إلى الخارج ويعمل في الصحافة ومجالات الكتابة البحثية ، منذ أواخر العام 1979 وللآن .

3 ـ له عشرات الكتب عن العراق والوضع العربي ، طـُبع بعضها ، ومئات المقالات التي تتابع أحداث العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأحواز (عربستان) : المنطقة التي اِغتصبتها إيران في العام 1925 ، والعولمة الأمريكية ، بالإضافة إلى محاولات قصصية عديدة ، منشورة أو غير منشورة .

4 ـ يقيم في هولندا منذ أواخر العام 1996 . خرج من العراق منذ شهر آب في العام 1979 .

5 ـ يسكن حالياً في العاصمة الهولندية : أمستردام .

أحدث المقالات