يوم كانت هناك حرب بين الحكومة والاكراد في ستينيات وسبيعينات القرن الماضي ، أتت النعوش الى ليل الناصرية بصمت وخلسة ، واغلب الضحايا كانوا نتاج طلقة برنو في الرأس.
ربما حرب الشمال هي اكثر الحروب في العالم من كان ضحاياها جراء رصاص البنادق ، حيث تكاد أن تُشلَ قدرة المدافع والهاونات في الحروب الجبلية .
كنا أطفالا حيث كان يصل يصلنا صراخ النسوة فنسيقظ ونحن نعرف أن البكاء هو من اجل جار في شارعنا أتوا به مقتولا هو جندي في الشمال .
وأين الشمال ؟
لانعرف . الذي نعرفه أنهم اتوا به بنعش وأن النحيب سيبقى لأيام . وكان بعض الاطفال بسبب فطرته وبراءته وعقله الصغير يفرح لأنه سيأكل اللحم والتمن في مأتم الجيران على ولدهم طوال تلك الايام الثلاث .
كان لون النعوش ابيضا ، واظن انها كانت من شجر البلوط ، وكانت تلفُ بعلم العراق ولا يأت معها سوى المأمور وسائق سيارة الأجرة وشهادة الوفاة .
فالدولة في ذلك الوقت لاتعوض الضحايا بشيء سوى قناعتها أن هذا الجندي المكلف والاحتياط مات جراء الواجب . وكان الاهل يفكرون بمصيبتهم ولايفكرون بأي تعويض.
لهذا كان بكاء الامهات يحمل حرقة عجيبة وموسيقى هائلة من الحزن ، ليحمل الليل ذلك النحيب المسكور الظهر من اطراف محلة الشرقية الى اخر بيت في محلة الادارة المحلية . ومن بساتين اسديناوية الى آخر نخلة في بساتين شيرون.
ذلك البكاء ليس له المقارن الحقيقي في موسيقى دموعه الهاطلة على خدود مداماة من خراميش اظافر العويل سوى بكاء الام لحظة ترى الحقائب تستعد للسفر البعيد.
بين دمعة السفر ودمعة النعش فضاء من الشوق اسمه ( الناصرية ) يغرينا بحنين الى كل الذكريات التي منحت لنا تلك الخواطر والاحلام وامكنة كانت لنا فيها فنادقا ، وكمبات لجوء ، ومطاعم شاورمه ، وقطارات مدن نتيه فيها ، ليس لأننا غرباء فقط ، بل لاننا من دون حضن اسمه الناصرية ، ومن دون ظل ام يهمس ( أسم الله ) حين نعثر في السلالم الكهربائية ونحن نحمل حقائبنا الثقيلة.قصة الحرب هي تقريبا قصة كل بيت في الناصرية ، ولانها بلد المليون عريف ، فلربما في تعداد ضحايا حروبها منذ زمن أور والى اليوم يكون قد وصل المليون. وعبر امتداد كل تلك الازمنة يتشكل وجه المدينة في تلوين غريب لايحمل سوى صورة الطين والنخيل ال