23 ديسمبر، 2024 9:12 ص

{إستذكارا لدماء الشهداء التي ستظل تنزف الى يوم القيامة، من أجساد طرية في اللحود، تفخر بها أرواح خالدة في جنات النعيم، أنشر موسوعة “دماء لن تجف” في حلقات متتابعة، تؤرخ لسيرة مجموعة الابطال الذين واجهوا الطاغية المقبور صدام حسين، ونالوا في معتقلاته، خير الحسنيين.. الشهادة بين يدي الله، على أمل ضمها بين دفتي كتاب، في قابل الايام.. إن شاء الله}
تعودت أمل الربيعي، إقتيادها، الى معتقلات الأمن العامة، متوقعة الموت، من توقيف الى سجن، قائلة: “‏هذه المرّة سيقتلونني، ولا أعتقد أنّي سأعود” محتسبة الدنيا، التي تتمسك بها كي تواصل الجهاد ضد سلطة الطاغية المقبور صدام وحزبه “البعث” الجائر، مع توقها الى الحلول في رحاب رب كريم.
يومها ودَّعتِ بغداد من وراء النافذة.. شتاءً كئيبا، تتأمل من خلاله شأبيب مطر تفترضه على زجاج السيارة، وقد عصبت عيناها بغمامة خشنة الملمس، تجرح موضعها من الوجه.
قهرت آلات التعذيب، التي إشتراها صدام، بمبالغ طائلة، تكفي لسد رمق شعب جائع، وتحت أديم أرضه ثروات يتناهبها الطغاة.. سطرت أمل قصة رصينة التداعيات، في قافلة من خيرة فتيات العراق ونسائه تصدَّينَ للظلم بعزم واعٍ.. حتى الرمق الأخير، الذي نلن بعده وسام الشهادة شرفا.
 
غادة
تتصف الشهيدة بجمال ذي رقة ربانية أستدقها الملاك الحارس؛ فهي سمراء متوسطة الطول مياسة القوام، ما زالت  تخطر.. حتى هذه اللحظة.. في إثنين وعشرين ربيعا.. وديعة مُحصّنة الأخلاق ، غاية في الأدب، تطرز تواضعها الانساني الرفيع، بمسحة إبتسامة لا تفارق محياها، تعي أن “مداراة الناس نصف الإيمان” لذا فهي محبوبة من الجميع، حلوة المعشر، ينشدّ لها جلساؤها متعلقين بأدبها الجم وحديثها السلس وأريحيتها الغامرة.
تحف بها عقول وقلوبَ الأخوات في سجن‏ “الرشاد” مأسورات بنقاء روحها وطيب سريرتها كالبلّور.. شفّافة مثل فراشة تعانق الورود.
على الرُغم سعة ثقافتها، تنصت للآخرين بإحترام وقور، مع قلّة كلام.. إذا قالت إختصرت، من دون ان تهدأ فورة نشاط زاخر بالعطاء.. “كونوا دُعاة للناس بغير ألسِنتكم”.
 
سيرة
ولدت الشهيدة الربيعي في مدينة “الثورة” وتخرّجت في الجامعة، لتعمل مدرّسة.. تقدّم لخطبتها أحد أبطال الجهاد، وعُقد قرانهما، وبينما يهيئان إحتياجات عُش‏ الزوجية، اعتقلا معاً، وأنقطعت أخبارهما عن بعض.. لكن تبين في مابعد، أنه أستُشهد قبل إعدامها بشهرٍ واحدٍ.
 
تهمة
عانت تعذيبا مريعا، في سجن “الرشاد” بتهمة تعبئة الناس وإستنهاض الهمم، ضد السلطة البعثية الجائرة، متكاثفة بشخص الطاغية صدام.. “وهُدوا الى‏ الطيّب من القول…” متفقّدةً عوائل الشهداء والمعتقلين، تكفل جانبا من سد ضيق المعيشة، فالإيمان ما صدَّقته الأعمال.
تكتب وتوزّع المنشورات الثورية التي تُدين جريمة النظام باعدام الشهيدين.. آية الله محمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى (قدس سراهما الشريفان).
 
تحقيق
جلاد التحقيق.. المجرم.. المقدّم مهدي الدليمي.. أبو هبة، تسلمهما معتقلين، هي وخطيبها العام 1982 من قبل أزلام أمن “الثورة” بتهمة الإنتماء الى‏ خط “الصدر”.
اعتقلوا معهما أُختها سُندس، التي حُكِم عليها، فيما بعد، بالسجن المؤبد، وأطلق سراحها يوم 21 تموز 1991، بموجب قرار العفو ذي الرقم (241) تهيئة من رأس لغزو دولة الكويت الشقيقة.
 
بإنتظار الاعدام
مكثت أمل في مديرية أمن الثورة، ستة أشهر، وجي‏ء بها الى‏ موقف مديرية الأمن العامة، ومنه الى‏ قاعة محكمة الثورة، الجاهزة للإعدام.. لاحكم لديها سواه، على أي متهم.
حسب المادة ( 156 ـ أ ) نقلت من المحكمةِ مباشرةً الى‏ سجن “الرشاد”.. القسم السياسي، حيثُ بقيت ثلاثة أشهر بانتظار التنفيذ! متماسكة تهدئ الأخريات، بقوة مستمدة من صبر فاطمة الزهراء وزينب الحوراء.. عليهن السلام.
و إذا بسيارة الاعدام تنقلها ورفيقاتها الى‏ سجن “أبو غريب” ولسان حالهن يلهم الشاعر أبو فراس من الجزيرة العربية: “يظلُّ الدَّهرَ سِفْرَ الخالدينا.. فكم قاسَوا من الحُكّام ضَيْماً.. وكانوا رُغم ذلك صابرينا.. ويافَجر الشهّادةِ إنَّ شوقاً.. الى‏ لُقيا الشَّهادةِ يَعترينا”.
وبينما أمل تزرع قُبلاتها على‏ الجدران، بدموع غزيرة، قرأت على‏ الحائط عبارة مفادها “هل من فاعل خير يقرأ كلماتي هذه ويُبلّغ أهلي، على‏ التلفون (!!!!821) فاني بعد دقائق سيعدمونني”.
تسمّرت عند رقم التلفون، إنه اسم خالها… عائدة الى‏ سجن “الرشاد” الساعة التاسعة ليلا، لصدور قرار تأجيل الإعدام.. شاهدة وشهيدة، على‏ دموية الإستبداد البعثي.
بعد عشرين يوماً، جاؤوا ليأخذوها الى‏ حيث اللارجعة، فإغتسلت غسل الشهادة وتكفّنت بكفنٍ كُتب عليه دعاء “الجوشن الكبير” وخرجت مودِّعة الأخوات: “هذه المرة سيقتلونني، ولا أعتقد أني سأعود”.
وفعلا وصلت “أبو غريب” ظهر الأحد.. مطلع العام 1983 وشنقت مساءً، في قاطع الإعدام الخاص بالنساء.. قسم الأحكام الثقيلة، مجبرين أهلها على الدفَن تحت حراسةٍ وبصمتٍ.. من دون مراسيم تشييع.