المساعي الاوربية من اجل تنشيط الوحده السياسية من خلال البرلمان الاوربي وكذلك الوحدة الاقتصادية من خلال النقد الموحد “اليورو” وتفعيل السوق الاوربية المشتركة والتي تحوي في الوقت الحالي اكثر من خمسه وعشرين دولة وتجري المحاولات من اجل توسعتها كل هذا يعتبر تعبير وتجسيد لما تتطلع اليه من خلال هذا التجمع الاقليمي الاقتصادي الكبير من اجل ان تثبت دورها والمحافظة على مصالحها من اية مخاطر يمكن ان تحدث من جراء الاحادية الامريكية التي بات واضحاَ انها تصبوا الى الهيمنه على هذا الكوكب هذا من جانب ومن جانب اخر لمحاولتها تشكيل دورها كقطب رئيسي مواز للولايات المتحدة على اساس القاعدة الثنائية التحكم بالعالم.
هذه التطلعات الأوروبية تتعارض بكل تأكيد مع الإستراتيجية الأمريكية الراهنة تجاه ما يعرف بـ”أوراسياEurasia ” والتي تعني اوربا واسيا والتي لايفصلهما محيطات او بحار كييرة، وهي استراتيجية حددت لنفسها هدفا مركزيا أوليا هو “منع الوحدة الأوروبية ، والأوروآسيوية ، وهو مايعني بشكل واضح وقف التقارب الأوروبي الغربي ، والروسي الصيني ، ذلك هو الكابوس الأمريكي بكل صراحه ، إذ لا يمكن الدفاع عن “الجزيرة” الأمريكية إلا إذا بقيت أورآسيا منقسمة الى أنظمة متنافسة بل ومختلفه. إن الولايات المتحدة ترغب في بناء عالم رأسمالي مندمج ، لكي تتمكن من بسط سيطرتها وهيمنتها بلا حدود على هذا العالم ، لا أن يقاسمها إياها أوروبيون ما زالوا يحتفظون ببعض وسائل هيمنتهم الخاصة هنا وهناك” ، وفي هذا الجانب من المفيد التذكير بكتاب “زبجينيو بريجنسكي Zbigniew Brzezinski ” الصادر عام 1998م بعنوان “رقعة الشطرنج الكبيرة The grand chess board” بما يعني خريطة الصراع العالمي، وفي هذا الكتاب يقوم “بريجنسكي” بإعادة بلورة الفكر الاستراتيجي الأمريكي تجاه الأوراسيا بما يتفق مع المعطيات الجديدة التي نشأت عن تفكك الاتحاد السوفيتي، حيث يؤكد أن الساسة الأمريكيين عليهم أن يتوقعوا تماما - كما في لعبة الشطرنج- تحركات مضادة من جانب دول أوراسية وبالتالي فإن الولايات المتحدة إذا أرادت أن تعوق عملية بناء قوة روسيا كلاعب استراتيجي مؤثر في سياسات الأوراسيا, فإن عليها أن تعمل بكل قوة علي حرمان روسيا من ثلاث دول ركائز هي: أوكرانيا, أوزبكستان, أذربيجان، أما بالنسبة لما يجب أن تفعله الولايات المتحدة تجاه أوروبا – وفق هذه الاستراتيجية- يقول بريجنسكي بالنص إن توسيع أوروبا وحلف الناتو هو ما يخدم أهداف السياسة الأمريكية على المديين القصير و الطويل، إذ إن أوروبا أكثر اتساعا وهو أمر يزيد من طائلة النفوذ الأمريكي، فقبول أعضاء جدد من وسط أوروبا هو من جانب، سوف يزيد من عدد الدول المؤيدة لأمريكا داخل المجالس الأوروبية, ومن جانب آخر سوف يحول دون بناء أوروبي متماسك سياسيا بالقدر الذي يصبح فيه منافسا حقيقيا للولايات المتحدة في بعض المناطق التي لدي الاتحاد الأوروبي مصالح مهمة فيها كالشرق الأوسط .
على أي حال ، ومهما كانت درجة اتفاقنا أو اختلافنا مع تحليل “بريجنسكي” للعلاقة الأوروبية الامريكية، فإننا نؤكد على حقيقة تتجلى في أن التعارضات الاوروبية- الأمريكية مهما اتسعت مساحتها، فإنها لن تتحول الى شكل من اشكال التناقض التناحري الحاد بينهما في هذه المرحلة، وذلك بسبب انهما يشكلان رأس الهرم في النظام الرأسمالي العالمي رغم تفوق النظام الامريكي الواضح في الوقت الحالي، بل وهيمنته واستفراده المتوحش بمقدرات شعوب العالم عموماً والعالم الثالث وبلدان وطننا العربي خصوصاً، رغم إدراكنا إلى أن تطبيقات مفهوم المركز الرأسمالي في اطار الصراع العالمي المحتدم بين دول المركز التي تمثل خمسة عشر بالمائة من مجموع دول كوكبنا، وبين بقية دول العالم في الأطراف تحتم نوعا من التفاهم “الأوروبي – الأمريكي” المصلحي في معظم الأحيان، وتفاهما اكراهيا في بعض الأحيان الأخرى وفق موازين القوى بينهما ، كمركزين رئيسيين يتحكمان في مقدرات العالم، وقد أثبتت الأحداث منذ 11 أيلول/سبتمبر 2001م الى غزو افغانستان واحتلال العراق ومحاولات الولايات المتحدة تفعيل سيطرتها على هذا العالم، الى جانب التأييد المباشر والصريح للعدوان الصهيوني على شعبنا في فلسطين ومحاولاته فرض “خارطة الطريق” و”خطة شارون- أولمرت”، وأخيراً وليس أخراَ الهجوم البربري الصهيوني في تموز/يوليو 2006م ضد لبنان العربي وطليعته المقاومة الوطنية ، نلاحظ مدى التوافق الأوروبي العام مع تلك السياسات والمواقف الأمريكية في العالم ، وتجاه العراق وفلسطين ولبنان بشكل خاص، يؤكد على ذلك أن دول الاتحاد الأوروبي لم تجرؤ أن تبادر بالدعوة الى” عقد المؤتمر الدولي” حسب ماجاء في “خارطة الطريق” على أثر تطبيق ما يسمى” بالانسحاب من قطاع غزة”، والتزمت بالموقف الامريكي- الصهيوني الرافض لكل قرارات الشرعية الدولية والحقوق الفلسطينية، المسألة الأخرى فيما يتعلق بالصراع على النفوذ في أوراسيا، ترتبط بهدف الولايات المتحدة الذي ينبغي – كما يقول بريجنسكي- ان يكون دائما هو الحفاظ على التعدديات الجيوسياسية في أوراسيا بكل ما تعنيه من خصوصيات ثقافية وخطوط تماس عقائدي, فالحفاظ علي هذه التعدديات يمنع نشوء تحالف كيانات معادية للولايات المتحدة، من جانب آخر, فإن على الولايات المتحدة أن تبحث عن شركاء استراتيجيين يساعدونها في بناء نظام أمني أوراسي-أطلسي. وعلى المدى الطويل أي ما يزيد عن عشرين عاما, فإن على الولايات المتحدة بأن تكون مستعدة لتقبل المشاركة في المسؤولية والقرار فيما يتعلق بنظام أمني أوراسي- أطلسي، وهو اعتراف ضمني من بريجنسكي بأن آوراسيا سوف تشهد في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين نشوء الأقطاب الجدد للنظام العالمي. وهو ما يفسر هذا الانتشار الأمريكي الاستراتيجي الواسع النطاق من خلال عدد كبير من القواعد العسكرية في أوروبا وآسيا الوسطي رغم انهيار الاتحاد السوفيتي، وما من تفسير لهذا الانتشار الأمريكي الواسع في أوراسيا سوى الاستباق لما هو قادم، ونلاحظ ان تحليلات بريجنسكي تم بنائها على قاعدة الاستقرار والنمو الدائم، اذا صح التعبير، لنظام العولمة الراهن، دونما ان يضع “بريجنسكي” في الاعتبار “وهذه هي طبيعة المفكرين الرأسماليين دائماَ” عوامل الصراع المتراكمة وتفجرها في لحظة معينة من التطور اللامتكافئ بين الشعوب المضطهدة من جهة وبين المراكز الرأسمالية من جهة ثانية، ذلك أن حقائق الحياة في وضعها الراهن، وكذلك في مسارها المستقبلي تؤكد على أن هذه الهيمنة الامبراطورية الأمريكية- الأوروبية لن يقدر لها الاستمرار والتواصل، وما يؤكد على ذلك، النهوض المتدرج والعميق في مجابهة العولمة الرأسمالية خاصة في أمريكا اللاتينية، وصعود الحركات اليسارية في العديد من دولها من ناحية وشدة تعمق مظاهر البطالة والفقر في البلدان الفقيرة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا، مع تزايد شدة وبشاعة الانقسام والصراع الطبقي على قاعدة العداء لنظام العولمة الامبريالي وعملائه، ما يجعل من توفر الظروف الموضوعية لمجابهة العولمة أمرا رئيسا على جدول أعمال الحركات الوطنية والقومية اليسارية الثورية في هذا العالم، أما بالنسبة لدور روسيا والعديد من بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية السابقة التي تسعى اليوم الى إثبات وجودها في هذا العالم المضطرب المحكوم بالأحادية الأمريكية ، خاصة بعد أن عاشت شعوب هذا البلدان أشكالا من المعاناة والحرمان والبؤس في ظل الديمقراطية الليبرالية الجديدة و السوق الحر، فإننا نعتقد أن شعوب هذه البلدان، خاصة الطبقات المتضررة، ستندفع مجدداً للمطالبة بالعودة إلى النظام الاشتراكي في صيغته الجديدة المتطورة، خاصة وأن روسيا لن تستطيع في الظروف الراهنة اللحاق بشروط التطور الاقتصادي والتكنولوجي عبر آليات الرأسمالية ، فذلك أمر لن تسمح به المراكز الرأسمالية المعولمة ، وبالتالي لا مناص أمامها من العودة الى آليات النظام الاشتراكي كمدخل وحيد لاستعادة دورها وتطورها وإثبات وجودها في العالم لذلك انا اعتقد ان الوريث الرسمي للرأسماية هي الاشتراكية وسوف ابحث هذا الموضوع في بحث منفصل انشاء الله في الايام القليله القادمه.
المسألة الثانية في هذا الجانب ،فإننا نعتقد، أن الدولة الروسية لا يمكن أن تتخلى عن وعيها المستمر بدورها الكبير و المتميز تاريخياً في إدارة هذا العالم مستذكرة دائماً تراثها القديم ، سواء عبر روسيا “بطرس الأكبر”و بطرس الأكبر Peter the Great أو “بيتر الأول Peter I ” أو” بيوتر ألكسييفيتش رومانوف Pyotr Alexeyevich Romanov ” هذا ولد في العام 1682 م حكم روسيا من عام 1682م خلفا ل”فيودر الثالث Feodor III”وحتى وفاته عام 1725م. وقد كان يحكم روسيا بدايةً حتى 1696 م مشاركاً لأخيه غير الشقيق “إيفان الخامسIvan V” في الحكم حيث أن الأخير كان يعاني المرض. يعتبر بيتر العظيم أحد أعظم من حكموا روسيا على مدار تاريخها. وقد قاد سياسة تحديث وسياسة التوسع التي حولت روسيا القيصرية إلى الإمبراطورية الروسية والتي باتت إحدى أهم القوى على مستوى أوروبا. وهو مؤسس مدينة سانت بطرسبرغ والتي مثلت عاصمةً لروسيا على مدى أكثر من قرنين من تاريخها، خلفته في الكرسي “كاثرين الأولى Catherine I”.كما اجرى عدة إصلاحات في الإدارة والمالية والصناعة والمجتمع. وأسس جيشا حديثا وبنى اسطولا بحريا عظيما لروسيا. انتهج بطرس الأكبر سياسة ثقافية جديدة للدولة وقد اراد تغيير اذواق الروس وتعريفيهم بالتراث الثقافي الأوروبي، كان هدف بطرس الأكبر انذاك جعل روسيا دولة أوروبية سياسيا وثقافيا. ورعى مهمة إرسال الطلبة الروس إلى الجامعات الأوروبية للدراسة.
أو تراثها الحديث عبر روسيا “لينين” اي الاتحاد السوفيتي ، و ذلك وفق مفهوم مصالح الدولة الروسية و ليس وفق مفهوم الإمبراطورية الغابر ، و بالتالي يخطئ كثيراً من يتصور أن هذا العملاق النووي الذي يملك إمكانات اقتصادية هائلة ، سيظل صامتاً على كل ما يجري فيه أو من حوله ، و خاصة تلك المتغيرات المتسارعة و الخطيرة في صلب العلاقات الدولية ، و لكن ذلك كله مرهون بالتغيير الجذري للواقع الروسي الراهن الذي يتعرض اليوم لأوضاع اقتصادية- اجتماعية داخلية افضل من تلك العوامل الداخلية والنجاح في المحاولات الطفيلية الضارة التي أوصلت الاتحاد السوفيتي عبر تراكماتها السالبة إلى حد القطع أو نقطة اللاعودة أو الانهيار ،و بالمقابل فإن ما نتابعه اليوم من تحولات متسارعة في بنية الدولة الروسية ، الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية في ظل التحولات الجارية من خلال الخطط التي بدأتها روسيا منذ رئاسة فلاديمير بوتين وهو مايعني انبعاث روسيا من جديد .
بعد كل ما تقدم ، نأتي الى الحديث عن الدور الآسيوي الذي يبرز بقوة اليوم على الصعيد العالمي ، في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية أو ثورة العلم التقنية والمعلوماتية ، وخاصة في كل من الصين واليابان كعملاقين يسعى كل منهما الى تحقيق دور مركزي في العلاقات الدولية الراهنة والمستقبلية .
فالصين الشعبية هي الدولة الأولى من حيث عدد السكان الذي يشكل نسبة السكان فيها اثنان وعشرين في المائة تقريباَ من سكان العالم ، وتشير كافة المصادر الى أنها تقترب وبشكل سريع من الوصول الى قمة قائمة أكبر الدول الصناعية في العالم ، فالاقتصاد الصيني – بشهادة العديد من الخبراء- هو الاقتصاد الأسرع نموا في العالم خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة ، ويقدر البعض أنه بعد عودة ” هونج كونجHong Kong ” إليها ، فإن الاقتصاد الصيني أصبح الاقتصاد الثالث في العالم بعد الولايات المتحدة واليابان، بل إنه من المتوقع مع حلول عام 2007م أن يرتفع الناتج القومي الصيني ليصل الى أكثر من تريليونين دولار حسب الخطة الصينية الهادفة الى مضاعفة الناتج القومي الإجمالي خلال هذه الفترة . وإذا استمر معدل النمو الحالي فإن الاقتصاد الصيني سيصل إلى مستوى الاقتصاد الأمريكي بحلول عام 2020م ، وهو أمر تدركه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم التي تعتبر الصين عدوا محتملا في المستقبل أكثر بما لا يقاس منه في الحاضر ، خاصة مع التطور في العلاقات السياسية الصينية الروسية ، وتوقيع معاهدة الصداقة المشتركة في تموز/يوليو 2001 م هي الأولى منذ أكثر من خمسين عاما ، والتي عبر عنها الرئيس الصيني السابق “جيانج زيمينJiang Zemin ” بقوله: “إن هذه المعاهدة تستهدف مواجهة الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية” ، وذلك انسجاما مع ما جاء في تقرير المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني المنعقد في عام 1999م الذي نص على أن “الحرب الباردة ما زالت موجودة ذهنيا ، والهيمنة وسياسات القوة تواصل أن تكون المصدر الرئيسي لتهديد السلام والاستقرار العالميين ، علينا أن نعارض الهيمنة ، ونحمي السلام العالمي ، وعلى حزبنا الشيوعي أن يساعد على فهم العالم ويعمل على تغييره ، ولذلك ينبغي على كل الحزب أن يولي الدراسة جلّ الاهتمام وأن يبدع فيها وأن يفتح نهوضا جديدا في دراسة الماركسية اللينينية وأفكار “ماوتسي تونج Mao Tse Tung”ونظرية “دنغ شياو بينج Deng Xiaoping ” ، وأضاف التقرير “إن نظام الدولة في الصين الذي يتميز بالدكتاتورية الديمقراطية الشعبية ونظام حكومتها المتميز بمجلس نواب الشعب هما ثمرة النضالات التي خاضها الشعب وخيار التاريخ ، ولا بد لنا من أن نتمسك بالنظام السياسي الأساسي ، ونحسنه بدلا من استنساخ أي نماذج غربية ، إن هذا يتصف بأهمية حاسمة في التمسك بقيادة الحزب والنظام الاشتراكي وتحقيق الديمقراطية الشعبية” . إن التقدم الواضح ، على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي المدني والعسكري الذي أحرزته الصين الشعبية تحت قيادة الحزب الشيوعي ، أدخل الصين بقوة كشريك أساسي وقطب عالمي فعال كمحور رئيسي في النظام العالمي الراهن في القرن الحادي والعشرين ، سيكون له دور رائد ومميزٌ في تحديد شكل وطبيعة التعددية القطبية القادمة لا محالة ، خاصة وأن هذا الدور سيشكل مدخلا هاما لشعوب العالم الثالث التي ترى في الصين الشعبية الاشتراكية المحور الوحيد في التعددية القطبية القادمة القادر على أن يشكل تحديا حقيقيا للوجه البشع للعولمة الرأسمالية والهيمنة الأمريكية ، من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية والاشتراكية والديمقراطية.
بالنسبة لليابان التي تحتل اليوم الموقع الثاني في العالم من حيث حجم الناتج القومي الإجمالي رغم أن اليابان تأتي في المرتبة الثامنة من ناحية دخل الفرد السنوي، إلا أنها الدولة الأولى من حيث السيولة المالية ، وحجم الاستثمارات الخارجية ، وهي الأولى من حيث “الأصول الوطنية الثابتة التي تبلغ 43.7 تريليون دولار مقابل 36.2 تريليون دولار في الولايات المتحدة ، وهي الدولة الأولى في العالم بالنسبة لتصنيع منتجات الحديد والصلب رغم أنها تفتقر للمواد الخام ، وهي الأولى للمكننة الصناعية في العديد من المجالات”. إن التراكم الاقتصادي وحجم التقدم النوعي والكمي التكنولوجي ، يؤهل اليابان لأن تصبح واحدة من الدول العظمى التي ستسهم في تحديد المعالم المستقبلية للنظام العالمي المعاصر، من حيث تحديد مراكزه وأقطابه أو تعدديته التي لم تتبلور بعد ، دون أن يعني ذلك الإسهام أن الدور الياباني سيشكل تناقضا مع سياسة الولايات المتحدة وتوجهاتها العالمية ، بل سينطلق من رؤيته للمصالح اليابانية والآسيوية الخاصة التي ستظل ترى في الولايات المتحدة حليفا استراتيجيا على صعيد رسم السياسات والعلاقات الدولية في إطار النظام الرأسمالي العالمي ، من موقع المشاركة والندية ، بالمعنى النسبي الذي يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الياباني ودوره الآسيوي ، وهي علاقة تقترب من الرؤية الأوروبية وتتقاطع معها . فاليابان اليوم ، تشكل نموذجا اقتصاديا لدول شرق وجنوب شرق آسيا بالذات ، وهي دول باتت تملك اليوم اقتصادا قويا رغم ما تعرضت له من أزمات – ساهمت فيها الولايات المتحدة بصورة مباشرة وغير مباشرة- ، حيث أثبتت أنها ليست فقاقيع مالية يمكن أن تنفجر وتتلاشى تجربتها بسهولة ويسر ، وهي بالتالي تجد في اليابان مثالا وملاذا في آن واحد ، ولذلك كان من الطبيعي أن يلتقوا جميعا في تكتل “الآسيان ASEAN ” المشار إليه سابقا ، إثباتا للقوة الاقتصادية من جهة ، وتمهيدا لدور سياسي آسيوي مركزي في العلاقات الدولية تكون الصين احد اهم اقطابه من جهة أخرى . في كل الأحوال ، سيظل الوضع الدولي لفترة طويلة نسبيا ، قد تمتد حتى نهاية العقد الثاني من القرن الحالي ، مفتوحة على كل الاحتمالات ، ولكن من المؤكد في مواجهة كل ذلك ، أن هيمنة النظام الرأسمالي وأحاديته القطبية الراهنة ، ليست ولن تكون نهاية التاريخ كتجسيد لانتصار الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي مقابل حقائق القوة ومقوماتها التي تعطي الانطباع على أن الولايات المتحدة تملك من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية وغيرها ، بما لا يجاريها أي اقتصاد آخر في هذا العالم ، إلا أن هناك وجه آخر للحقائق أو الوقائع الأمريكية التي تنمو وتتراكم بصورة سلبية، ستجعل وجه الولايات المتحدة الأمريكية في نظر شعوب العالم في بلدان الأطراف خصوصاً، أكثر بشاعة من وجه النازية في أحط درجاتها وممارستها، وذلك عبر سياسة “عولمة السلاح” وإرادة القوة الباغية التي تمارسها الولايات المتحدة ضد شعوب عالم الأطراف عموماً وفي بلداننا العربية خصوصاً عبر وكيلها الامبريالي الصغير دولة العدو الصهيوني التي تقوم في هذه المرحلة بممارسة أبشع أدوارها الوظيفية في خدمة المصالح والسياسات الامبريالية الأمريكية في بلادنا، يشهد على ذلك ما جرى ويجري في فلسطين ولبنان من قتل عنصري للطفولة والمرأة والشيوخ وتدمير منهجي للمدن والقرى والمخيمات، ليس بذريعة ضرب المقاومة الفلسطينية واللبنانية فحسب، بل لتنفيذ السياسات الأمريكية فيما يسمى بالشرق الأوسط الجديد. أما الصورة الأخرى لهذا الوجه الأمريكي البشع فهي تتجلى في حالة المد الثوري اليساري المتصاعد في أمريكا اللاتينية، فنزويلا شافيز وبوليفيا والبرازيل والبيرو، والعديد من دول هذه القارة السائرة في الحراك والتغيير الثوري النقيض لهيمنة الامبريالية الأمريكية ونظام العولمة الرأسمالي برمته، كما تتجلى أيضاً في داخل المجتمع الأمريكي عبر أزماته الاقتصادية والمجتمعية والأخلاقية المتراكمة، وهي أزمات تحمل من الدلالات والمعاني بما يتناقض مع صورته الوردية المرسومة – بشكل مبرمج- في أذهان الكثير من الليبراليين العرب أو الحالمين في هذا العالم ، المأخوذين بشكل الظاهرة فقط بعيدا عن مضامينها . فبالرغم من انتصارها في الحرب الباردة، “تبدو الولايات المتحدة اليوم وكأنها تخسر حاليا حرب البطالة والمخدرات والإنتاجية والتعليم، علاوة على تزايد أزمة الاقتصاد الأمريكي وهناك امر اخر هام جداَ وهو ماتشهده المدارس والجامعات الأميركية من حالات التدهور ، يبرزها تراجع طلابها أمام الطلاب الأجانب وخاصة في مجال الرياضيات والكيمياء وعلوم الحاسب الآلي. وحسب “ايمانويل تودEmmanuel Todd ” صاحب كتاب: “ما بعد الإمبراطورية، دراسة في تفكك النظام الامريكي” الذي يتنبأ بانهيار الولايات المتحدة الأميركية، والذي سبق وتنبأ بتفكك الاتحاد السوفيتي قبل عشر سنوات من انهياره، فإن أميركا بحاجة إلى 1.5 مليار دولار يومياً لتغطية العجز في ميزانها التجاري. و يعتبر أن أمريكا مع بداية القرن الحادي والعشرين أصبحت غير قادرة على أن تعيش على إنتاجها وحده إذا شاءت الاحتفاظ بنفس مستوى المعيشة، ويتنبأ المؤلف الذي أثار كتابه ضجة, بأنه مع ازدياد قوة “أوراسيا” ستنخفض وتتوقف التدفقات المادية والمالية التي تغذي أميركا اليوم، مما سيجعل منها دولة مثل غيرها من الدول،الولايات المتحدة تعاني من عجز كبير في الموازنة وحسب ما يقول رجل الاقتصاد الأمريكي “وارن بافيت Warren Buffett ” – وهو ثاني أغنى رجل في أمريكا- فإن العجز المتوقع في الموازنة الأمريكية أو مجموع الديون الأمريكية سيصل عام 2015م إلى “11” تريليون دولار، وهذا يعني أن خزينة الولايات المتحدة ستتكبد فقط فوائد سنوية على هذه القروض تشكل حوالي خمسمائة وتسعين مليار دولار، ستكون عبء الفائدة التي ستتكبدها الخزينة الأمريكية، وقد حذر مدير مكتب الكونغرس في تصريحات نشرتها وكالة الأنباء الفرنسية في 6مارس 2004م إن العجز التجاري الأمريكي المتراكم قد يلامس 2600مليار دولار من الآن وحتى العام2015 م. وفي هذا السياق يكشف “صموئيل هنتنغتون” ، صاحب نظرية صدام الحضارات، الهاجس الديموغرافي الذي يخيف أميركا ويستشهد بإحصائية تقول أنه في عام 2050م سيكون من بين السكان الأميركيين 23 بالمئة من أصول لاتينية و16 بالمئة سوداً و10 بالمئة آسيويين. ويعلق على هذه الإحصائية بالقول ، انه إذا نجحت الولايات المتحدة في السابق في استيعاب المهاجرين فلأنهم في الغالب كانوا أوروبيين، فهل ستنجح مستقبلاً عندما سيصبح 50 بالمئة من السكان لاتينيين أو غير بيض. نعم الولايات المتحدة الأميركية هي الأولى في الإنفاق العسكري والرؤوس النووية والطائرات المقاتلة، إلاّ أنها الثامنة في متوسط عمر الفرد والثامنة عشرة في معدل وفيات الأطفال وأظهرت دراسات أكاديمية حديثة فيما يتعلق بالكسب والعمالة والتعليم والجريمة أن الولايات المتحدة تبدو وكأنها تتكون من أمتين بينهما تفاوت هائل ، وهي كذلك بالفعل ، بل ربما أسوأ بكثير . لا يعني عرض ما تقدم التهوين من قدرات الولايات المتحدة الأميركية وقوتها، إلا أنه يعني بوضوح أن المشروع الإمبراطوري على المدى البعيد يقف على أرض اقتصادية واجتماعية رخوة, وهي تتجه يوماً بعد يوم لتصبح أكثر هشاشة . وبالرغم من إدراكنا لطبيعة هذه المظاهر ، كسمة أساسية من سمات الرأسمالية التي يصفها ماركس بقوله “إن الرأسمالية تنزف دما من كل مساماتها” ، إلا أن أهميتها تكمن في أنها تعكس الواقع الداخلي للمجتمع الأمريكي، وتكشف بوضوح الوجه القبيح للرأسمالية التي لا يمكن ان تنمو وتتراكم بعيدا عن الانقسامات الطبقية الحادة ، والفجوات الهائلة بين من يمتلكون الثروة من جهة ، والمحرومين من جهة ثانية في إطار من الصراعات المباشرة وغير المباشرة ، المكشوفة أو الكامنة ، التي لن تتوقف عن الحركة والاستمرار بين من يملك ومن لا يملك ، بين المُستغلِّين والمستَغلين ، تلك هي حقائق الحياة المعبرة عن مسار التاريخ وحركته التي لا مستقر لها ، وهي حقائق تتناقض بصورة كلية ومطلقة مع كل أولئك الذين يتحدثون عن نهاية التاريخ أو سقوط الأيديولوجيا ، تعبيرا عن أكذوبة الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي الامريكي وأيديولوجيته، بالرغم من هذا الانتشار الواسع له على معظم مساحة كوكبنا ، إذ أن هذا الانتشار عمَّق الى درجة كبيرة ، عملية الاستقطاب الآخذة في التصاعد ، وهو “استقطاب يتمثل في التضاد بين ثروة المراكز المتزايدة ، وفقر الأطراف المتفاقم ، خاصة وأن هذا الاستقطاب ليس ناتج ظروف خاصة بمختلف مناطق العالم – كما تدعي أيديولوجية الليبرالية الجديدة- بل هو ناتج عمل التوسع الرأسمالي في حد ذاته ، إذ ان هذا التوسع يقوم على عولمة سوق المنتجات ورؤوس الأموال دون أن يصاحبها اندماج أسواق العمل التي تظل متفتتة ومحبوسة في أطر السياسة القائمة ، ولذلك فإن التحدي الحقيقي بالنسبة لقوى اليسار العربي وقوى اليسار العالمي، يتلخص في مقولة واحدة مفادها ، ضرورة تجاوز حدود الرأسمالية من أجل ضمان بقاء الإنسانية ، فالخيار التاريخي الحقيقي قد أصبح كالآتي: إما ان تتيح النضالات الاجتماعية تجاوز منطق آليات وقوانين الرأسمالية ، وإما في غياب ذلك ، أن يؤدي فعل هذه الآليات الى انتحار جماعي للإنسانية وتدمير للكرة الأرضية” فبعد مرور ما يقرب من أربعة عقود على ولادة نظام العولمة، يتكشف اليوم، طبيعة التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي عموما، وتفجر هذه التناقضات في المشهد الراهن لعولمة السوق عبر عدد من المظاهر: طغيان آليات السوق الحر المفتوح والمنفلت في جميع بلدان العالم، وما أدت اليه هذه الظاهرة من تراجع وتدمير للصناعة المحلية والمنتجات السلعية في بلدان العالم الثالث، حيث تتكشف لشعوب هذه البلدان حجم الويلات التي أفرزها تطبيق آليات السوق الحر التي أثبتت مجددا أنها اعادت انتاج التشوهات في النشاط الاقتصادي، من خلال تزايد حجم البطالة الثابتة “البنيوية” والبطالة المؤقتة، والتضخم وارتفاع الأسعار وثبات الأجور، وما يرافق ذلك من تزايد انتشار الفقر والفقر المدقع في اوساط الجماهير الكادحة، بحيث أصبحت هذه الاحوال المتردية السمة الرئيسة للعولمة الراهنة في تطبيقاتها على بلادنا وبلدان العالم الثالث، علاوة على تزايد انتشار السرقة والجريمة والمخدرات والدعارة والانهيار النفسي، جنبا إلى جنب مع اقتصاد “الكومبرادور وهو مصطلح – compradors يستخدم لتعريف التجارلأفراد الذين كانوا من الطبقة المتوافقة مع ومتعاطفة مع المصالح الاقتصادية الأجنبية – ” والمضاربة والمقامرة والطفيليين بكل أشكالهم. التدهور الشديد والمتفاقم في المساوة الاجتماعية، بفعل الفجوة الهائلة في توزيع الثروات والدخل من ناحية والزيادة الكبيرة في نسبة الفقراء التي تزيد في بلادنا وبلدان العالم الثالث عن 70% من ناحية ثانية. وتطور الفقر وتفاوت الدخول عالميا واقليميا وقطريا بفعل العولمة الراهنة حيث اتسع الفقر افقيا ليشمل أوسع الفئات الوسطى، وينحدر بها إلى ما يقرب من خط الفقر . والتراجع المهني على الصعيد العالمي، عن نظام الخدمات الاجتماعية، بينما تتقدم التكنولوجيا وتنتشر بصورة هائلة غير مسبوقة، لتحقق انتاجية فائقة وارباحا اسطورية، والمفارقة هنا –كما يقول د.عصام الزعيم- “في العولمة، بينما تزيد الانتاجية وتتضاعف، تتقلص الخدمات الاجتماعية للفقراء العاطلين عن العمل وذوي الدخل المحدود”. فالعولمة – كما يقول “اريك هوبسبوم Eric Hobsbawm ” في كتابه الامبراطورية الامريكية الى أين ؟- – جريدة لوموند دبلوماتيك حزيران 2003.”قد بلغت طوراً مستجداً على ثلاثة مستويات: هي الترابط والتكنولوجيا والسياسة ، فبادىء ذي بدء بتنا اليوم نعيش في عالم مترابط الى درجة أن العمليات الجارية يتعلق بعضها ببعض، وأن أي انقطاع قد يولد انعكاسات عالمية فورية”. ثم أن “هناك هذه السلطة الفائقة لتكنولوجيا في حالة ثورة مستمرة، تفرض نفسها في المجال الاقتصادي كما في المجال العسكري بنوع خاص” .
وأخيراً ، – كما يستطرد هوبسبوم- فإن “السياسة في أيامنا هذه باتت تتسم بطابع على درجة من التعقيد. فعصرنا هذا لا يزال عصر الدول القومية، وهو العنصر الوحيد الذي يعوق سير نظام العولمة. لكن المقصود دولة ذات نمط خاص حيث الشعب العادي يلعب دوراً مهماً”.
ومع استمرار تراكمات التناقضات الداخلية للعولمة الامريكية الراهنة، يصبح سؤال اريك هوبسب وما مطروحا بقوة: فهل أن امام هذه السياسة فرصة للنجاح؟ ويجيب بقوله : يبدو أن العالم على درجة من التعقيد بما لا يسمح بسيطرة دولة واحدة، وعلينا ان لاننسى أن الولايات المتحدة وباستثناء التفوق العسكري، مرتهنة لموارد تنقص أو في طريقها الى النقصان. ومع أن اقتصادها عظيم الا ان الحيز الذي تحتله في الاقتصاد العالمي يتضاءل ، ولا بد من الاستنتاج أن الأميركيين خلال عامي 2002/2003 (الهجمة ضد أفغانستان والعراق)، قد ضحّوا بمعظم اوراق قوتهم السياسية، حتى وإن ظلوا يمسكون بالبعض منها ، ثم يضيف : “غير أن الميزة الرئيسة التي يملكونها في مشروعهم الامبراطوري تكمن في الناحية العسكرية. إن الهدف الأساسي – من الهجوم على أفغانستان والعراق- هو استعراض القوة عالمياً، مما يعني أن السياسة التي تحدث عنها المتطرفون في واشنطن، ومنها إعادة صياغة شاملة لمجمل الشرق الأوسط، لم تكن ذات معنى. ونحن ندرك أنهم إذا كانوا يخططون جدياً لتغيير المعطيات في المنطقة فليس أمامهم الا أمر واحد يقومون به وهو ممارسة الضغط على اسرائيل وليس التدخل المباشر او العير مباشر من اجل التغيير “.
ومن المستحيل التنبؤ كم من الوقت سيدوم التفوق الأميركي، لكن الأمر الوحيد الذي نحن متأكدون منه كلياً هو أن في الأمر ظاهرة موقتة في التاريخ كما كانت جميع الامبراطوريات. وفي هذا السياق يقول هوبسبوم “والامبراطورية الأميركية قد تسقط لأسباب داخلية، والأكثر الحاحاً منها هو كون الامبريالية بمعنى السيطرة على العالم وإدارته، لا تثير اهتمام معظم الاميركيين الى ما يحدث داخل الولايات المتحدة، فالاقتصاد هو على درجة من الوهن ما سيحمل الحكومة والناخبين الأميركيين يوماً على اتخاذ قرار بأن من الأهم الانكباب على هذا الأمر بدلاً من خوض المغامرات في الخارج ، أضف الى ذلك أنه وكما يحدث حالياً، سوف يكون على الأميركيين انفسهم أن يمولوا جزءاً كبيراً من هذه التدخلات الخارجية “.
* باحث في الشؤون الاستراتيجية والدولية
www.almohsun.com