17 نوفمبر، 2024 4:23 م
Search
Close this search box.

أمريكا وجيل الألفية وانقلاب القصر

أمريكا وجيل الألفية وانقلاب القصر

الأحداث السياسية المتسارعة خلال منذ الأسبوع المنصرم في الولايات المتحدة أحدثت صدمة كبيرة في الوعي الاجتماعي، ولها تداعيات على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي. ومع أن الولايات المتحدة تمر في أزمة كورنا (كوفيد-19) التي أوقفت العجلة الاقتصادية وتسببت ببطالة حوالي أربعين مليون شخص، وهي أعلى من نسبة للبطالة أثناء الكساد الكبير في القرن العشرين، إلا أن تأثير موت رجل أسود على يد الشرطة في مدينة (مينينابلوس) سيكون وقعه أعظم على مستوى الوعي المجتمعي وفي سيادة القانون الجنائي والمعاملة بالمساواة بين جميع المواطنين، مهما اختلفت أصولهم وألوانهم. وهذا الحادث المحدود في وقعه سيكون له تأثيراً في الدولة على المستوى المحلي والفيدرالي.
فأول تداعيات هذا القتل المتعمد من قبل الشرطة المحلية للرجل الأسود بسبب مخالفة بسيطة هو اشعال لهيب المشاعر الجماهيرية ليس في المدينة التي حدثت فيها الجريمة (أقصى شمال أمريكا)، وليس في الولاية التابعة لها فحسب، ولكن على مستوى الجمهورية الأمريكية بأكملها. فلم تسلم أي مدينة أمريكية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي من أعمال العنف والفوضى التي لم تستطع الشرطة المحلية ولا قوى أمن الولاية في السيطرة عليها على الرغم من إعلان حالة منع التجوال طوال ساعات الليل. ولهذا استدعى أغلب حكام الولايات الحرس القومي (قوات عسكرية مسلحة تابعة للولايات) في مساعدة قوات الشرطة في السيطرة على شوارع المدن. لقد كان مستوى أعداد المشاركين في الاحتجاجات الجماهيرية كبير جداً، وحالة الفوضى لم تشهده المدن الأمريكية منذ نصف قرن من الزمان (أيام التحرك الجماهيري ضد التمييز العنصري في ستينات القرن الماضي). وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن الذين لم يتعظوا من تجارب التاريخ فإنهم يدانون بإعادة عجلته.
وها هي الولايات المتحدة التي لم تطبق القانون بالمساواة على جميع المواطنين هم الآن يعيدون مآسي ثورة الزنج السابقة. فهنالك نظامين للعدالة القانونية في الولايات المتحدة: أحدهم للمواطنين من البشرة البيضاء وآخر للمواطنين من البشرة السوداء. فمع أن ذوي البشرة السوداء يشكلون 14 بالمائة من السكان ولكنهم يشكلون 40% من القابعين في السجون. فالقضاء الجنائي يحاسب الأسود بأقصى العقوبات بينما يعفي الأبيض لنفس الجريمة المرتكبة أو يخفف العقوبة عليه. وحقاً قال رسول الله (ص): أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وفي النظام الأمريكي، دائماً ما يكون الشريف هو الأبيض والضعيف هو الأسود. فلم ينفع وصول مواطن أسود (باراك حسين أوباما) إلى رئاسة الجمهورية في الحد من هذه التفرقة العنصرية في تطبيق العدالة الجنائية، وفي المساواة في الفرص وفي التعيين والوظائف، وفي السكن، وفي تقديم الخدمات في المدن.
إن ما يدعو إلى الأمل بأن التغيير هو قادم لا محالة هو أن جيل القرن 21 (millennial generation) هو مختلف تماماً عن جيل آبائه. لقد أبدعوا في هذا التحرك المناهض للتميز العنصري القابع في قلوب آبائهم. فهؤلاء من طينة مختلفة إن صح التعبير، فهم يؤمنون بالمساواة بأقصى مستوياتها، فليس هنالك في قلوبهم مشاعر تفرقة بين البشر حسب اللون والقومية والدين والمذهب وحتى الاختلاف في التوجه الجنسي. وكما قال الإمام علي: لا تقصروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم. فكانت الجماهير المشاركة في الاحتجاجات في عموم مدن الولايات المتحدة ليست مقتصرة على الزنوج (لأن القضية هي قضيتهم أولاً) بل كان المتظاهرون من ألوان مختلفة، بل إن الأغلبية كانوا من البشرة البيضاء، ومن النساء والرجال. وهذا ما أحدث صدمة كبيرة في الوعي المجتمعي لدى الشعب الأمريكي، فلم تكن قضية تخص الزنوج بل هي عامة، ونداء الاستغاثة الذي أطلقه (جورج فلويد) الذي يطلب فيه التنفس مست قلوب الجميع على اختلاف خلفياتهم العرقية والدينية والأثنية.
ما حدث اليوم من تصريح لوزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر الذي خالف فيه قرار رئيسه ترامب والذي أكد فيه بعدم تأييده لاستخدام الجيش لقمع الاحتجاجات الواسعة التي تشهدها البلاد. ورأى إسبر أن اللجوء إلى خيار تدخل قوات الجيش في تطبيق القانون هو الحل الأخير، وهذا ما يخالف وجهة نظر ترامب الذي دعا إلى التدخل العسكري لفض الاحتجاجات التي تشهدها أمريكا حالاً. وتصريح وزير الدفاع في عرف التاريخ السياسي الأمريكي يعتبر بحد ذاته تمرد للمؤسسة العسكرية على أوامر القائد العام للقوات المسلحة. وهي المرة الأولى التي يحدث فيه مثل هذا التمرد والعصيان. ويمكن أن يعتبر هذا العمل بمثابة “انقلاب القصر” حيث فقد فيه ترامب سيطرته على جنرالاته، ولا أعتقد أنه من الآن سوف يكون لقراراته وزن في واحدة من أهم مؤسسات الدولة التي لها تقدير واحترام كبير لدى الأمة. وزير الدفاع – الذي هو مسؤول مدني – إنما ينقل رأي العسكريين في وزارة الدفاع. وقد صاحب تصريح أسبر (وزير الدفاع الحالي) رسالة من (وزير الدفاع السابق في حكومة ترامب نفسها) الجنرال ماتيس، الذي يحضى باحترام كبير في المؤسسة العسكرية وهو رمز من رموزها، أنتقد فيها بشدة سلوك الرئيس الأمريكي ترامب وتصرفاته في التعامل مع الأزمة، ووصفه بأنه “خطر على الدستور”. ولعل هذه الرسالة ستكون واحدة من أهم وثائق الفكر السياسي الامريكي التي حول الرئاسة والدستور. وبحق فإنها رسالة تاريخية، وهذا نصها:
لقد شاهدت أحداث هذا الأسبوع التي تتكشف ، بأنها غاضبة ومروعة. كلمات “العدالة المتساوية بموجب القانون” منقوشة في دائرة المحكمة العليا للولايات المتحدة. هذا بالضبط هو ما يطالب به المحتجون. إنه مطلب عام وموحد – يجب أن نكون جميعًا قادرين على العمل به. يجب ألا يشتت انتباهنا لعدد قليل من المخالفين للقانون. الاحتجاجات هي ممثلة من قبل عشرات الآلاف من حملة الضمير الذين يصرون علينا أن نلتزم بقيمنا – قيمنا كأفراد وقيمنا كأمة.
عندما انضممت إلى الجيش ، قبل حوالي 50 سنة ، أديت قسم اليمين لدعم الدستور والدفاع عنه. لم أحلم أبداً بأن أرى القوات التي ستؤدي نفس اليمين ستُأمر تحت أي ظرف من الظروف بانتهاك الحقوق الدستورية لمواطنيها – ناهيك عن تقديم مظهر غريب للقائد العام المنتخب تقف معه القيادة العسكرية جنبًا إلى جنب.
يجب أن نرفض أي فكرة بأن مدننا هي “ساحة معركة” يُطلب من جيشنا النظامي “السيطرة عليها”. في الداخل، يجب ألا نستخدم جيشنا إلا عندما يُطلب منا ذلك ، في حالات نادرة جدًا ، من قبل حكام الولايات. عسكرة مددنا ، كما شهدنا في واشنطن العاصمة ، تخلق صراعًا – صراعًا زائفًا – بين الجيش والمجتمع المدني. إنه يقوض الأساس الأخلاقي الذي يضمن وجود رابطة موثوقة بين الرجال والنساء في الزي الرسمي وبين المجتمع الذين أقسموا على حمايتهم ، والذين هم أنفسهم جزء منه. يقع الحفاظ على النظام العام على عاتق الدولة المدنية والقادة المحليين الذين يفهمون مجتمعاتهم على أفضل وجه ويكونون مسؤولين عنها.
إن التعليمات التي قدمتها الإدارات العسكرية لقواتنا قبل غزو (نورماندي) ذكّرت الجنود بأن “الشعار النازي لتدميرنا … كان” فرق تسد “. ردنا الأمريكي هو” في الاتحاد هناك قوة “. يجب أن ندعو إلى تلك الوحدة للتغلب على هذه الأزمة – وأنا على ثقة بأننا أفضل من الساسة عندنا.
دونالد ترامب هو أول رئيس في حياتي لا يحاول توحيد الشعب الأمريكي – ولا يتظاهر حتى بالمحاولة. بدلا من ذلك يحاول تقسيمنا. إننا نشهد نتائج ثلاث سنوات من هذا الجهد المتعمد. نشهد عواقب ثلاث سنوات بدون قيادة ناضجة. يمكننا أن نتحد بدونه ، بالاعتماد على نقاط القوة الكامنة في مجتمعنا المدني. لن يكون هذا سهلاً ، كما أظهرت الأيام القليلة الماضية ، لكننا مدينون بذلك لمواطنينا. للأجيال الماضية التي نزفت الدماء للدفاع عنما وعدناهم به، وما وعدنا به أطفالنا.
يمكننا أن نجتاز هذا الوقت العصيب بحال أقوى ، مع شعورنا المتجدد بالهدف والاحترام لبعضنا البعض. لقد أظهر لنا الوباء (كورونا) أن جنودنا ليسوا فقط مستعدين لتقديم التضحية القصوى من أجل سلامة المجتمع. فقد كان الأمريكيون في المستشفيات ومحلات البقالة ومكاتب البريد وأماكن أخرى وضعوا حياتهم على المحك لخدمة مواطنيهم وبلدهم. نحن نعلم أننا أفضل ممن إساءة استخدام السلطة التنفيذية التي شهدناها في ميدان (لافاييت في واشنطن). يجب أن نرفض ونحاسب من هم في السلطة الذين يسخرون من الدستور. وفي الوقت نفسه ، يجب أن نتذكر نداء ملائكة الضمير الذين لمح لهم لينكولن هم الأفضل ، وأن نستمع إليهم ، بينما نعمل على الوحدة فيما بيننا.

أحدث المقالات